العَرَبِيَّةُ
بين فاعليَّة “اللِّسان” وواقع “اللُّغة”
بقلم الدكتور : وجيه فانوس
ثمَّة دوافع عديدة تساهم في تشكيل بعض أبرز الأمور التي تجذب الباحثين العرب وسواهم للخوض في موضوع اللُّغة العربيَّة؛ بيد أنَّ الغالب في هذه الدَّوافع، يكمن في المحافظة على طبيعة اللُّغة وتطويرها؛ وفاقاً لما تمليه المعاصرة من أمور، التي لعلَّ من أهمها ضرورة تعزيز مجالات التَّواصل باللُّغة العربيَّة.
إنَّ العربيَّة ليست، عند العرب، بصورة عامَّة، مجرَّد وسيلة معرفة؛ هي أيضاً، هُويَّة قوميَّة؛غير أنَّ ملاحظة الواقع، والمتابعة البحثيَّة لتاريخيَّة اللُّغة، تثبتان، خلافاً لما قد تذهب إليه كثرة من الهواجس السَّائدة، أن لا خوف على اللِّسان العربي من الانقراض؛ ولا خوف، تالياً، على العربيَّة من ضعف التَّواصل عبرها أو التَّعبير بها. تَظْهَرُ الأدلَّة على هذا في أنَّ العرب، ومعهم معتمدي العربيَّة في التَّعبير والتَّواصل، ما برحوا جميعاً، منذ آلاف السِّنين، ومع اختلاف الأمكنة والأزمنة وتعدُد العصورِ والثَّقافات وتبياينها،يستخدمون اللِّسان العربي من غير ما عُجمة فيما بينهم.
جرى اعتماد اللِّسان العربي، في مرحلة ما قبل الدَّعوة المحمَّديَّة إلى الإسلام؛ وكان اعتماده، كذلكَ، في مرحلة بدء نزول القرآن على النَّبيِّ العربيِّ والسَّعي، تالياً، إلى نشر الدَّعوة الإسلاميَّةِ والانطلاق بها في أرجاء الدُّنيا. وكان لهذا اللِّسان العربيُّ، عينه، الأثر الإيجابيّ الفاعل، في تحقيق الاختلاط الاجتماعيّ والثَّقافيّ والسّياسيّ عبر العصور الثَّقافيَّة المتتالية كما المُتغايرة؛ رغم انهيار سلطة الخلافة وتوزُّع البلاد بين ملوك وسلاطين وأمراء. وظلَّ هذا اللِّسان العربي، إيَّاه، ناشطاً وفاعلاً، بل ورائداً،خارجَ مناطقِ الجغرافيا العربيَّة التَّقليديَّة، كما في بلاد الأندلس وفارس والتُّرك وسواها، مساهماً بقوَّة في النُّهوض المعرفيِّ والأدبيِّ والتَّفاعل الثَّقافي مع ناسٍ من خارج الجغرافيا العربيَّة التَّقليديَّة. وصمد هذا اللِّسان العربيّ، في جولات الصِّراع مع الحملات الصَّليبيَّة التي قام بها أوروبيون على المشرق العربي، من أواخر القرن الحادي عشر وحتى الثُّلث الأخير من القرن الثَّالث عشر؛ وصولاً إلى محطَّات التَّراجع السِّياسيّ والمعرفيّ والثَّقافيِّ العربيِّ. وبدء محطَّات الوعيِّ العربيِّ بالثقافة الغربيَّة ومعارفها، انطلاقاً من الحملة الفرنسيَّة على مصر وبلاد الشَّام من المنطقة العربيَّة (1798-1801م)، بقيادة نابليون بونابرت؛ مروراًبمراحل الدُّخول الغربيِّ والغزو الغربيِّ المنظَّم سياسيّا واقتصاديّا وثقافيَّا واجتماعيَّا لهذه المنطقة في القرنين التَّاسع عشر والعشرين؛ انتهاءً، في هذه الأيام، بما وصل إليهِ الأمر، عبر العولمة السياسيَّة والمعرفيَّة والثقافية الراهنة.
وضع العربُ، طيلة عهود تاريخهم المعروف، الأدب بالعربيَّة ودوِّنوا مصنَّفاتهم بالعربيَّة كما وثَّقوا أعمالهم ووقائع عيشهم بالعربيَّة؛ ومن جهة أخرى، فقد جرى اعتمادُ العربيَّة، منذ النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، لغة رسميَّة من على منابر منظَّمة الأمم المتّحدة وفي ملفّاتها الإداريَّة؛ كما وُضِعَت، عبر الحقب التَّاريخيَّة القديمة منها كما المعاصرة، مؤلَّفات عديدة ومتنوّعة بالعربيَّة وترجم كثير من المعارف والعلوم إلى العربيّة من لغات كثيرة أخرى. ولقد شهدت العربيَّة، في كلِّ هذا وبه، تنوُّعاً في لهجاتها وتعدُّداً في تعابيرها، كما عرفت تجديداً في كثير من مصطلحاتها وحتَّى مفاهيمها، ومع كلِّ هذا، ظلَّ هذا اللّسان العربيُّ صامداً، بل نابضاً بحبويَّة العيش والثَّبات والمعاصرة. ومن هنا من الممكن، إن لم يكن من الحتميَّة العلميَّة الموضوعيَّة، التَّفريق بين ما هو “لسان عربي” وما هو “لغة عربيَّة”!
إن لفظة “اللُّغة”، تأتي من جذر (ل غ و) وهذ يفيد الكلام المتغيِّر والمتبدِّل؛ وهو أمر من طبيعة اللُّغة، بأن تكون مواكبة للعصر، متفاعلة معه ومستجيبة لمتطلّباته. أمَّا “اللِّسان”، فيفيد، من هذا المنظور، النِّظام المبدئيّ أو المنهجيّ الذي تتظهَّر به “اللُّغة”. فاللّسان، تالياً، هو الوجود الثَّابت، والذي لا بدَّ من ثباته ليضمن بهذا الثَّبات،كما بارتباط اللُّغة به، حريَّة تغيُّر اللُّغة، أي حريَّة استمرار حيويَّتها وحقيقة جوهر فاعليَّة وجودها. ولعلَّ مما يؤكِّد هذا الأمر أنَّه لا ذكر لفظ “لغة” في النَّص القرآني؛ بل إنَّ النَّص القرآنيّ يذكر “اللِّسان”؛ وشتَّان بين ما هو “لسان” وما هو “لغة”. ويشير النَّص القرآنيّ، في مواقع عديدة منه، إلى أنَّ القرآن أنزل بلسان عربي ثابت. والمعروف أنَّ ثمَّة لغات عربيَّة ضمن اللِّسان العربي، تُنسبُ إلى قبائلَ عربيَّة تختلف في مواقعه سكناها الجغرافيَّة وربما في تكتُّل تجمّعاتها الإنسانيَّة؛ منها، منها،على سبيل المثال وليس الحصر، لغات “حِمْيَر” و”مُضَر” و”طَيْء” و”قُضاعة”. أمَّا النَّص القرآني فقد اعتمد فيه، ضمن اللِّسان العربي، لغة قريش.
واجهت لغة قريش، عبر وجودها أساساً تعبيريَّاً في النَّصِّ القرآني، أمرين متناقضين في جوهر وجودهما. يتمثَّل الأوّل من هذين الأمرين في أنّها بكونها لغة النَّص القرآني، صارت، وهي “لغة”، بمثابة “اللِّسان”؛ وهي، بحكم طبيعة وجودها ووظيفتها، ليست بلسان. ويتمثَّل ثانيهما في أنها بكونها لغة النَّاس اليوميَّة، جرى علىها ما يجري على كل لغة من ضرورات التّغيّر والتّنوّع والتّأقلم، بحكم ضرورة أن تكون اللُّغة مماشية لزمانها ومتطلبات عصرها.
إنَّ التعامل مع فاعليَّة وجود لغة قريش على أنها “لسان” و”لغة”، في آن معاً، أدَّى إلى بروز مشكلة! وهذا حقيقيّ ومنطقيّ وموضوعيّ؛بل هو من الأمور التي يؤيّدها البحث العلمي. وإنَّ جميع المحاولات النّظريّة والتّطبيقيّة، في مجال التّعامل اللّغوي، النَّظري منه كما العملي، لم تُجْدِ نفعاً في رأب الصَدع بين ما صار بمثابة اللِّسان في لغة قريش وما هو تطوُّر لغويّ مشروع وواجب في لغة قريش، وبات يعرف بأنَّه من لهجاتها أو عاميَّاتها؛ مثل لهجة أهل بلاد الشّام ولهجة أهل بلاد ما بين النّهرين ولهجة أهل بلاد النّيل ولهجة أهل بلاد المغرب. لقد بات ضمن كلّ لغة “لهجة محكيَّة” خاصة بكل منطقة أو حتَّى مرحلة أو حقبة زمنيَّة؛ وصار الأمر، في واقعه، مشكلة لا حل عمليَّاً لها.
أفرز هذا الواقع عدَّة أمور، لعل من أبرزها الخوف على لغة القرآن من الهجر أو الضياع أو حتَّى الغربة، إن لم يكن الزَّوال؛ فضلاً عن الخوف على معتمدي لغة قريش لساناً عربيَّاً، من طغيان تعدّد ما نتج عن هذا اللِّسان-اللُّغة من لهجات باتت تُعامَلُ، في بعض الأدبيَّات، على أنّها، تجاوزاً أو واقعاً، لغات؛ مثل “اللُّغة المصريَّة” و”اللُّغة الجزائرية” و”اللُّغة اللبنانيَّة” وسوى ذلك.
إنَّ التّخوّف من هذا الطّغيان اللّغويّ على واقع الأمَّة العربيَّة ومجالات عيشها، صار من الهواجس الملازمة لكل درسِ أكَّاديمي ولكل عيش عملي في مجال العربيَّة. وهذا، في واقع الحال، يقود إلى مشكلة لا إمكان لأيّ حلٍّ استراتيجيّ منطقيٍّ عمليٍّ لها. إنَّها، وبصورة عمليَّة، لا يمكن أن تبقى مشكلة؛ إذ ستُدخل من يتعامل معها، ضمن هذا مفهوم “المشكلة”، عوالم من السّفسطة والابتعاد عن الواقعيَّة العمليَّة والجدل وربما العبث؛ وكل هذه أمور لا طائل منها سوى الانقسام غير المجدي والشّقاق غير المفيد، ناهيك بالتَّخوين المتبادل وهدر الوقت.
من هنا تبرز ضرورة تحويل الموضوع من “مشكلة” تستوجب حلاَّ، إلى “قضيَّة” تستوجب تبنٍ لها وإيمان بها. من الضَّروري، تالياً، بقاء النَّص القرآني بالحال النّصيَّة التي ثبِّت بها نزوله، استمراراً للدّين بين النّاس؛ ومن الضَّروري، كذلك، تطوّر لغة قريش، استمراراً لحياة النّاس الذين يستخدمونها في عيشهم وتواصلهم وتحقيق تطوّرهم. والسّؤال المُلِحّ يكون، ههنا، في كيف يمكن لناس العربيَّة الاستمرار في التَّواصل عبر هذه اللُّغة، التي لا بدَّ من الاعتراف بحركيَّتها، والتي صارت، في الوقت عينه، لساناً، من الضَّروري الاعتراف بثباته، وهو لا يمتلك مقومات اللِّسان؟
أصْبَحَ مِن غيرِ المُمْكِنِ للوجودِ الإنسانيِّ المُتَحَضَّرِ، أن يعيش اليومَ بعضُ ناسِهِ في عُزلةٍ عن بعضهِم الآخر؛ فالمسافةُ بين التَّحضُّرِ الإنسانيِّ والتَّواصل الإنسانيِّ أضحت، بسببٍ من تَسَارُعِ التَّقدُّم في فاعليَّةِ وسائل التَّواصُلِ مقابلِ التَّباطوء في استيعاب المنجزات المعرفيَّة، أكثر اتِّساعاً في ما بينها! واقعُ الحالِ، إنَّ المتطلَّباتِ المعاصِرَةِ للعيشِ الإنسانيِّ لم تعد تَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ التَّلاقي العابرِ بين ناسها؛ بل باتت تفرضُ عليهم ضُروباً متعدِّدة من التَّعاون ومساحات أكبر من التَّكامل (7-24:Everitt). ورغم أنَّ القوَّة والسُّلطة ما برحتا فيصلاً أساساً في هذا المجال، يَفْرُضُ بهما القويُّ بعضَ ما عندَه على مَنْ هو أَقلَّ قوَّةً أو شأناً منه؛ وصارَ من هو أقل شأناً مِن سواه، يتقبَّلُغالِباً ما يقدِّمه له هؤلاء، بل وفي أحيان كثيرة يسعى إلى تَمَثُّلٍ له به؛ فيكون ثمَّة تابعٍ ومتبوعٍ، أو يكون ثمَّة مُنْتِجٍ ومُسْتَهْلِك. لذا، فإنَّ ميادين التَّعاون الجماعيِّ، كما فسحات التَّكامل الإبداعيِّ بين النَّاسِ، في مجالات المعاصرة الإنسانيَّة لوجودها المتحضِّر، ما انفكَّتا تفرضان ذواتها على الجميعِ؛ سعياً إلى تجاوز أسوار السَّيطرة، لتحلَّ مكانها مجالات التَّعارف المشترك والفهم المُتبادل بين النَّاس. إنَّه الطُّموح الجبَّار للخروج من ربقة ما يعرف بـ”صراع الحضارات”، وتناتُشِها في ما بينها ليبتلع الأقوى منها كلَّ ما هو أقلَّ قوَّة منه؛ (Fagan) (Bonney) (Widlanski) وصولاً إلى تلاقي الحضارات؛ ونهوداً، مِنْ ثَمَّ، إلى تكاملٍ ما في ما بينها، أو سعيَّاً إلى إبرازٍ لتمايُزٍ إنسانيٍّ تتحلَّى بها واحدتها في وجود الأخرى (Guerrieri) (Regan).
إن كثيراً مِمَّا تُنْتِجُهُ المعاصَرَةُ الإنسانيَّةُ الرَّاهنةُ، من معارفَ وتقنيَّاتٍ، على سبيل المثال وليس الحصر إطلاقاً، يحتاج، حُكْماً، إلى أسواقٍ واسعةٍ لتصريفه والعملِ على استهلاكه. ومن هنا يأتي أحد أبواب انتفاء العزلة بين أهلِ الإنسانيَّةِ؛ النَّاهدين، بحُكْمِ الغريزة أو الحاجة، إلى التَّقدُّم والتطوُّر والتَّجديد ومجاراةِ مناحٍ من المعاصرة. ولعلَّ ما تُبديهِ دنيا ما يُعرفُ بـ”تقنيَّة المعلومات” informatics أو informatique، راهناً، من سرعة التَّفاعلٍ الإبداعيٍّ والإنتاجيٍّ وخاصة الاستهلاكيٍّ، بين ناس المعاصرة، جماعات كانوا أو أفراداً، لخير ما يؤكِّد صحَّة هذه المقولة، وأفضل ما يُشير إلى حقيقة وجودها، بوضوح ماديِّ ومعنويٍّ لا لبس في أيٍّ منهما على الإطلاق.
تُحتِّمُ هذه الضَّرورة، للتَّلاقي بين ناس الوجودِ الإنسانيِّ المُتَحَضَّرِ في الزَّمن الرَّاهن، بروز حوار ثقافيٍّ بين هؤلاء النَّاسِ جميعاً؛ إذ ثمَّة خلفيَّات ثقافيَّة حضاريَّة ورؤيويَّة عقائديَّة أو معتقديَّة عند كلِّ منهم، أفراداً كانوا أو جماعات، تتطلَّب من كلِّ واحد منهم أن يعرف كيف يتعامل معها وبها وربما من أجلها، في سبيل تحقيق أمرين اساسين في هذا المجال. يتمثَّل أحد الأمرين في الحِفاظ على ما يُعرف بـ”الهويَّة الذاتيَّة”، أو ما يُمكن أن يسمَّى بـ”الخصوصيَّة الذاتيَّة للوجود”؛ في حين يتمثَّل الأمرُ الآخر بضرورة الانخراط في ما يُمكن أن يُعرف بـ”الهويَّة الجمعيَّة المعاصرة للوجود الإنسانيِّ”؛ فضلاً عن الإندماجِ المفروضِ بما يمكِّن أن يسمى بـ”الوجود الجَمعيِّ العامِّ للثَّقافة الإنسانيَّة المعاصرة”، وهي “جمعيَّة” يُنظر إليها على أنَّها شرطٌ لازمٌ لتأمين فاعليَّةٍ عمليَّةٍ ناجحةٍ لِما تُنْتِجُهُ المعاصَرَةُ الإنسانيَّةُ الرَّاهنةُ (3-7:Kuran). إنَّه حوار المعرفة والتَّعارف أكثر منه حوار الإندماج في الآخر والذَّوبان فيه؛ ويأتي، ههُنا،يأتي هذا مصداقاً لما ورد في الآية 13 من سورة “الحُجُرات” من النَّص القرآني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللهً عَليمٌ خَبيْرٌ}.
“اللُّغةَ” ههنا عنصرُ تَحَدٍّ بإمتياز؛ (1-6, 11-13:Esser) إذ تُشكِّلُ، ضمن هذا السِّياق، أبرز أدوات التَّواصل وأهمها؛ فلا فكرٌ، حقيقيٌّ، من دون لغةٍ يتشكَّل بها؛ ولا تواصلٌ، واضحٌ ودقيقٌ، من دون لغةٍ على الإطلاق. (73-101:Vygotsky) (88-118:Katz) (140-168:Turner) فإمَّا أن يجتمع المتحاورونعلى لغةٍ واحدةٍ أو عدَّةِ لغات، يُحسنون التَّلاقي بها في ما بينهم؛ ليوضِّح كل فريقٍ منهم ماعنده ويبحث، مع الآخر، في دقائق القضايا التي يبغي البحث بها؛ أو أنَّهم أمام اختيارٍ للتَّحاور عبر لغاتٍ يرى فيها أحدهم كثيراً من العُجمة ويعجز عن نقل ما عنده من دقائق الأمور إليها أو بها، وهذا أمر مخالف لطبيعة الحوار ومناهض لحقيقة التَّلاقي الإيجابيِّ بين المتحاورين أنفُسَهم.
تنبثق العربيَّة اليوم، في ساحات الحوار الثَّقافيِّ المعاصر، مزدهيةً بتاريخ عريق لها، قلَّ أن اشتركت معها بمثله لغة أخرى. (صدَّار) (العكيلي) فالعربيَّة ابنة تراثٍ لغويٍّ ممعنٍ في القِدم، يمتدُّ إلى أكثر بكثيرٍ من الف وخمسماية من السِّنين؛ وكثير من ناسها ما برحوا يُصِرُّون على الحِفاظِ عليها صافيةً، وفاقاً لما وصلت به إليهم عبر هذا التُّراث العريق. والعربيَّةُ، من جهة أخرى، تحمل مسؤوليَّة تراثٍ كلاميٍّ شديد العراقة وعظيم الوفرة، إمتدَّ عبر قرونٍ عديدة من الزَّمن وتجلَّى من خلال نتاجات أدبيَّة وفكريَّة ملأ كثير منها أصقاعَ الأرض قاطبةً وضجَّت به، معجبةً، تضاعيف السِّنينَ وتواريخ الحقب. ويضاف إلى هذا كلِّه، بل يفوقه أهميَّة وعظمةً وثباتاً، أنَّ العربيَّة هي التي أُنْزِلَ بها النَّصُّ القرآنيُّ، الذي يتِّخذه كثيرٌ جدَّاً من ملايين سكَّان الأرض، حتَّى اليوم، أساساً لدينهم ونبراساً لتفكيرهم ومدخلاً إلى مفاهيم لهم ومعياراً لقيمهم.
انزرعت العربيَّة بين ناسها، رغم كلِّ ما سبقت الإشارة إليهِ من مزاياها البنائيَّة وسِماتها التَّاريخيَّة، ضمن سياقين أساسين غير متعارضين، مبدأيَّاً، فيما بينهما؛ فثمَّة عربيَّة فُصحى وثمَّة عَربيَّة محكيَّة. فناسُ العربيَّة يعمدون إلى استخدام ما يعرف بـ”العربيَّة الفصحى”، في الغالبيَّة العظمى من كتاباتهم الرَّسميَّة والعلميَّة والدِّينيَّة والاجتماعيَّة والأدبيَّة، إذ يعتقدون أنَّ في هذه المجالات ما يفرضُ رصانة في التَّعبير الكلاميِّ ومحافظةً في الاستخدام اللّغوي المتوارث بحرص وعناية وشدَّة التزام؛ في حين أنَّ نصيب ما يعرف بـ”العربيَّة المحكيَّة” من كلِّ هذا أقلَّ بكثيرٍ، ولعلَّه يحتلُّ مرتبة أدنى قيمة من سابقه عند غالبيَّة معتبرة، عبر التَّاريخ، من ناس العربيَّة بشكل عام؛ فبات أكثر انفتاحاً منه على التغييرات بل والاجتهادات والتَّنويعات، وأكثر قبولاً لما هو من خارج العربيَّة من تراكيب.
اكتسبت، جوانب كبرى وأساس، من العربيَّة ما يمكن وَسْمُهُ بـ”المُحَرَّم” “Taboo” اللّغوي؛ الأمر الذي دفع بكثيرين إلى الاعتقاد بجمودٍ يلحق بإمكانيَّات كثيرة تصيب تطوُّر العربيَّة أو معاصرتها؛(ثروت وبشر) (ريمان ودرويش) (أبو سيف) (بو عزَّة) إذ يرى هؤلاء أن مساساً ما قد يلحق بأمور ذات صلة بالدِّين والتُّراث والتَّواصل العربيِّ إذا ما جرى تعديلٌ، أو تغييرٌ ما، في مجريَّات اعتماد العربيَّة الفُصحى.
تكمن المسألةُ الكبرى التي يعانيها أهل العربيَّة، كما المتعاملون بها ومعها؛ في أنَّ النَّصَّ القرآني العربيَّ دُوِّن بـ”لسان” عربيٍّ ولكن بمنطوق “لغة” هي لغة قريش، وهي إحدى لُغات اللِّسان العربي؛ التي عادت وتوزَّعت، بدورها، إلى لهجاتٍ مناطقيَّةٍ واجتماعيَّةٍ عديدة. ومع اعتماد المسلمين للغة قريش هذه ، ضمن اللسان العربيِّ، في قراءة النَّصِّ القرآنيِّ، صارت هذه اللغة، من دون سواها من لغات اللسان العربيِّ، بمثابة لسان؛ عِلماً أنَّها، وبحكم كونها لغة، أي متغيِّرة ومتبدِّلة، لا تملك المقوِّمات الأساسيَّة للِّسان القائمة على الثَّبات!
قد يرى بعضهم في أخذ لغة قريش ضمن اللسان العربيِّ دور هذا اللِّسان مشكلة، وهذا صحيح وواقعي؛ لكن الاستمرار في اعتبار هذا الأمر مشكلة، وبشهادة الواقع اللغوي العربي القديم منه والمعاصر على حد سواء، لا يمكن أن يشكِّل حلاًّ عملِيَّاً للمشكلة على الإطلاق؛ بل إنَّه حلٌّ يُوَلِّد عدداً لا حصر أو انتهاء له من المشكلات. فثمَّة مشاكلٌ دينيَّة، ومعها مشاكلٌ فقهيَّةٌ، وأخرى تاريخيَّة وثالثة ثقافيَّة، ويلتحقُّ بكلِّ هذا فيضٌ من المشكلاتِ التي قد ترتبط بِرُؤىً مُعَيَّنة إلى مفاهيمِ ذات علاقة بما يمكن تسميته بثبات الهُوِيَّة والوحدة القوميَّة في بُعديها الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ؛ ومن هنا، وحفاظاً على لغة تدوين النَّصِّ القرآنيِّ، ممثَّلةً بلغة قريش، وحفاظاً على فاعليَّة دور كلٍّ من اللِّسان بثباتيَّته واللُّغة بحركيَّتها، كان لا بدَّ من تحويل “المشكلة” إلى “قضيَّة”؛ والنَّظر فيها على هذا الأساس.
تتلخَّص القضيَّة في أن لغة، متحرِّكة، لا بدَّ من تعامل معها على أساس أنها لسان ثابت؛ إذ لا يمكن إيقاف حركيَّة اللُّغة ولا يمكن، كذلك، التَّخلِّي عن أساسيَّة ثبات اللِّسان. من هنا، لا بد من الاعتراف بحقِّ ما يعرف بـ”لغة قريش” في التَّطوُّر والتَّجدُّد ومواكبة البيئة الزمانيَّة والمكانيَّة والمزاجيَّة التي تكون فيها؛ وضرورة اعتبارها لساناً ثابتاً يمارس عبره النَّص القرآني احتفاظه بثباتيَّاته التي تفرضها قدسيته وتتطلُّبها مبادئ الإيمان الدِّيني به.
إنَّها قضيَّة لا بدَّ من تنظير خاص بها من خلال تأمين عيش سويٍّ لها. وأساس هذا كله يبرز عبر إشكاليَّة مفادها أنْ كيف لناس العربيَّةِ الاستمرار في التَّواصل عبر هذه “اللغة” التي لا بدَّ من الاعتراف بحركيَّتها، والتي صارت “لسانا”، وهي لا تمتلك مقوِّمات اللِّسان ولا تقدر أن تحلَّ محلَّه على الإطلاق؟!
لعلَّ في البحث عمَّا يمكن اعتباره العربيَّة الأساسيَّة المعاصرة ما قد يقود إلى حُسْنِ تعاملٍ مع هذه القضيَّة. والمقصود بالعربيَّة الأساسيَّة، ههنا، هو تحديد الحد الأدنى الضَّروري والذي لا يمكن الاستغناء عنه من مقوِّمات لغة قريش، أي العربيَّة الفصحى بالمفهوم المعاصر، لتشكِّل أساساً ثابتاً في التَّعامل مع هذه اللُّغة. وبذا، يمكن تأمين للُّغة المتحرِّكة الحدَّ الأدنى العضوي في فاعليتها اللسانيَّة. وبناء على النتائج المتوخاة من هذا الاقتراح، سيمكن للعربيَّة الفصحى، أن تظلَّ متمسِّكة بالأسس اللسانيَّة التي توفِّر إجماعاً عربيَّاً للتَّواصل معها،عبر الماضي والحاضر والمستقبل وبشكل خاص عبر النَّص القرآني العربي؛ وتكفل لها، في الوقت عينه تلبيَّة كل تحوُّلاتها ضمن متغيِّرات البيئة الزمانيَّة والمكانيَّة والمزاجيَّة لناسها.
بناء على هذا، لا بدَّ من إيجاد هيئة أو لجنة أكاديميَّة متخصِّصَة، تحظى باعتراف علميٍّ واسِع، وتكون ذات موثوقيَّة لا غبار عليها، تعمل على اعتماد ما يمكن اعتباره اللغة العربية الأساسية المعاصرة التي لا تغادر أبدا أصول عربية قريش ومبادئ اللسان العربي معاً، ولا تخون، في الوقت عينه، تطورات الزَّمن وتغيراته. ولعلَّ في الرُّؤية التَّطبيقيَّةِ لهذه الدَّعوة، ما يمكن أن يشكِّل نواة لإيجاد هذه اللُّجنة والبحث العمليِّ الجديِّ في تصدِّيها لهذه القضيَّة الأساسيَّة في دنيا تطور العربيَّة وفاقاً لمتغيرات موضوعات الزَّمن معطياته المعرفيَّة والاجتماعيَّة، ومحافظتها، في الوقت عينه، على أصالتها وعدم تضييع علاقتها بالنَّصِّ القرآني منطلق الحياة الإسلاميَّة وأساسها.
الجانب الآخر، من أهليَّة العربيَّة لتكون لغة حوار ثقافيٍّ ينمِّن ناسها من تبوُّء موقع إيجابيٍّ لهم في العيش المعاصِر، أو تأمين وجودٍ لهم ينماز بكونهِ فاعلاً ومنتجاً، في رحاب حيويَّة المعاصَرَة وليس مجرَّد وجودٍ يكتفي بتحقيق ما لفاعليَّةِ التَّلقي، فيكمن في قابليَّة العقليَّة العربيَّة من أن تتحوَّل من كونها عقليَّة مُسْتَهْلِكَةٍ إلى كونها عقليَّة مُنْتِجَةٍ. إنَّ من ينتج موضوعاً، فكرة أو اختراعا أو سلعة؛ فإنَّه، إذ يُنتج ما ينتجه، يعمل، كذلك، على تعريفه وشرحه وتبيان ما فيه وعرضه وحتَّى تسليعهِ إلى الآخرين، باللُّغة التي فكَّر بها فيه. من هنا، فإنَّ ما من حلٍّ جذريٍّ يُنقذ العربيَّة من عدم تسنُّمها ريادة لغويَّةً، على مستوى التَّحاور الثقافيِّ للوجودِ الإنسانيِّ المعاصر المُتَحَضَّرِ، إلاَّ بتحوُّلِها من مجالاتِ العقليَّةِ الاستهلاكيَّةِ إلى رحاب العقليَّة الإنتاجيَّة.
مكتبة:
1) أبو سيف. ساندي سالم، قضايا النَّقد والحداثة-دراسة في التَّجربة النَّقديَّة لمجلة “شِعر” اللُّبنانيَّة، المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، بيروت، 2005.
2) بو عزة. محمد، هيرمينوطيقا المحكي- النَّسق والكاوس في الرِّواية العربيَّة، مؤسسة الانتشار العربي، 2007
3) ثروت. عبد السَّميع، بشر. وكمال محمَّد، اللَّهجات العربيَّة-الفصحى والعاميَّة، مجمع اللغة العربيَّة، مصر، 2006.
4) ريمان. إيمان،درويش.علي، بين العاميَّة والفصحى: مسألة الازدواجيَّة في اللُّغة العربيَّة في زمن العولمة والأعلام الفضائي، شركة رايت سكريبت المحدودة، أستراليا، 2008.
5) صدَّار. نور الدِّين،دوراللغةالعربيةفيالحفاظعلىمقوماتالهويةالقومية وكسبرهاناتوتحدياتالعولمة، كليةالآدابواللغاتوالعلومالاجتماعيةالإنسانية / جامعةمعسكر،الجزائر، (لا. ت.).
6) العكيلي. حسن منديل حسن، قداسة اللغة العربيَّة، كليَّة التربية للبنات، جامعة بغداد، (لا. ت.).
7) Bonney. Richard, The ‘clash of Civilizations’ and the Global War on Terror, Peter Land LTD, Oxfordshire, England, 2008.
8) Esser. Hartmut, MIGRATION, LANGUAGE AND INTEGRATION, AKI Research Review 4, Programme on Intercultural Conflicts and Societal Integration (AKI), Social Science Research Center Berlin,December 2006.Lev S. Vygotsky,Thought and Language, MIT Press (U.S.A.), 2012.
9) Everitt.Anthony, The governance of culture: approaches to integrated cultural planning and policies, Cultural Policies Research and Development Unit, Policy Note No. 5, Council of Europe Publishing, September 1999, Printed in Belgium.
10) Fagan. Brian M., Clach of Cultures, 2nd ed., ALTAMIRA Press, Oxford, 1998.
11) Guerrieri. Paolo, LelioIapadre and Georg Koopmann (ed.), Cultural Diversity and International Economic Integration, Edward Elgar Publishing Limited (U.K.), 2005.
12) Katz.Albert N., Cristina Cacciari, Raymond W. Gibbs Jr. and Mark Turner Jr. Figurative Language and Thought, Oxford University Press, (NY).
13) Kuran. Timur -Department of Economics – Duke University, Cultural Integration and Its Discontents,July 6, 2007.
14) Regan. Vera, Maeve Conrick ND Isabelle Lemée(ed.), Multiculturalism and Integration: Canadian and Irish Experiences, University of Ottawa Press (Canada), 2010.
15) Turner. Mark, The Literary Mind: The Origins of Thought and Language, Oxford University Press, 1996.
16) Widlanski. Michael, Battle for Our Minds: Western Elites and the Terror Threat, New York, Michael Widlanski 2012.