إضاءات:
من قانون الدولة إلى دولة القانون !
بقلم : منير مزليني
إن تغيير النظام في المجتمعات لا يكون بمجرد اتخاذ قرار أو تغيير في القوانين حتى ولو كانت هذه الوثيقة هي الدستور نفسه، ما لم تسبقه تغييرات تربوية حضارية أخرى تؤسس له. وقد رأينا في تجربتنا السابق كيف أن النظام ولأجل تغيير نظام الحكم من نظام اشتراكي شمولي أحادي الحزب، إلى نظام ديمقراطي رأسمالي متعدد الأحزاب، قام بين عشية وضحاها بانقلاب على نفسه وخرج بدستور جديد مناقض تماما للذي سبقه، ودون سابق انذار أو تمهيد أصبح ما كان مجرم مباحا، وما كان محرم صار حلالا ! فوجد المجتمع نفسه حينها أمام الأمر الواقع بعد أن انتهجت معه سياسة الأمر الواقع ” أرميه في البحر يتعلم العوم !” . وكاد المجتمع أن يغرق بأكمله لولا كلمة سبقت ! . وهذا الوضع هو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (قانون الدولة)، أين يقصد بالدولة هنا السلاطة الحاكمة فقط لا الدولة بمفهومها الاصطلاحي أي رقعة جغرافية تمارس فيها طبقة حاكمة سلطة على شعب وفق نظام معين بموجب عقد اجتماعي متفق عليه. وفي مثل هذا النوع من الدول أو المجتمعات التي يحكمها قانون الدولة تكون الطبقة الحاكمة فيها أسما من القانون، ويكون القانون فيها مهما علا اسمه أداة في يد السلطة ووسيلة لتثبيت حكمها والسيطرة على المجتمع وتحقيق رغباتها وأطماعها. تماما مثلما كان الوضع في المجتمعات الوثنية القديمة أين كانت الالهة أداة لاستعباد الناس ووسيلة للسيطرة عليهم في حين أن هذا الاله الوثن أقل شأنا لدى الحاكم من أصغر رغباته وشهواته. ولذلك كان الانتهازيون يسارعون للانضمام إلى السلطة والدخول تحت مظلته حتى يحموا أنفسهم من هذا القانون الموضوع، بل ويستغلونه لتحقيق أطماعهم ورغباتهم . وهذا ما رأيناه تمام عند كل المجتمعات المتخلفة وحكومات الدول الضعيفة المستبدة.
أما دولة القانون، اصطلاحا تعني دول المؤسسات وبشكل تقني أكثر دقة، هي دول الشخص المعنوي في مقابل الشخص الطبيعي، وبالمفهوم السياسي، هي دولة لا تزول بزوال الرجال. و تحقيق مثل هذا النوع من الدولة لا يكون بطبيعة الحال بمجرد اتخاذ قرار سياسي أو تعديل في الدستور أو تغييره حتى، بل هو مشروع حضاري كبير إن لم نقل هو الهدف الدنيوي الأسمى للبشرية على وجه هذه الأرض.
وذلك لا يتأتى بمجرد اتخاذ قرار سياسي أو توقيع على وثيقة، وإلا لما صعب على الأمر على المجتمعات المتخلفة أن تنسخ دساتير الدول المتطورة المتقدمة لتصبح هي الأخرى مثلها، لكن هيهات! فالأمر أكبر وأعمق من ذلك بكثير ، والحضارة لا تكتسب بجرة حبر على الورق وإنما هي قناعات فكرية ومعتقدات حضارية وثقافات سلوكية تتربى عليها أجيال وأجيال، يضعها ويخطط لها أحبار الأمة من صفوة المفكرين والساسة المثقفين. ومن هذا المنظور تكون المدرسة والنظام التعليمي هو الحجر الأساس في بناء المجتمع، والذي يكون مرهونا بطبيعة نظام التعليم وفلسفته المنتهجة، والتي تفرض سؤالها الحتمي : أي نوع من المجتمعات نريد أن نخرج للعالم ؟! وعليه فعملية استنساخ المناهج من الدول المتطورة، تعد عملية انتحارية وقتل جماعي للأجيال اللاحقة ، لأن المناهج في الأصل لا تستنسخ بل تستنبط من المجتمع ذاته، مراعية في ذلك طبيعته وثقافته وتاريخه، ولا يكون ذلك إلا بالحفر في أعماق جذوره الحضارية حتى نتمكن من استخلاص منهج تعليمي وتربوي يكون مناسبا وناجعا وفعالا.
ويجب أن يتوسع هذا البرنامج التربوي والحضاري إلى كافة شرائح المجتمع بمختلف طبقاته ابتداء من الأسرة إلى المدرسة إلى المؤسسات الاجتماعية والثقافية والاعلامية الفاعلة والمؤثرة، مثل التلفزيون والمسرح والسينما وتشجيع مراكز البحث والمفكرين والمثقفين والمبدعين على انتاج أفكار تنموية وحضارية واعية تعمل على تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة ، من خلال التثاقف مع كل ما هو ايجابي من الثقافات الأخرى، وتحديث وإعادة قراءة الموروث الثقافي والحضاري بشروطه الثابتة والمتحولة ومعاصرته مع الواقع المتجدد دون الاخلال بجوهره الثابت والتلاعب بهويته الراسخة.
قياسا على كنا نريد أن نعطي للمرأة حريتها وحقوقها لا ننسخها رجلا بل نراعي طبيعتها ونحافظ عليها ونمكنها من حرياتها وحقوقها كاملة دون تشويه في صورتها أو تغيير في طبيعتها الانسانية والفطرية ، والدور الأهم ليس في أن نجعل منها رجلا أو مثل الرجل، بل أن نعرّف بقيمتها كامرأة ودورها في المجتمع الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو الاستمرار بدونه. وهو ما تحاول بعض الأوساط المشبوهة والمظللة تغييره، فجعلت من المرأة مركزا في مقابل مركزية الرجل وهي لعبة مغالطة، وجعلت من المرأة تبدو في أفلام المغامرات والعنف بصورة عنيفة ومقاتلة شرسة خرجت بها عن طبيعتها السوية وفطرتها الجميلة. هذا المثال نضربه لا للخروج عن الموضوع، بل لنقرب الصورة أكثر ونبين مدى خطورة الموقف. لذا فالاهتمام بالجانب التربوي والتعليمي بالغ الأهمية والخطورة في بناء المجتمعات ، والأصالة والتأصيل فيه مفتاح حل لغز هذه المعادلة . كما يجب أن تؤدي كل الأوساط المعنية الأخرى دورها في تحقيق وترسيخ هذا التربية والتعليم الحضاري، مثل التلفزة والسينما والمسرح ومن يقف وراءهم من كتاب وفنانين ومثقفين. لأن العامل الأساس في تحقيق دولة القانون ليس القانون في حدّ ذاته بل الشخص الذي يطبقه.
أما العامل الثاني الذي وجب الاهتمام به لتحقيق دولة القانون يكمن في تحقيق العدالة واستقلالية القضاء، وذلك بوضع نظام قضائي محكم مع تأطير جيد لقضاته والعاملين به وتحقيق ما يجب أن يكونوا عليه من كفاءة ونزاهة في مقابل استقلالية تامة وتنزيه عن المطالب الحياتية. لأن العدالة هي العمود الفقري الذي يقف به المجتمع والمؤشر على مدى تطوره .
والعامل الثالث يتحقق بحرية الرأي والصحافة وبناء منظومة اعلامية قوية كفيلة بأن تحقق الأهداف الرئيسة والنبيلة لإعلام الحر والنزيه. وذلك لن يكون إلا إذا كان التأطير التعليمي والتربوي قوي والعدالة قائمة. لأن حرية الرأي والفكر لا تعني الانفلات والغوغائية الفكرية اللامسؤولة، فالحرية تقابلها المسؤولية حتى تثمر الأفكار ويتحقق التوازن والاستقرار. وحرية الصحافة والاعلام لا تعني الانغماس في التباهي و احتكار الرأي والتعصب للخطوط المسطرة. لأن معرفة الحقيقة حق للمواطن وليس ملكا للإعلامي أو حكرا على قدراته أو تصوراته أو أفكاره المسبقة. فالإعلام رسالة نبيلة وأمانة ثقيلة يجب تبليغها لصاحبها مهما كلف الثمن ، ولذلك تسمى بمهنة المتاعب أو المصاعب ! .
إن جرى وتحققت هذه العوامل الأساسية الثلاث في المجتمع فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الخميس : 04مارس 2021