الإجهاض الثقافي بين الرقابة وحرية التعبير
بقلم : مختارعيسى
ليس التالي إعادة طرح قضية قديمة ؛ لكن واقع الحال الدولي والمحلي يفرض قرع أجراس التنبيه الإلحاحي لخطوراتها في مجتمع السموات المفتوحة والسيطرة الميديائية لقوى الشر العالمية ، و بروز أدوات الجيل الرابع من الحروب .
ليس من وجع حارق يعانيه المثقف، أو المبدع إن شئنا التخصيص، في عالمنا العربي – إن ضيّقنا الحيوز الجغرافية – أوعالمنا الثالث – إن أفسحنا للعوامل الجيوسياسية مجالا أمدى – يداني إحساسه القاتل بالإجهاض الثقافي – إذا جاز التعبير – ليس درءا لفضح اجتماعي، يتوارى منه عن الأنظار ويُخشى من تبعاته، بدفن جنين غير مرغوب فيه، ولكن – وهنا مكمن المأساة – قد يكون الجنين/الطفل مأمولا ومنتظرا بعد شوق سنوات طوال، ثم يكتشف المثقف أن عليه اغتيال جنينه في رحم العملية الإبداعية ذاتها، وفي خفاء دائما، خوفا من بطش الآلة الجهنمية المسماة الرقابة، وما يترتب على شهادتها حضور المولود، والإنماء والإطلاق وسط فعاليات المجتمع، من تحريك عجلات المدفع السياسي، وربما الأمني، ليدك الناص مع نصه في معقله، ومن ثم فإن المبدع – إن كان شاعرا مثلا – وبعد معاناة المخاض الإبداعي قد يبادر هو بإطلاق النار من مسدسه، أو على الأقل يتحسس قصيدته كلما سمع كلمة (رقابة)، مستحضرا مقولة «غوبلز» الوزير النازي الأشهر، التي يؤكد فيها بوصفه وزير إعلام النازية وحارس توجهاتها الفكرية ومنطلقاتها العقدية، تحسسه مسدسه كلما سمع كلمة (ثقافة).
القضية تتجدد أطروحاتها بأشكال وطرائق تتباين وتتشابه ؛ ما إن تخفت حينا حتى تصعد إلى سطح الجدل المجتمعي بحوارقها وتشابكاتها وقد يراني البعض متشائما، أو مغرضا في وصف الرقابة، مع أني لا أرى – من وجهة نظري – أن هناك خلافا جذريا على ضرورتها، بشرط أن تتعدل وظائفها وأساليبها، بما يتناسب مع المتغيرات العالمية المتسارعة في الكون الألكتروني، أو القرية الكونية، وأن يتراجع القائمون الحاليون على أمرها – أي الرقابة في أغلب تجلياتها – إلى ما وراء المشهد الثقافي الذي يصر كثير من متصدريه على التشدق بمقولات حرية التعبير وحق الاختلاف، ومن ثم لا يلقى أمرها لأولئك التحنيطيين التثبيتيين المجابهين لكل تطور وإبداع يخالف ما ألفوه، والذين يتوهمون أن القبض على القصيدة، أو القصة، ولا نقول مبدع أي منهما، متلبسة بالقضية أو الرأي، أو الموقف، يمثل لونا من ألوان الأمان المجتمعي، والضمان السياسي الذي يتصورونه وفق تصور ساذج قطعا، فضلا عن أولئك الذين يظنون أن الأولى بالتقييد والمنع والمصادرة هم من يستخدمون عقولهم، وأن مصفاة الرقابة قد تمت برمجتها على تمرير الجسد – والأنثوي في معظم التمارير- والحجر على العقل، وإيقافه أمام الحواجز الجمركية كحقائب السفر، ومن ثم يكون التفتيش العشوائي لتسديد التقارير بمصادرة كتاب، أو تحريض على كاتب، أو تقديم صاحب فكر إلى المحاكمة.
حال الرقابة العربية مأساوية من زوايا عدة، فهي تمارس دورها القمعي أحيانا كقوات مكافحة الشغب، وأحيانا أخرى يظن القائمون عليها أنهم منسلكون في نظام بوليسي كالمباحث الجنائية، وفي أحيان أخرى، وربما أقل كثيرا، تلعب دور مباحث الآداب، أو هي تتمترس وراء هذا النهج لتصادر كل الأفكار العارية، والصريحة كما تصادر أشرطة الخلاعة، وإن كان الملاحظ في فترات القهر السياسي والقمع الأمني للأيديولوجيات أنها تغض الطرف عن هذا الدور الأخلاقي، المهم ألا يمر العصب الفكري العاري من آلات الضبط دون إطلاق صرخة تحذير، أو إدانة رأي، أو الإشارة إلى مؤامرة مضحكة كاتهام قصيدة مثلا بمحاولة قلب نظام الحكم، أو إحالة نص إبداعي إلى السجن المؤبد، إن نجا من مقصلة الإعدام الرقابي.
ولعل السؤال الأجدر بالحضور في هذا الإطار يدور حول البحث عن الغاية من الرقابة، وقد يبادر متعجلون باتهام السؤال وطارحه بسذاجة الرؤية، لكن زاوية الرؤية هذه – بافتراض سذاجتها – تحتم مناقشة الدوافع المجتمعية لترخيص السلوك المنظم أحيانا، والعشوائي أحايين، في ما تقوم به سلطة من السلطات، أو جماعة، أو فرد، من مراقبة الآخر.
ما من شك في أن لكل مجتمع قيمه، وعاداته، وأسس بنائه الفكرية والأخلاقية، وفق ما ارتآه – كمجتمع – وارتضاه من دساتير وقوانين، رغم خضوع هذه الدساتير والقوانين، شأنها شأن كل ما هو بشري إلى منطق التغيير، وإن تباعدت فتراته – لملاءمة متغيرات ومواكبة مستجدات على صعد مختلفة، وما من شك في أن هذه الأسس تمثل معيارية ما، ينبغي الاحتكام إليها في مراقبة النشاط الإنساني، صيانةً للجماعة من اعتداء الفرد على رضاءاتها، لكن هذه المعيارية – ويا للأسف – تغيب تماما عند المراجعة الرقابية، فبدلا من الاستناد إلى دستور وقانون، يكون تحكم الرقيب الذي ينصب من نفسه – رغم ما قد يثار عن جماعية اللجان الرقابية – حاكما وفق ذائقته الخاصة، فيأتي تعامله مع النص الإبداعي، فضلا عن الناص، وفق مفهوم استئثارية الحكمة واحتكارية الفهم الذي أشرنا إليه آنفا.
على المجتمع – فيما ينادي بالتزام قواعده وقوانينه – التحديد الصارم لمواصفات، ليس الرقيب فقط، ولكن المراقب (بفتح القاف) كذلك، وألا تظل الرقابة المجتمعية وأدواتها المباحثية تتعقب الكتاب والمفكرين، كما تتعقب مهربي الأموال، ومروجي المخدرات، وهاتكي ستر الاقتصاد، بمعنى أن درجات الرقابة ومستوياتها وأدواتها يجب أن تتفاوت، فلا يتم معاملة حامل المسك كنافخ الكير، ومن ناحية أخرى فإن منطق الإقصاء والنفي والمصادرة، خصوصا في مجتمع السماوات المفتوحة، والشبكة الدولية العنكبوتية (الانترنت) لم يجعل من المناسب تطبيق (الحجر الصحي) على الفكر، صيانة للمجتمع من الجراثيم الفكرية!