🟢 مسرحية “الموعد. كون”
🟢 جدلية البناء والهدم في الخطاب الذهني لمسرح مابعد الحداثة
🔷 نقد: محمد لمين بحري Mohamed Lamine Bahri
أولا- تجنيس العرض وتوزيع الأفكار
عن نص ل: غرازيب سيد احمد. وإخراج دين الهناني محمد جهيد.. إنتاج مسرح سيدي بلعباس . عرضت يوم 28 مسرحية موعد. كون..
غلب على المسرحية الطابع الذهني-بتصميم مابعد حداثي للأفكار وأدوات العرض مطروحة ..حيث استعمل فيها المخرج أساليب وتقنيات مابعد درامية. قائمة على البناء والهدم.. مستعملا لهذا الغرض الإضاءة والتعبير الجسدي السيكودراميين. لتأثيث الخطاب الذهني والعبثي. وهو تعدد تقني متجانس. رغم ثقله على الجمهور المشاهد.
ويمكن ملاحظة أن هذا العرض هو نسخة مابعد حداثية لمسرحية “في انتظار غودو” لسامويل بيكيت.
يستهل العرض خطابه بفكرة الانتظار. وتتساءل جميع الشخصيات (وجميعها ثنائيات)..في مابينها.. عن سبب الانتظار.. فيظن كل طرف بأن الآخر ينتظره.. فيتجه إليه ويصاحبه.. لكن يتضح أن الانتظار في حد ذاته هو من صنع مواعيدهم. (والموعد هو عنوان العرض) وعلاقتهم.. وأوهم كل طرف في الثنائية بأن الطرف الآخر كان ينتظر الآخر..لذلك فالأيهام الذي يهيمن على علاقات الشخصيات المجتمعة في شكل ثنائيات.. ينتقل بالعدوى إلى جمهور المتفرجين.
يستعمل المخرج أيضا أسلوب غروتوفسكي في اعتماد أقصى درجات الاقتصاد في تأثيث الخشبة.. التي بدت فارغة إلا من بعض المعالق المعدنية المدلاة بحبال.. كي تعلق عليها أقمشة بيضاء وسوداء . ستؤدي عبر مختلف أزمنة العؤض. وظيفة خلق أوهام شخوصية جديدة. وطبوع كوريغرافية إضافية.. لملء الخشبة بلعب جسدي مكثف شمل الأركان التسعة للخشبة. وتكثف الإيقاع الإيهامي أكثر باعتماد كوريغرافيا البيو ميكانيك.. في أداء الثنائيات الشخوصية التي يحكي كل منها قصة وفكرة تقاسمت زمن الغرض ومساحة الركح بعدة أشكال..
فمنها فكرة الممثلان المسرحيان.. المطالبان بإنجاز عرض مسرحي لعلاقة عاطفية جمعت فتى وفتاة. مجنونان. ويعانيان من متاعب في التعبير (الفتى) والتصرف(الفتاة)..
وفكرة زوجان مجنونان. يتوهمان إنجاب مولودة.. ستحل محل أخت الزوج المتوفية. التي قادت صدمة وفاتها أخاها (الزوج) إلى الجنون.. وتوهم أنه أنجب مولودة.. من المرأة التي صادفها أثناء لحظة الانتظار.. لكن المولودة الوهمية تموت نتيجة حادث ويتهم الزوج (المجنون) زوجته المتوهمة (التي صادفها أثناء الانتظار. العبثي) بأنها هي من قتلت ابنته (الوهمية) التي سماها على أخته المتوفاة. والتي تسببت في صدمة جنونه.
كما نجد في خلفية الركح. زوج من الرجال المقنعين. ويبدو من لباسهما أنهما طبيبان.. يتقاذفان تهما بسبب أن أحدهما تسبب في وفاة مريض. فتقاسمعا هذا الوهم الجنوني مع الثنائيات الشخوصية السابقة.. من الشخصيات. حيث تعيش كل ثنائية قصتها.. وتتقاطع القصص.. جميعا في نقطة خلق الوهم الذي يخترق الواقع. ويكسر المنطق.. ويكذب قوانين الطبيعة.. ويلقي بالثوابت المطلقة لدى الناس في سلة المهملات.. وهكذا تشكك كل ثنائية من ثنائيات الخشبة. في سلامة المنطق والعقل البشريين.
انطلاقاً من أول ثنائي (الديو المسرحي المكون من فتى وفتاة اللذان يتدربان على إداء مسرحية.. تحيل إلى الديو الثاني والثالث والرابع الذين يعيشون وهمهم بجنون).
وتنتهي المسرحية بنقد الحالة المسرحية. بوصف الوعي بماهو كائن وواقع من تردي.. وهي حالة واقعية تخبرنا في إيحائها الضدي بما يجب أن يكون عليه.. مما يحيل إلى فكرة نقدية قاسية.. مفادها أننا في الواقع نعيش حالة وهم. بالمسرح. من خلال الممارسات التي انتقدها الممثلان الأولان (الديو الأول المتكلم بالفصحى). في حين أنهما بعيدان عن روحه وأخلاقيات ممارسته كما يجب أن يكون.. ومع ذلك أكملا التدريبات على العرض. وقدما التحية للجمهور.. قبل الخروج من العرض الإطاري الفعلي لمسرحية (موعد. كون) التي شاهدها جمهور المسرح الوطني الذي أعاد الممثلون تحيته وإعلان نهاية هذا العرض الذي كان الأسلوب الاطاغي عليه هو المسرح الثلاثي الأبعاد (المسرح داخل المسرح) أو بالأحرى مسارح وموضوعات وأفكار تمت مسرحتها داخل المسرح) بعدة تقنيات أدائية.
ثانياً- مورفولوجيا العرض وتقنياته (التقسيم الشكلي)
لعل البارز في هذا العمل المسرحي. هو اعتماد المخرج في إيصال فكرته على تقسيم العرض. إلى عدة قصص ضمنية. فصل بينها بعدة طرق.. أولها.
التقسيم أو الفصل المتوازي. تارة والمتقاطع تارة أخرى والمتزامن تارة ثالثة.
في التقسيم المتوازي تم تقسيم الخشبة في البداية إلى قسمين.. مقدمة ووسط الخشبة وهي ساحة لعب الديو المتدرب على المسرحية. أما عمق الخشبة فقد تم تخصيصة للديو الذي يرتدي أقنعة ومآزر الأطباء. وكان هذا الديو يحاكي بيوميكانيكياً .. حركات الديو الأول المتموقع في وسط ومقدمة الخشبة. تارة ويحكيان قصتهما تارة أخرى.
وهو لعب متوازٍ لقصتين مختلفتين تشتغلان في اللحظ نفسها. مرة بالتزامن ومرة بالتعاقب.
كما شاهدنا تقنية الفصل بين الموضوعات والشخصيات بالإضاءة. الموضعية. التي تشتغل على التقسيم إلى لحظات زمنية تارة ومكانية تارة أخرى.
ثالثاً- الرؤية الإخراجية وإكراهات التجسيد
ما يمكن أن نلاحظه حول الرؤية الإخراجية
أنها تقوم على مبدأ البناء والهدم.. ذلك أن هذه الأنواع من التقسيم للعرض إلى مواضيع وحالات وأزمنة متفاصلة وأمكنة متباينة للعب تلك القصص المختلفة.. أقول بأن هذا التقسيم لا يدوم على حاله.. إذ تعمد الرؤية الإخراجية إلى بعثرته فتتقاطع القصص وتتداخل شخصياتها في الزمن والمكان.. مما يدفع الجمهور إلى إعادة تركيب منطق عرض في ذهنه.. ويركز على فكرة أن تقسيم وتوزيع القصص البشرية. في كل الكون متشابع في لحظة غير محسوبة. ومهما كانت القصص مختلفة فإنها تتقاطع في نقاط ما وحالات ما. مهما اختلفت الخصوصيات.. وأنا لحظة الانتظار التي نمارسها ما هي إلا لحظة سنتقاطع فيها مع حالات وموضوعات وذوات أخرى متزامنة وسابقة ولاحقة للحظة التي نحياها.. والتي لا قداسة فيها لمنطق ولا مركزية فيها لكائن ولا ثبات لنظرية في هذا الكون.. وقد جاءت قصص وشخصيات مسرحية موعد كون.. لتحكي قصصها المتوازية والمتزلمنة ثم المتقاطعة. لتحدثنا بشيء من هذه الأفكار.
ملاحظات.
-إن الجهد الكبير الذي بذلك المهرح في تقسيم العرض إلى مناطق ولحظات زمنية وتفكيره في طرق وتقنيات الفصل بين مواضيعه وأفكاره. ثم إزاحة تلك الفواصل لتتداخل المساحات واللحظات وممثليها.. لم يكن مرتبا زمنياً..
أي إن لحظة إزالة الفواصل بين اللحظات والأماكن ليتاخل ممثلوها لم تمن متعاقبة زمنيا للحظة الفصل التقني بينها.. مما حول لحظة الإيهام لدى المتفرج إلى لحظة إبهام وخلط.
ولو فصل المخرج مشاهده بالتقنيات التي أرادها.. ثم عمد إلى بعثرتها.. في لحظة ومرحلة لاحقة تعقبها لفهم الجمهور تقنية البناء والهدم.. والفصل والوصل بين المشاهد.
– تتجسد فكرة الجنون في العرض بعدة طرق متفاصلة.. لا يجمع بينها إلا موضوع الجنون .. وليس أدواته..حيث كان لكل ثنائي مجنون أدواته.. المنفصلة.. ولم تتواصل هذه الأدوات مع بعضها..
مما يشير إلى عدم وظيفية هذه الأدوات. وعدم خضوعها لمنطق البناء والهدم أو التواصل والتفاصل .. وبقيت تعمل باعتبارها مؤشرات لخصوصية الجنون حسب حالات جنونية معزولة لا يربطها فكريا بفكرة لسوى موضوع الجنون نفسه.
فمثلا للتعبير على جنون الطبيبين في خلفية الركح استعمل الأقنعة واللعب المتوازي في الخلفية.
وللتعبير عن جنون الزوجين في المسرحية العامية التي يتدرب عليها الثنائي الفصيح.. يعاني الشاب من حبسة في لسانه.. وعدم قدرته على النطق السليم وعلى النفخ بالوناته التي تملأ جيوبه..
ففي البداية يعجز على النفخ.. ومع تقدم أحداث العرض.. تبدأ قدرته على نفخ البالونات بالتحسن. مما يشير إلى حالة تطور فكري توازيها حالة تطور خطابي.. توحيان بنوع من النضج والتحسن. من جهة وعبثية نفخ وتفجير البالونات من جهة ثانية.
فيبدأ بنفخها وتفجيرها. لتنتقل عدوى نفخ البالونات للفتاة التي ترافقه باعتبارها الزوجة.
لكن هذا الحامل الدرامي تم بتره فكرياً. ولم يتواصل مع نظرائه من الحوامل لفكرة العرض. في بقية المشاهد. أي لم يكن مواصلة واستئنافا مكملا لها . با بقي مغلقاً في دائرة الإيماء.. ومعزولا عن التواصل مع فكرة الجنون في بقية خطابات العرض..
وهنا يمكن أن نسقط هذا التفاصل أو العزل التقني على مختلف أدوات العرض..
هل يعتبر فصل أدوات العرض.. وعدم تواصلها وتكميلها لبعضها منطقاً للعرض؟. وهل يكفي اشتراك اللوحات في الموضوع حتى تكون حبكة متسلسلة. دون أن تكون ثيمة مكررة بعدة طرق فحسب.؟
ختاما كان العرض في تعدد أساليب خطابه متلاعبا بمشاعر الجمهور.. مثيرا للتساؤل.. ودافعا للتفكير.. وهي ملامح المسرح الذهني مابعد الدرامي. الذي حاولت هذه القطعة المسرحية. مراودته بالتجريب التقني في مخاطبة الجمهور. الذي كان كثير التساؤل. بمختلف أطيافه ومستوياته وخلفياته الثقافية والفكرية.