إقتربت الجميلة من الجسر..الشعر فحمي طويل و إعتدال القوام يغري..و الصيف في شراسة موسمه..تأملت بدقة عجيبة فراغ المكان من حوله..أطلقت بعض الزفرات و هي تشخص بعيدا في أعالي المدينة..تسللت يدها الناعمة داخل حقيبتها الجلدية..إستقرت لحظات ثم سربت منها منديلا أنيقا بدت تجفف به بقع العرق المتكسرة على الوجه و على إمتداد العنق..أعادته بطريقة متعبة إلى مستقره..ثم عبثت نفس اليد مرة آخرى بالأشياء الصغيرة…تحسست شيئا ما له قيمة كانت تجاهد في البحث عنه….ضغطت عليه بشدة..جذبته إلى رحابة الفضاء..إلتفتت في كل إتجاه بحذر متلصص ثم ألقت به على الأرض…خطوات و كان جسد الأنثى يلامس حديد الجسر..الهدوء سيد يفرض لحظته..الزمن كان غروبا…طأطأت رأسها..هناك في الأسفل غير مجاهيل النهر الملوث الراكد…و دون أن تشعر وجدت قابلية عناقه أكبر من سنوات العمر التي مضت فابتسمت..استعدت للحركة..وضعت قدميها في نصف الإطار الحديدي…حلق نصفها الأعلى في الهواء..تماشيا مع شكل الحركة أزاحت كل ثقلها من موقع قدميها الثابت..و قبل أن تنزل الكتلة البشرية نحو الأسفل صدرت منها صرخة شقت رتابة تلك الليلة الشرسة… في صباح صخب المدينة…اعترف الأهالي للشرطة التي جاءت لتحقق بعد انتشال الجثة المنتفخة المغطاة الراسية على حافة الطريق..إنهم شاهدوا من شرفات منازلهم المطلة على الجسر ورقة تهتز بصورة مريبة فوق الأرض مباشرة بعد سقوط ما لشيء غريب..و قالوا إن موعد النشرة الإخبارية منعهم من الخروج.و رفع أحدهم صوته و سأل..نريد أن نعرف لماذا اختارت هذه التعيسة هذا التوقيت بالذات..؟! أجابه الآخر بعدم إكتراث للأمر قائلا. كانت ليلة شرسة الحرارة….! في مساء هدوء المدينة…دعت مؤسسة التلفزة كبار مثقفي و خبراء البلد لنقاش مفتوح حول ما حدث..كان أول من شاهده الشعب و تناول الكلمة أحد علماء البيئة.الذي ظهر يعدل في بدلته ثم قال أنا شخصيا أحمل التلوث البيئي ما حدث لمفجوعة الجسر..الأمر لم يعد يطاق يا سادة…الأسمنت المسلح دمر كل شيء…و المصانع خربت الطبيعة فعلا…يجب أن نخرج بتصور يحمي البيئة ..! و جاء دور خبير علم النفس الذي شكر المؤسسة على هذه المبادرة التاريخية ثم أعقب . أما أنا فأحذر المجتمع من ظاهرة..الحب المستحيل التي بدأت في الإستفحال في مجتمعنا..هذه نتيجتها…الكراهية طغت على الميثاليات..الرومانسية اختفت. يجب أن نفتح صدورنا لبعضنا…الحب هو الحل..و لا سواه…! ولما أتم كلمته…أخذ الكاتب الكبير الميكروفون..تنحنح قليلا و بنبرات صوت شاعرية قال… الذي حدث أيها الإخوة.. هو انقراض حقيقي للجمال…نعم.. الجمال…المنتحرة قيل إنها كانت جميلة جدا و من شأن هذا أن يهدد روح الإبداع في المستقبل..عن ماذا سنكتب إذا أختفى الجمال من حياتنا.؟! هل سنكتب عن الشعب..عن الخبز..عن البطالة..عن الفقراء ..ا إنها مهزلة..؟! و مع إنتهاء الندوة و نقاشها المفتوح…اقتادت إدارة التلفزة ضيوفها إلى مأدبة عشاء فاخرة..ثم غادروا مبنى المؤسسة في عربات خاصة نقلتهم إلى بيوتهم…. تداخلت الفصول..و مر عام على الحادث..و أقبل صيف آخر..في نفس المكان.و عند الغروب ذاته..عاش الجسر فاجعة آخرى مماثلة..مراهقة تتقدم بخطوات نحو الجسر ..تلقي شيئا ما على الأرض..و في لمح البصر يعانق الجسد صدر النهر…! في مساء غير هادىء ..خرج سكان المدينة إلى الشارع و هم يحملون لافتات عريضة كتب عليها…نطالب بهدم الجسر فورا…لا نريد الجسر…..ليسقط الجسر….! و لكن الحادثة أخذت مسارا خطيرا في غاية الغرابة..بعد سنوات ابتكرت الجميلات في المدينة أصنافا جديدة من الموت المستعجل أكثر تطورا من السقوط من على الجسر…و تاهت معالم ضبط كل الحالات لانتشارها بشكل سريع و رهيب.و نامت الثورة في قلوب الناس و معها نامت أيضا الرغبة في تحديد المواسم بشتى طقوسها..كل المواسم صيف يتجدد مع غروب كل ليلة….لا أحد أقنع الآخر بالبحث عن تلك الورقة المشبوهة التي كانت تتركها كل جميلة قبل أن ترحل..و ظلت المدينة تأكل الجميلات بشراهة