إضاءات:
ثنائية الوجود..!
بقلم : منير مزليني
لو نتمعن في الكون وفي الوجود جيدا لوجدناه يتألف أو أنه يشتمل على أفكار عديدة ومظاهر متعددة ومختلفة لاتعد ولا تحصى .. ولو دققنا الإمعان أكثر لاكتشفنا بأن كل تلك الظواهر والأفكار هي مجرد تفرعات تندرج تحت ثنائية شاملة ومتقابلة يمكن أن نطلق عليها ثنائية الوجود والتي تلخصها جدلية البقاء بين ثنائيات تبدوا لنا متناقضة، متضادة ومتصارعة من مثل : الخير والشر ، العلم والجهل، النور والظلام ، الحق والباطل ، الصدق والكذب ، الجمال والقبح ، الصواب والخطأ ،،، الخ …
ولأن الانسان أكثر الكائنات جدلا، أو كما قال مارتن هيدغر : ” الانسان هو الكائن الذي يحمل غبن وجوده ويتساءل عن ماهيته، وعن ماهية هذا الوجود، هو قلق إزاء كل ذلك وفي بحث دائم .. “
ولأنه كذلك فهو شديد الريبة ومشكاك بطبعه ومتحرص من الوجود المتناقض، أو من هذا المجهول الذي يحدق به ولا يعرفه.. وقد نظر الانسان إلى هذه الثنائية المتناقضة والمتضادة الماثلة في الكون والراسخة في الوجود على أنها معادلة بقاء وصراع حياة لا بد من الوقوف فيها على خيار . هذا الخيار الموقف الذي سوف تحدده هذه الشكوك العقلية وتمحّقه التجربة العملية ، الأمر الذي أفضى إلى انقسام الرأي إلى موقفين متباينة ومختلفة، ترجمت إلى أفكار ومعارف متقابلة و متضادة ، راحت تعمل كل واحدة منها على الربط بين اثبات أحقية وجودها ودحض الرأي المقابل !
فمثلا في مسألة الذات والموضوع .. فالفلاسفة المثاليون يرون بأن وجود الأشياء مقرون بإدراك الذات لها ، وإن لم تدركها فهي غير موجودة ! . فيما ذهب الفلاسفة الواقعيون للقول بأن الأشياء موجودة في الواقع وهي مستقلة عن الذات سواء أدركناها أو لم ندركها .
وقس على ذلك بقية الاتجاهات الفلسفية في مختلف الموضوعات الفكرية والفلسفية المطروحة ، وعلّ أبرزها ، الصراع الواقع منذ فجر الفكر البشري بين التوجه العقلي المثالي والتوجه المادي التجريبي فيما يخص الوجود الميتافيزيقي أو عالم النومين كما يسميه الفيلسوف الألماني (كانت) صاحب كتاب ” نقد العقل الخالص ” .أين رفض أنصار المذهب المادي التجريبي العالم الميتافيزيقي وأنكروا وجوده ، فيما خلص الفلاسفة المثاليون والعقليون على أن عالم النومين أو الميتافيزيقي موجود إلا أنهم يرون أنه لا جدوى من البحث فيه لأن العقل لا يستطيع أن يلم به ويعرف خباياه.. كما لم تسلم الحضارة الاسلامية من هذا الصراع والنزاع بين المفكرين والفقهاء ممثلا في النزاع الذي كان قائما ولازال بين أهل النقل وأهل العقل ، الأشاعرة والمعتزلة وقد بلغ هذا الصراع أشده حدّ التصفية الجسدية .. وقد شمل هذا الصراع كل الحضارات الشرقية والغربية في مختلف العصور ابتداء من الحضارة الاغريقية واليونانية وصولا إلى التيارات الفكرية والفلسفية الحديثة والمعاصرة وإن غلب عليها الطابع المادي التجريبي.
ولم تنحصر هذه الظاهرة في الجانب الفلسفي والفكري فحسب، بل تفشت العدوى في كل المجالات الاجتماعية والفنية وبات الانسان لا يثبت وجوده إلا على أنقاض الطرف الآخر، والفنان لا يثبت فنه إلا بدحض تجربة مغايره ، رغم أن سماء الفن والفكر تتسع للجميع فقط كن نجما واسطع !
إلا أن الانسان يصر على هذا الصراع ويرى في الثنائية الوجودية صراع بقاء حتمي، في حين أنه مشكل من تركيبة خاصة ومتميزة تكمن خصوصيتها وسرها في هذا التقابل المتكامل المتضاد. والذي يلخصه الشيخ العاشق، الصوفي الكبير ابن الفارض إذ يقول :
تجمعت الأضداد فيهــــا لحكمـــــة * فأشكالهـا تبدوا على كـل هيئــة
صوامت تبدي النطق وهي سواكن * تحرك تهدي النور غير ضاوية
و المثقف إن لم يكن جزءًا من الحل فهو جزء من المشكلة ،ولأن الطبيعة لا تؤمن بالفراغ فإن الحياد من قبل المثقف لا يعد فراغا، بل هو موقف سلبي في مقابل موقف إيجابي .
والانسان مجموعة من المواقف تبدأ من اختيار بدلة العيد عند الصغر وصولا إلى اختيار رأي أو اتجاه في الحياة عند مرحلة النضج .. وبين الاختيار الأول والاختيار الثاني مسافة كبيرة من الجدل والتفكير!
فبينما كان الاختيار الأول أقرب إلى النزعة الفطرية والغريزية، جاء الاختيار الثاني من صميم العقل والتفكير، وهذا العقل ذاته أوصلنا في مرحلة متقدمة من النضج والشك المنهجي إلى التعرف على الرأي القائل، بأن الموقف الانساني ليس وليد الارادة الحرة الواعية المحضة وإنما هناك دوافع ذاتية داخلية كامنة فينا وأخرى خارجية مؤثرة علينا مبعثها اللاوعي واللاشعور و المحيط الاجتماعي هي التي ترسم خطواتنا وتحدد مواقفنا وخياراتنا التي نسميها مجازا حرة وإرادية .. وهو الأمر الذي يشكل عود على بدء فيما يتعلق بكون الانسان مركب من ثنائية متكاملة تظهر في عدة صور ،، الفطري والمكتسب ، العقل والغريزة ، الوعي واللاوعي، الشعور واللاشعور، الروح والجسد .. أي الانسان مؤلف من جزأين جزء مادي فيزيقي وجزء آخر معنوي ميتافيزيقي . إلا أن التوجه الأحادي والتعصب الفكري للرأي الواحد جرّ الانسان إلى هذا الشقاق الفكري والشتات الثقافي الذي أدى بدوره إلى هذا التمزق الحضاري، أين بات الانسان ذئبا لأخيه الانسان، ما ولد تلك المجازر البشعة وأشعل تلك الحروب القديمة والحديثة، المعلنة منها وغير المعلنة والتي راحت ضحيتها المبادئ الانسانية والقيم الجمالية والأخلاقية. فترجمت بعد ذلك إلى أفكار ومذاهب متطرفة تكفر بكل تلك القيم والمبادئ وتدعو إلى العبثية واللاأدرية .
فانصار الاتجاه المادي التجريبي لا يعترفون إلا بما هو واقع داخل دائرة الواقعي و ضمن حدود المعقول أو ما هو (معقلن) ويخضع للتجربة، وما يخرج عن هذه الدائرة ويقع وراء تلك الحدود فهو ميتافيزيقي وغير موجود، وهو وهم وسراب ابتدعه خيال الانسان، وهو وليد الخرافات والأساطير القديمة !
وقد ولّد هذا الفكر تيارا متطرفا من الملحدين والمتعصبين للفكر المادي الذين أدخلوا كل ما هو موروث وتراثي من عادات ومعتقدات وعقائد سابقة وعلى رأسها الدين أو المعتقدات الدينية في خزانة التهميش والنسيان، وحكموا عليها بالجهل والتطرف ورأوا فيها عائقا يحول دون تحرر الفكر وتقدم العلم وانطلاق العقل.
في حين، وفي الاتجاه المعاكس، وبحكم معادلة التقابل والتضاد، القائل” بأن التطرف يولد التطرف”، فقد ظهر تيار أو تيارات دينية متطرفة ترى في العقل قصورا وفي العلوم حدودا تحيل دون الوصول إلى الحقيقة الكاملة والمعرفة المطلقة التي يقر بها الدين، والتي ترى في عالم الوجود وهم وسراب وكذبة كبيرة يعيشها الانسان وينخدع بها وأن كل ملذات الدنيا الفانية زائلة، وكل العلوم الدنيوية مضللة ولا طائل منها وكل الحقيقة في العلوم الشرعية أو الدينية وفقط ، وهم أيضا قد أغلقوا على من يخالفهم الرأي داخل خزانة الضلال والجهل وحكموا عليهم بالكفر والجحود !
هذا الصراع في حقيقة الأمر وكما يقره التاريخ، كان وليد المجتمعات الغربية في القرون الوسطى واشتد مع بزوغ عصر النهضة أين احتدم الصراع بين الكنيسة وأنصار الفكر وتحرر العقل من خرافات وهيمنة الكنيسة، وغطرسة رجالات الدين الذين تحالفوا مع الملوك ضد شعوبهم للسيطرة عليهم واستعبادهم باسم الدين وحد السيف .. والأمثلة على ذلك كثيرة مثلما رأينا مع جاليليو ونيوتن مرورا بجون جاك روسو وفولتير وصولا إلى كارل ماركس وغيرهم .
وقد انتقل هذا الصراع بعد الفترة ما بعد الاستعمارية (ما بعد الكولونيالية) إلى العالم العربي والاسلامي بمنهجية مغالطة وطرح تحصيلي لا أصالة فيه ولا علاقة لهم به، وهذا لا ينفي عدم وجود اشكال أو تخلف، بل إنما هناك مشاكل كثيرة، ولكنها ليست بالمقدمات نفسها حتى تؤدي إلى النتائج ذاتها!. فنحن نخوض حربا وهمية بالوكالة لصالح مستعمر الأمس بتأثير التبعية، أو كما يقول المفكر والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي “المغلوب مولع بتقليد الغالب ” .. فنحن لا نمتلك التقدم العلمي ولا التطور الفكري الذي يمتلكه الغرب ولا نعيش هذا الصراع الديني الذي عاناه العلماء الغربيون مع كنائسهم ورجالات دينهم. وبلغة الاستدلال والمنطق فالمقدمات (الأسباب) ليس نفسها حتى تؤدي إلى النتائج ذاتها. بل هي مختلفة عنها وقد تكون معاكسة لها تماما !
وعليه فالمسألة تحتاج إلى (كوجيتو) عربي اسلامي خاص وأصيل، يعمل على فهم الوضعية وإعادة طرح الاشكالية من جديد وفق المعطيات الواقعية المعيشة والخاصة، من قبل مفكرين أصلاء مبتكرين لا مقلدين، يؤمنون بذواتهم وبأن العبقرة والابداع ليس حكرا على أمة دون أخرى ، وبأن الاشكالية ليست في تحصيل الأفكار بل في تأصيل الفكر والتحرر من التبعية الفكرية، لأن العبد لا يفكر خارج مملكة سيده وإلا نهشته الكلاب المفترسة المتوحشة !
وبمفهوم بسيط قاله المثل العربي قديما : ” ما حكّ جلدك أفضل من ظفرك !” .
الخميس : 28/01/2021