الانسان، هذا الكائن الأشد تعقيدا والأكثر غرابة وأهم المخلوقات في هذا الوجود على الاطلاق باتفاق العلماء والمفكرين على مختلف مشاربهم وتباين مذاهبهم، إذ الاجتماعيون يرون فيه حيوانا اجتماعيا، واللسانيون يصنفونه بالحيوان اللغوي، والعقلانيون يميزونه بالحيوان العاقل
، والبيولوجيون ولاسيما (الدارونيون) منهم يرون فيه حيوانا منحدرا من سلالة القردة، وهكذا ذهب فيه كل منهم مذهبه. وما يلاحظ أن كل تلك
الآراء والتوجهات على اختلاف مذاهبها تشترك في كونها ربطت الانسان بالحيوان وجعلت منه ظاهرة يمكن تعريفها وتحديد عناصرها من خلال ما يظهر منها أي من خلال مكوناتها الظاهرية المادية أو السلوكية، شأنها في ذلك شأن أي ظاهرة مادية أو بيولوجية أو اجتماعية أو ثقافية أخرى. في حين أن الانسان أعقد من ذلك وأشمل، وما يخفى منه أوسع أعمق مما يظهر. وهذا ما ذهب إليه المفكر والفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن، فسمى بالإنسان من ذلك التحديد الظاهري المادي إلى الحد العرفاني الروحي الأوسع والأشمل. وقد أحببت في هذه الاضاءة أن أقربكم من هذا التعريف الخاص المتميز والأصيل لسببين اثنين:
الأول: يتعلق بأهمية وخطورة الموضوع في حدّ ذاته كون وضع تعريف للشيء هو وضع حدود له ورسم معالمه فتتحدد بذلك الحد والمعالم أهمية الشيء ومكانته في هذا الوجود، وبالتالي إذا ربطنا الانسان بالحيوان أو شيئناه وجعلنا منه ظاهرة بيولوجية أو سلوكية أو صوتية وحكمنا عليه بما يظهر لنا منه ونعقله نكون قد جنينا على معرفتنا به وأغفلنا جزاء كبيرا من الحقيقة لمجرد قصورنا على ظاهر الأشياء وما تقدمه لنا حواسنا المحدودة بطبيعتها.
ثانيا: لأن التعريف الذي تقدم به الفيلسوف طه عبد الرحمن يعتبر استثناء وتميزا في عالم التعريفات الخاصة بالإنسان والنظر إليه، أين قرب الفيلسوف بين الانسان والعوالم الأخرى غير عوالم الوجود الانساني أو الحيواني وكشف فيه الجانب الخفي والعميق منه الذي يميزه عن الكائنات الأخرى ويسمو بماهيته إلى المراتب العليا والتي يحقق من خلالها ارتباطات متعددة تتجاوز الارتباطات الحسية المتعارف عليها. إذ يعترض الفيلسوف
طه عبد الرحمن على كل التعريفات السابقة للإنسان والتي يراها على اختلافها تشترك في صفتين اثنين، إحداهما (أنها تجعل الجنس القريب الذي يتحدد به الانسان هو الحيوان ) والثانية( أن هذه التعاريف السابقة تجعل من الانسان ظاهرة من الظواهر).
وقد لاحظ الفيلسوف أن كل صفة ترتكز على فرضيتين خاصتين ترتكز عليهما.
فالصفة الأولى :(مقاربة الانسان بالحيوان)، يرى بأنها مبنية على فرضيتين:
أولاهما: ” أن الموجودات على مراتب مختلفة “
والثانية: ” أن مرتبة الانسان تلي مرتبة الحيوان. ” على أساس أن الانسان يحدد بالحيوان وليس العكس.
ثم يضيف الفيلسوف بقوله:” فلإن سلمنا بإمكان ترتيب الموجودات، فلا نسلم بأنه يجب أن يدخل الحيوان لتعريف الانسان، إذ يجوز صوغ حدّ للإنسان تدخل فيه مراتب وجودية أخرى غير الحيوان، بل قد يستغنى في تحديده عن ذكر هذه المراتب السابقة.”
أما الصفة الثانية: وهي (جعل الانسان ظاهرة من الظواهر)، فإنه يرى بأنها تقوم أيضا على فرضيتين اثنتين هما:
الفرضية الأولى: ” أن كل الأشياء شيء مردود إلى الظواهر.”
الفرضية الثانية: ” أن الظاهرة عناصرها جلية بحيث يمكن ضبطها إن تحديدا لها أو تحكما فيها.” إذ أنه يخالف (الظاهرتية) في هذا الأمر ولربما يتعداها إلى الوضعية المنطقية التي ناد بها المفكر زكي نجيب محمود.
ثم يضيف موض
حا نظريته بقوله: ” فلإن سلمان بأن الانسان يمكن رده بكليته إلى جملة من العناصر الجلية المنضبطة، بل نعتبر أن عناصره الجلية تشير بالضرورة إلى وجود عناصر خفية من ورائها لا يمكن تحديدها ولا التحكم فيها وإنما يتفكر فيها ويعتبر بها، والشيء الذي يكون بهذا الوصف لا يكون مجرد ظاهرة بل يكون آية والأصل في الآية الواحدة أن تكون آيات كثيرة “.
وبناء على ما تقدم من تحليل ونقد للتعريفات السابقة والفرضيات التي قامت عليها، يقترح علينا طه عبد الرحمن تعريفا خا
صا أسس له من خلال مرجعياته الفكرية والعرفانية، إذ يقول: ” وقد ارتضينا أن نصوغ هنا حدّا للإنسان يأخذ بالامكانيين التعريفيين اللذين أتينا على ذكرهما، وهما: ترك مراتب الوجودية، والامكان الثاني اعتبار الانسان آية، بحيث يكون هذا الحدّ أوسع تعريف للإنسان وأقرب تعريف لمجالنا التداولي، وأصوغ التعريف كالتالي (الانسان هو الكائن الذي حمل الأمانة باختيار) “.
وكما هو ملاحظ وجلي أن المرجعية التي استند إليها الفيلسوف طه عبد الرحمن قرآنية الأصل والمذهب والآية الدالة عليها ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ” (72) من سورة الأحزاب.
إلا أن طه عبد الرحمان لم ينقل هذه الآية نقلا شكليا وإنما دلل عليها تحليلا ونقدا وأبرز ما يعيب التعريفات والنظريات السابقة من نقص وعيب، والتي رأى فيها القصور في النظر والعجز في رؤية الحقيقة كاملة والاكتفاء بالجزء الظاهري منها، والذي أدى بالحط بالإنسان إلى درجة الحيوان أو الأشياء الجامدة والمحسوسة وجعلت منه ظاهرة مادية محسوسة يمكن التعرف عليها والتحكم فيها بمجرد تحديد عناصرها الظاهرة وضبطها. لكن الواقع والتاريخ عبر كل هذه العصور والمحاولات والتطورات العلمية أثبت عجزه أمام ضبط الظاهرة الإنسانية وتحديد ماهيته والتنبئ بسلوكياته.
إذ أن الفيلسوف طه عبد الرحمان بعد أن ارتقى في تعريفه بالإنسان من مرتبة الحيوان أو الظاهرة إلى مرتبة الآية ، أي من (الانسان الحيوان) و(الانسان الظاهرة) إلى (الانسان الآية) فتح بذلك عوالم كثيرة على وجود أو موجودات ع
ديدة وأوسع ، فالإنسان الآية في الأصل نصفه مادي ونصفه الآخر روحي وبالتالي لكل جزء عالمه وعوالمه التي تتحقق بموجبها كينونته الإنسانية والروحية ، فيقول طه عبد الرحمان في هذا السياق شارحا: ” ولا يخفى على الناظر في هذا التعريف أنه يجعل للإنسان الآية وجودين اثنين:
احداهما نسميه بالوجود القريب، وهو وجود الانسان بصلة مع انسان مثله، وهذه الصلة تنشئ عالما مستقلا بذاته وهو عالم الانسان، وتحصل هذه الصلة بواسطة عملية نصطلح على تسميتها (بالمؤانسة). ” ويرى الفيلسوف أن هذه الخاصية تقوى وتضعف بحسب سيرورة وديمومة عملية المؤانسة أي التواصل مع الانسان والاحتكاك به.
أما الوجود الثاني: فيسميه بالوجود البعيد ” وهو وجود الانسان في صلة بالكائنات الأخرى … وهي عوالم غير الانسان، وتحصل هذه الصلة هي الأخرة بواسطة عملية نصطلح عليها باسم (المعالمة) بحيث لا عالمية للإنسان بغير معالمة” ويرى في هذه الخاصية أيضا عدم الثبات وليست قارة وإنما تقوى وتضعف بقدرة التواصل مع العوالم الأخرى غير الانسان.
وبالتالي فإن الانسان الآية التي يتحدث عنه طه عبد الحمان يتميز عن بقية الكائنات الأخرى بصفة أساسية كما يقول وهي (الحمل الاختياري للأمانة)، والتي عرضت على الكائنات الأخرى فرفضنها اشفاقا منها وحمله هو أصالة عن نفسه ونيابة عن بقية الكائنات، كما يقول الفيلسوف، وكما تدل عليه الآية.
لقد قدم الفيلسوف طه عبد الرحمان هذا التعريف بتحليلاته واستدلالاته كتمهيد لنظرية في المثقف، إلا أن هذا التعريف أو الحدّ
قد فتح عوالم واسعة وكثيرة رفعت من قيمة الانسان من حيوان متطور أو من مجرد ظاهرة يمكن التحكم فيها وضبها إلى مراتب عليا تجمع بين عوالم العالم الفيزيقي والعالم الميتافيزيقي بالكشف عن الانسان الآية.