قصة قصيرة
بقلم : محمد مصطفاوي………
خارج مجال الرغبة…….
قهقهات ترتفع في الأفق يطلقها تناغما مع هرولته في كل اتجاهات المكان..لعل منافذ القرية تسمعها..هو دأب على ذلك لحظة تجيء الحالة…حالة الانفلات من ذاته…تعيقه رمرات ..القندورة…..العتيقة المتأكلة من قدم الاصفرار و البلل و ايضا فضلات الأشياء عن الحركة…فيكاد الجسد الساقط ضعفا أن يسقط سقطة النهاية……؟؟؟..القندورة…تأبى تجاوز قدميه الحافيتين المخضبتين بالحنة…لا يتعثر…يعدو في شتى المسالك الترابية يمينا و شمالا…يضرب على أبواب الناس ..ينتفض الصبيان من حوله …لا شيء غير الحجارة و أكوام الرمل و الحصى و بقايا الأشياء تعلو فوق …شاشية..رأسه مع ارتفاع قهقهاته..؟؟؟؟ و الصوت يسابق المدى……
……..يا أهالي دشرة الزيتونة……وادي الحلوف سيثور اليوم أو غدا….هو نائم فقط نومة السلطان..سيغرقكم…جميعكم……الا من يخشاه حقا……لا أحد سيسلم من سلطة مائه الجارف الغاضب حتى أنا…. أها أها أهاااااااااا………
يبدو أنك لا تخشاه فعلا أيها الراقص قهقهة على حافة الواد…ثمة ما تراه من اعتقاد طافح بالانتشاء و بضرورة رانتصارك على سيول الواد يوما…..كنت وحدك تطرز ثياب التمني…تحيلها اذا ما فرغت منها الى روح شخص اخر…يتوثب….ينطلق…..يسعى ليغير ما كانت عليه مناطق الخيبة و انكسار العزيمة و فلتان القلب……أيها القاطن في أقاصي الدهشة المزروعة على طول حطوط القرية..هل ستتذكر في لحظتك هذه التي أنت تطرز قيها لبوسك الجديدة العتيقة سعي و كض من سبقوك الى اكتشاف ما لا يكتشف…أف ؟؟؟؟ وأف من خرافة التمني…من زمن بعيد لم تكن هكذا……كنت طريدا بلا سبيل رعلى حواف الواد….كتلة من الجوع و الضمأ و التيه تسير…….يأخذك القهر في أخر الوقت الى مرقد الطوب تتمرغ فيه وحيدا و بعد حين تهدأ الروح فيك……و الان يا هذا ترى ما فعل بك شيخك السعداوي…؟؟؟؟؟؟ حين ما كنت طفلا شاردا تترقب حلول أغسطس الحارق لتلقي بالبدن الواهن في قلب الواد و تغطس فيه بثيابك الرثة من فرط الولع…تنزعه و أنت داخله حتى لا يرى أقرانك الأطفال ضعف و رقاقة عظامك…..تعلو أصواتهم…..
…….الهواش أداه الواد…..الهواش..غرق…..الهواش…. مات…؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تغالب عفونة الماء الراكد الأسن سابحا و أنت تصرخ فيهم…….
……..الواد يديكم………يديكم انتم يا خوافين………؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ثم تتسرب مثل المارد و تظهر لهم….لحظتها يفرون بجلودهم من سطوتك الشقية……..لا أحد على حافة الواد غير…الشيخ السعداوي…..تجده قبالتك فاتحا حضنه لك…..يحملك قصبة مبللة يمسحها من ما علق بها من ماء و عفن و تراب الى حيث كوخه….يلبسك عباءة بيضاء مثل قلبه…..يبحث عبثا عن ما أدخره من طعام…لا يجد سوى قطعة صغيرة من رغيف يابس…يكسره. فتاتالا و يأتيك به…..يطعمك هذا الدرويش البائس..و.يسقيك من جرة طينية قديمة….يغرز أصابعه النحيلتين المرتعشتين في شعرك و أنت مستلقي على فراشمن جلد غنمي في جانب قصي من الكوخ…..يفلي هذا الشعر من بقايا الحشرات……و ترمقه بعينين حائرتين كأنك تراه لأول مرة….من سأل عنك يا هواش….سواه…..؟؟؟؟ لا غيره…الشيخ السعداوي…منذ وعيت بلا جناح و اليتم يصاحبك..و أنت تراه كما هو لم يتغير….أو خيل اليك ذلك…يطوف زقاق دشرة الزيتونة بعصاه…يضع على رأسه عمامة حمراء و يرتدي في كل مرة…قندورة…من بياض ناصع…..ما رأيت بياضا مثله…..لا يتحدث الا بكلمات غير مفهومة…لا أحد كان يعرف من أين جاء……دخل الدشرة من زمن بعيد بعيد جدا…..أو خيل لك ذلك…….منحوه ناس الزيتونة هذا الكوخ فأستقر به وحيدا كما ترى…..كان يملأ يديه حلوى يبعثرها على الأطفال..و كنت تسابقهم لالتقاطها…….اسأله الان….و ثورة الجوع و الدهشة و الضياع قاطنة فيك……نعم أنت سألته و كان يحدق في ملامح وجهك…….
…….منذ وعيت على هذه الدنيا…..يا شيخ السعداوي….و أنا بلا جناح..وجدت نفسي أمشي في أرض الزيتونة بلا أنيس و لا متاع و لا حضن أدفن فيه رأسي…….؟؟؟؟؟؟؟؟؟
يضع أصابعه على فمك حتى لا تسترسل و يجيبك بصوت متقطع…….
……..يا ولدي……أمك كانت أجمل عناقيد القرية…..بل لم يخلق لها شبيها في جمالها….على الأرض….كلها..أو يخيل الي ذلك…..وحده والدك من قطفها..أنا رقصت في عرسها الليل كله حتى خارت قدماي……أه…. أف…..و لكن لماذا أنت تريد أن تقلب مواجعي الان ؟؟؟؟؟
توددت له أن يتمم ما بدأ…..رفض…..كنت عنيدا صلبا كالصخر و قلت له….
……..وحق القبة الخضراء. التي جئت منها يا شيخ السعداوي أتمم……..
بهدوؤ ضحك…..و سألك بصوت خافت…..و من قال لك انني جئت من القبة الخضراء…؟؟؟؟؟؟؟؟..كنت تجيبه…….الجميع في الزيتونة يقول ذلك……..
أبتسم و راح يكمل………أمك طمع فيها كل ناس الزيتونة…..رفضتهم جميعا..والدك هو من سكن قلبها…ما أهتزت لما بذلوه لها من مال وذهب…..أختارت أفقرهم و أقربهم الى قلبها..كان فلاحا بسيطا شريف المنبت و رجل كلمة…..قاومت لاجله سلطة الشانبيط العطوي….الممتدة من مخارج واد الحلوف الى أقصى كوخ فيها…….كان أول من رغب فيها……ليضمها الى حريمه…..في البدء سعى اليها متوددا ثم متذللا…وضع بين يديها صناديق الذهب….صدته بكلمة كانت تسمع انذاك خافته قائلة له….
……الذئب لا يأكل الحرة ؟؟؟؟؟؟
و لكن الذئب لم يسكت..غمرته سيول الضغينة و ناس الزيتونة يا ولدي هواش أستوطنهم الخوف و مشت على جلودهم سياط الشانبيط فتجلمدوا مثل الصخر أو أصلب….. ..المال و السوط بين يديه المخضبتين بالدم و عرق الغلابى و هي عزلاء الا من عزتها و حبها العنيف لأبيك…….ما أشقى الطريق ؟؟؟؟؟ ظل يقاوم صمت القرية و جبروت الطامع حتى ظفر بها…و ليلة دخوله عليها……..يقطع الحكاية. في دروتها..و يلتفت اليك بقليل من الغضب……..و أنت عد الى الترعة..عهدتك تطيل العوم..لمادا جئت بك سريعا من الواد ؟؟؟؟؟؟ ..تنهض من قعدتك و ترمق الشيخ بنظرة تقطعت من سكين الفضول و الصوت هو الاخر يتقطع……..مادا جرى في عرس أبي ؟؟؟؟؟؟؟ادا لم أعرف نصف الحقيقة الاخرى سأعود و ألقي بنفسي في الواد ؟؟؟؟؟؟ يرجعك الى مستقره..يطأطأ رأسه و يردف……..شاء القدر أن يقضي ليلته سعيدا رغم قسم الشانبيط العطوي…بأن لا يفرح بها يوما….بعد وقت غير طويل…..حدثت الفاجعة أهتزت الدشرة لصراخ و زعيق أمك.صراخ أطبق الافاق..هرع الناس اليها و هي تلطم و تبكي بكل صراخ الكون تبكي….ثم تسقط…..مات رجلها مسموما من سم أفعى…..لدغته و هو منهمك في الحصاد…كانت مريم قد دهبت اليه لتسقيه ماء فوجدته جثة زرقاء ملقاة على السنابل……..و ناس الدشرة دهبوا يقتفون أثرها هنا و هناك…….وحدي أنا كنت أقف أمامها و هي تصرخ و تولول من هول الفجيعة….و أصرخ….نعم كنت أصرخ في..ناس الزيتونة…..
………الأفعى بينكم….يا ناس دشرة الزيتونة…..لا بر لها و لا بحر هناك..صمتكم سيولد ألف أفعى و أفعى اخرى…لا تدعوها تبكي حدها….لا تتركوا مريم وحدها…..تبكي و تلطم…أغرسوا سكين اليقين في قلب الخديعة……..
……بهت الناس مني…..بل هناك من لعنني يا هواش يا ولدي…بصقوا في وجهي…..اولاد الكلب….لم أتحرك قيد أنملة….بل بقيت أصرخ في وجوههم و هم يرددون……السعداوي الدرويش…السعداوي المهبول………لم أشعر الا و المرأة المفجوعة تركض الى ناحية الواد…مطلقة الشعر…..و أنا خلفها اعدو….لم أقدر على المسك بها…. انفلتت من بين يدي و ألقت بنفسها الى مجرى الواد….من أعلى المنحدر….بدون اية صرخة..ما هي سوى لحظات و أنغلق المكان…لا أحد في الزيتونة بقي في بيته…تحلقوا جميعهم على حواف الواد…لم أر الا الأعناق المشرئبة و الأجساد المتراصة و المناكب المندفعة…و في الأسفل على مرمى البصر كان الجسد يعانق الماء الراكد الاسن منتهيا بعد أن أنتهى نصفه الأول قبلد بدم الافعي……؟؟؟؟؟ كنت أقف متسمرا منزوع الارادة..خائر القوى..كنت أرغب في انتشالها…….مزقتي صمتي و ضعفي مثلهم….ما أستطعت..سامحني يا هواش ..أنا الدي ركضت خلفها و كان علي أن أمنعها……سامحني يا هواش ..هل عرفت الان الحقيقة….و أنك عليك أن تفخر….بأمك مريم…..و هؤلاء الدين حجبوا عنك الحقيقة…..جبناء…مريم فتحت لهم باب اليقين…..كشفت فيهم الجزء الضعيف……فضلت أن يشرب الواد دمها…لا أن يفسده سم و دم الشانبيط و جماعته……..
؟؟؟؟؟؟؟
هدا ما فعله بك الشيخ الدرويش السعداوي…..أتدكره الان…..من لحظتها و أنت تخرج من كوخه ملتقطا الحقيقة و سكين الانتقام يقطع فلبك…..باحثا عن اثر الشانبيط. العطوي……و لا اثر…..صمت القرية يدفعك الى القهقهة و الرقص على حافة الواد…..أيها القاطن في أقاصي الدهشة المزروعة على طول و عرض الدشرة…..ستظل تطوف في زقاقها…..و تضرب أبواب الناس و تعلن لهم أن الواد سيثور اليوم أو غدا…..بعد أن نام نومة السلاطين……سيغرقهم جميعهم…..لا أحد في الزيتونة…..سيسلم من سلطة الماء الغاضب…..ها ها ها…..و قهقهات تمزق المدي………….
…….أستيقظ مفزوعا و القهقهة نفسها….بدأت تتضاءل….حتى أختفت…شعر بصداع يكاد يفجر رأسه…أندفع الى ناحية زر الضوء…و ضغط عليه..كان لا يزال ملتفا بالغطاء….القى بجسده على الفراش..راح يحملق في أرجاء الغرفة..و كأن به يكتشفها من جديد…..هي نفسها غرفته….الخزانة الصغيرة….و مشجب الثياب….بعض كتبه….و دفاتره….و شهادة التخرج من الجامعة..المعلقة على يمين الغرفة…..أبتسم رلاغم حدة الصداع…..سحب هاتفه النقال من المنضدة القريبة…منه….أدار بعض الأرقام..كانت في رأسه و هتف للطرف الاخر……..
………صباح النور…الحرقة……خلاص…لن افكر في الحرقة…..لا هجرة….يا خالد…..هل تسمعني…..أستيقظت هدا الصباح على حلم اسطوري…..؟؟؟؟ و كدت أن أغرق في وادي الزيتونة……بدلا من أن أنزل معك الى جزيرة سردينييا……اه اه..ههههههه أنتهى رصيدي……في المساء…..سأروي لك الحلم كاملا…………..هههههههه
خرج الى فناء المنزل بخطوات مبعثرة…..أنحنى ليضع رأسه تحت حنفية الماء….أنتعش.قليلا….قلص شيئا من مساحة الصداع……ثم رفع راسه و أتجه الى الباب الخارجي…..و صوت نسائي يتبعثر خلفه حتى و هو في فضاء الشارع…….
……أرواح…..أرجع أشرب قهوتك يا ولد….؟؟؟؟؟؟ كان صوت أمه……أستعجل في السير….. قطع طريقا مزدوجا…..دلف الى باب المقهى..أخد ركنا جانبيا……ناديى على النادل…و هو يضربالمقهى بقطعة حديد نقدية على الطازلة…….المقهى كان عامرا بالشباب…..أصوات مختلطة….و الدخان سحابات تغطي ملامحهم…..جدبه أحد العناوين في صدر احدى الجرائد كان يتصفحها أحدهم……….انتشال حثث أربعة حراقة من الساحل…………
أودع جرعات القهوة في جوفه و خرج مغادرا……..الفضاء الخانق…..في الطريق…..كان مثل ما يغنون………يأكلني الحوت……و لا الدود……و يضحك…يقهقه……….يمشي يسابق الضحكات….في زحام بشر المدينة…….مثل اي رقم حالم……و كفى……كان يقهقه……وسط طرقات المدينة……