الأمن العقلي والفلسفة
بقلم كه يلان محمد
ماهو متداول في وسائل الإعلام والخطابات السياسية، والإقتصادية هو عبارات الأمن القومي أو الأمن الغذائي وأخيراً فتح قوس المعجم لمصطلح الأمن البيئي أيضا.مع الإقرار بما لهذه المجالات من الأهمية على مستقبل الأمم وإسهامها الحضاري وتعافيها من وبيل الأزمات،لكن من الواضح أنَّ النجاح لايُكتب للمشاريع الحضارية إذا لم يحظِ الإنسان بالأولوية في أجندة العمل.وماذا يمكنُ أن يعملهُ البشر غير التدمير ،والإساءة في التقدير ،دون الأمن العقلي .ربَّ متسائل عن المراد من معنى المصطلح؟ بعيداً عن الإلتفاف والغبش التعبيري فإنَّ المقصود بذلك هو حسن إدارة المرء لحياته أياً كانت الظروف والتخلص من الوهم والمناعة ضد التدجين بأشكاله المتنوعة.إذا كانت الأدوية والوصفات الطبية هي ماتحمي الجسد من الإفتكاك عندما تنتشرُ العدوى أو يلم به المرض فإنَّ صحة العقل تكمنُ في نشاطه المستقل،والتحرر من الوصاية،والتخفف من إرث الشعارات الخلاصية التي لاتكرس إلا التبعية.عليه فإنَّ تنفس العقل خارج الأسيجة الشائكة يستدعي الإهتمام بالمجال الفلسفي،ربما الرتابة التي نعانيها فكرياً والتشنج في الفهم، والتخبط في نفق الخيبات ،وتبخيس قيمة الحياة.كل ذلك ماهو إلا نتيجةُ لإقصاء الفلسفة من البرامج التعليمية وغيابها في النصوص والإصدارات الثقافية والأدبية بالمقابل فإنَّ الفلسفة العملية صارتْ مادةً أساسية في الروايات الأجنبية ومن المناسب هنا الإشارة إلى سلسلة إرفين د.يالوم كذلك فإنَّ ماقدمه الروائي الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا في عمله “لاتقولي إنك خائفةُ” ترجمةُ لفلسفة الإرادة لدى نيتشه.إذاً فإنَّ الحس الجمالي يكملُ البعدَ التأملي في النصوص الإبداعية يقولُ فيتغنشتاين:إنَّ على المرء أن يكتبَ الفلسفة مثلما يكتب القصيدة.
الرهان الفكري
كانت الفلسفة إلى وقت قريب محاصرةً بالغموض والتعقيد، والإشتغال بالحقل الفلسفي ظلَّ متاحاً لمن أوتى حظاً في إدراك المفاهيم الشائكة، وتمت ممارسة التفلسف بوصفه مجالاً مُغلقاً على صفوة القوم.وهذا ما أحدث شرخاً بين مفهوم الفلسفة والحياة اليومية علماً أنَّ هذا النشاط العقلي كان من صميم الحياة لدى كبار الفلاسفة اليونانيين وقد دأَب سقراط على نحت أسئلته في الشوارع ويبدأُ بالحوار مع المقابل ويعينُ بهذه الطريقة على ميلاد الأفكار التي تدور في رأس المارة. واستخفَ تلميذه أنتستنيز من ضروب الفلسفة التي تدق معانيها ولايفهمها البسطاءُ.ورث الرواقيون منهج سقراط في تأسيس رؤية فلسفية غير منبتة عن هموم الإنسان العادي المسكون بالأسئلة المؤرقة بشأن المصير والخوف من المجهول ناهيك عن الحنين إلى الماضي.ودور المؤثرات الخارجية في تصاعد الإنفعال،وخسارة الطمأنينة الداخلية ، والعقل الخالي من الإنفعال كمايقول ماركوس أوريليوس هو قلعة ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه. يقعُ المسعى الفلسفى لدي الأبيقوريين أيضاً داخل هذا الإطار وفهم ما دعا إليه أبيقور بمبدأ اللذة بالخطأ وفي الحقيقة لايجوز إلتماس اللذة حسب رأي فيلسوف الحديقة إلا ضمن مراعاة الحكمة كما يعتقدُ بأنَّ غياب الألم هو أصدق أنواع اللذة. إذاً تكمنُ أهمية الفلسفة في تخفيف آلام الروح وتحديد الآليات التي تحسن نمط الحياة وبذلك يكونُ وقع أزمات الواقع أقلَّ حدةً على النفس لاسيما إذا نجحت الفلسفةُ في إصلاح العقل وغربلته من الأفكار الخاطئة لأنه”كيفما تكن أفكارك المعتادة تكن طبيعة فكرك” على حد قول الفيلسوف الروماني إبكتيتوس.
وصفة عملية
ومن المعلوم أنَّ هذا المنحى التطبيقي في التعاطي مع الفلسفة قد سلكهُ عددُ من المفكرين المعاصرين.لعلَّ آلان دوبوتون هو من أبرزهم إذ ماقدمهُ في كتابه “عزاءات الفلسفة” يؤكدُ دور الفلسفة في تفادي الوقوع بمطب الأوهام والتشنجات العقلية.وبدوره يحاولُ لوك فيري في “أجمل قصة للفلسفة” الإبانة عن جدلية التواصل والإنقطاع في تاريخ الفلسفة لافتاً إلى العلاقة القائمة بين صيرورة الحياة والفكر.وعلى المنوال ذاته يشتغلُ الباحث المغربي سعيد ناشيد ساعياً إلى قراءة معطيات الحياة على ضوء الفلسفة العملية وترجمة المفاهيم الفلسفية إلى حياة.أخيراً قد أضاف عنواناً جديداً “الوجود والعزاء” إلى مشروعه الفكري حيثُ يريدُ من خلال مؤلفاته بلورة ثقافة فلسفية لمواجهة خيبات الأمل.وحماية العقل من الإنسياق وراء الأفكار المحبطة وهذا يفرضُ العمل على دعم الأمن العقلي خصوصاً عندما تأخذ الأزمات والكوارث بتلابيب البشرية. يرسمُ ناشيد إنطلاقاً من مسيرة الفلسفة معيقاتٍ أساسية للقدرة على الحياة فالجهلُ عند سقراط يعادل الشقاء والبؤس كما أنَّ الخوف هو مصدر التعاسة لدى أبيقور وبرأي سبينوزا تمنع الأهواء الحزينة القدرة على التمتع بالحياة.والإستلاب حسب فهم ماركس هو ما يؤدي إلى الإغتراب ويرى نيتشه بأنَّ أخلاق العبودية لاتنشأ إلا نتيجة غرائز الإنحطاط ويذهبُ فرويد بأن دوافع الموت تعمق العاهات النفسية أكثر وتحول الحياة إلى دوامة من الكوابيس.أما الوجود المزيف لدى هيدجر هو مايعيقُ ممارسة الحياة بينما يكونُ نمط التملك سبباً لسوء التعامل مع فرصتنا الوجودية برأي فروم.يتموقعُ صاحبُ “التداوي بالفلسفة” في صف فلاسفة الخيبة شوبنهاور،نيتشه ،فولتير ،كامو ،لوكرتتيوس.مبرراً موقفه هذا بماشهدهُ العالمُ من الإنهيار والكوارث جراء تغذية الآيدولوجيات الخلاصية للأمل بالحل الأخير والفوز العظيم فإذا بالإنسان أمام حقيقة وحيدة وهي أن الزمن الآمن لاوجود له والوعود ببناء مجتمعات مثالية راكمت من حجم الخيبات.إذاً فإنَّ إنتظار مايعدُ به السياسيون متوسلين بشعارات فلسفية أو دينية منمقة يضاعفُ من فعالية الأهواء الحزينة كلما تناهت إلينا كلمات السياسيين يجدر بنا تذكير بما قاله سقراط ” لايستطيع رجل شريف أن يطيل أمد بقائه في السياسة” مايعني أنَّ الأهم ليس وجود آمال عريضة بقدر ما أن نعيش جيداً وهذا يتحقق عندما نأمل أقل ونعشق أكثر على حد تعبير سبونفيل.ويؤمنُ سعيد ناشيد بأنَّ إمكانية الإستمتاع بالأشياء تزداد حين نتعلق بها أقل.فالحياة كما تقول ناتالي خوري الغريب تعشق من يعشقها ويزهد فيها في آن .
اللعبة
لايعتمدُ سعيد ناشيد في كتابه الأخير على النصوص والمفردات الفلسفية لمعالجة المعضلات الوجودية فحسب بل يستنبطُ الحكمَ من الأساطير والآثار الأدبية أيضاً حيث يرى في نصحية صاحبة الحانة لجلجامش خريطة طريق لحياة خالية من وهم الخلود.كما تقعُ على مقتبسات لعمر الخيام ومحمود درويش والمعري ويشيرُ إلى ما تتضمنهُ رواية “الطاعون” حول عبثية الألم والمأساة ويثير السؤال حول المعتقدات التي تغزو الأذهان إذ ما أن تحلُ الكوارثَ وتنتشرُ الأوبئة حتى يتمَ تفسير ذلك بإعتباره عقاباً من الطبيعة والقوة الخارقة.غير أنَّ أعدى أعداء الإنسان هو نفسه إنه الكائن الوحيد المعرض للإدمان ويفجرُ نفسه منتحراً وتصيبه لوثة التطرف.لذا فإنَّ الكارثة تضعُ العقل على المحك وهي إمتحان التنوير الأشد صعوبة بنظر المؤلف.ويضربُ بمأساة لشبونة الناجمة من الزلال المدمر مثالاً لتباين التأويلات بشأن الظواهر الطبيعية إذ أثار الحدث الجلل نقاشاً ساخناً بين قطبي الفلسفة فولتير وروسو فإنَّ ماتوصل إليه صاحب “كانديد” هو أنَّ الإنسان يعيشُ في بيئة معادية بالمقابل أراد روسو مواساة المنكوبين بوجود غاية كونية وراء نوائب الدهر. يذكرُ أنَّ الخيبة لاتعني الإستسلام بل هي دافع للعمل والإبداع ولولا خيبة جلجامش بنيل الخلود ما أبصرت ملحمته الأدبية نوراً.وبعدما يختبرُ محمود درويش هشاشة الحياة يكتبُ جداريته وينضجُ خطابه الفلسفي إذ يقول في ديوانه الأخير ” إنَّ الحياة هي إسم كبير لنصر صغير على الموت” يذكرُ أنَّ عبارات مستعارة من قصائد درويش هي عتبة لبعض المقالات التي يضمها الكتاب ويضمنُ ناشيد مقطعاً من قصيدة “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي ” في تضاعيف كتابه. يتقاطعُ درويش مع فولتير في إدراك جماليات البساطة إذا كان الأخير ينصحنا بحرث حديقتنا فإنَّ صاحب “أثر الفراشة” يوصينا بأحلام بسيطة .ونحن بصدد الحديث عن محمود درويش لابدَّ أن نشير بأنَّ عبارته “أنا لاعب النرد أربح حيناً وأخسر حيناً” وماتضمرهُ من نبرةٍ مرحة تذكرنا بصفاء الذهن لدى الفيلسوف الرواقي يوليوس كانوس الذي أصدر كاليغولا بحقه حكم الإعدام وعندما دخل عليه الحارس لإقتياده نحو المشنقة كان يلعب الشطرنج ومامن كانوس إلا أنْ عدَّ البيادق بهدوء تام وقال لصديقه أنا أتفوق عليك بنقطة إياك أن تغشني بعد موتي.إذاً فإنَّ الإستمتاع بالحياة يتطلبُ خفة اللاعب أو الراقص وتتمثلُ غاية الفلسفة العملية في تحقيق هذه الخفة وذلك بتخلص من الخوف الذي لايسدي إلا نصائح سيئة” ايلينا بورنر” ومن الحنين الذي ماهو إلا وجه آخر من الأمل،ومن الحزن المرضي وكل ذلك يستدعي الإهتمام بالحس الجمالي حتى لا يلمُ الجفافُ والقسوة بالمشاعر وعلينا أن نقتنعَ برأي سارتر بأنَّ حياة الفرد مشروع لايكتمل لكن هذه الحقيقة لاتمنع غرائز النمو من الفعالية إذا تمكنا من الإستمتاع باللحظة إلى أقصى درجة،ونظفنا العقل من شوائب الأفكار السقيمة.ولابأسَ أن نختمَ بكلام لوك فيري وهو يقولُ بأنَ كون المرء موجوداً إنما هو ضرب من السعادة بغض النظر عن المشاعر أو الرغبة