قراءة في ديوان ” إفضاءات في أذُن صاحبة الجلالة”للشاعر طارق ثابت
بقلم: إبراهيم موسى النحَّاس
“لا كتابة خارج الذات و الواقع, و كل التجارب الشعرية قديمًا أو حديثًا لا بُدَّ أن تدور حول أحد الهاجسين”, بتلك العبارات افتتح أ.د. عبد الله العشي تقديمه لديوان ” إفضاءات في أذُن صاحبة الجلالة ” للشاعر طارق ثابت, و أنا من خلال القراءة المتأنية للديوان أتفق مع هذا الرأي, فقد جمع الشاعر في هذا الديوان بين البُعد الذاتي و القضايا الكليَّة, ليقدِّم لنا نموذجًا للشاعر مُرهَف الحِس الذي تمتزج رومانتيكيته بروح العِزَّة و الإباء المتوارثة, إضافة إلى الجانب الواقعي المُتمثل في حُب الوطن و رصد بعض سلبيات واقعنا العربيّ من خلال المقارنة بين ماضيه الشامخ و حاضره الذي تأبى الذات الشاعرة سلبياته.
على المستوى الذاتي نجد تعبير الشاعر عن أهمية الشِعر في حياته لأنَّه منذ بداية الديوان في قصيدة حملتْ عنوان” بداية ” يُصرِّح بأنَّه يقول الشعر كي يحيا, و كأنَّ الشِعر عنده حياة, حيث نقرأ في ص9: (( الآنَ فقط…سأقول الشِعر لكي أحيا / سأقول الشِعر لكي أزهِر…/ الآنَ فقط…سأقول الشِعر برغم الرغْم…/برغم الظُلمة و الخنجر/ الآن تركتُ الحرفَ يُقاسمني/ذاتي…طرقات الليل…/ألمي المكنون…و ما أستُر../ و أضأتُ روائع أشعاري/ من غربة بدري الجاثم في ليلي/ من قيس…/ من عبلة…/ من عنتر)). و من الجوانب الذاتية أيضًا في الديوان التعبير عن حُزن الذات الشاعرة و ما تعانيه من إحساس بالاغتراب لرفضها لسلبيات واقع تتمرَّد عليه و تسعى به نحو الأفضل, في قصيدة” أجنحة الرفض المُطلق ” ص36-37 حين يقول: (( قد صار الحائط منفاي../ المأتم كلَّ مساءٍ أحظره../ كي أبحث عن وجهي المفقود هنالك/ في الظلمات../ أتمايل فوق بحارٍ لا ترحم/ أتساءل عن أزهارٍ…/ ضاعت في الفلواتِ../ أتساءل/ ما جدوى الحُب الموءود…/على الطرقاتِ../أتساءلُ../ ما معنى أن يحيا الناس../بلا معنى…و بلا ذات,/ عن معنى خارطةٍ../قد ضيَّعها جيلٌ../لا يفهم أنَّ الكلمة لا تكفي../ كي نبني وطنًا)).
و مثلما ربط الشاعر بين ما هو ذاتي بما هو واقعي في النص السابق, نجد هذا الربط في قصيدة” الأغنية ” حيث مشاعر الشموخ و الإباء و الفخر بعظمة الجد, ذلك الجد الذي هو رمز لكل مناضلي رجال الأوراس بل و كل رجال الوطن العظماء حين يقول في ص21: (( أوَّل الأغنية…/لم يكن في الهوى وَحْدَهُ/ كانت الأمسية,/ و الزقاق الذي أحرقوا وردَهُ…/كانت الأحجية/ أنَّهُ لم يبِعْ دمهُ../ لم يبِعْ “حيزبه”/ أو يشوبُ الثرى خدَّهُ)).
و من هذا الشموخ و الإباء الأوراسي – مهد الثورة الجزائرية المجيدة- كان الدافع لدى الشاعر لكتابة ملحمته الشهيرة” إلياذة الأوراس “, كما يأتي حُب الوطن الأكبر/ الجزائر, و كل المدن و الدول العربية, ذلك الحُب العظيم الذي عكسته قصيدة” بوحٌ أخير ” حين يقول في ص31-32: (( لأنَّك وحدك علمتّني/ بأن أقتفي الحُبَّ دينًا و ذِكرا / و أنَّك وحدك علمتني/ بأن أعشق الضاد أولى و أخرى/ و أكتب شِعري بماءِ عيوني/ و أنحر ذاتي لأُمنح نصرا / لك الله..ما أعذب الحُبَّ فيك/ كأنِّي سُقيتُ بحبك خمرا / فعيناك مثل” العراق ” صفاء/ و مثل ” الحجاز ” نقاءً و طهرا / و أنت ” المدينة ” في شفتيك/ و في شفتيك عذوبة” مصرا”/ و” كالشام ” يحلو حديثك عندي/ فتسقين حُبا و أسقيك شِعرا / لأنَّك وحدك علمتني/ بأنَّ الجزائر بالحُب أحرى )) و كذلك التصريح بحبه للجزائر في ص40 في قصيدة” إفضاءات في أذن صاحبة الجلالة ” حين يقول: (( جزائر هل يعلم الكون أنِّي/ قصدتكِ أغسل جرحي بمائك / و أبعث في العالمين هوايا / و أمتطي الشوق يرقى ببابك / و أركب حُبّكِ علّي ألاقي/ زماني الذي راح يبغي لقاءك)).
و على المستوى الفنيّ اعتمد الشاعر على ما يمكن أن نسميه بالتجديد في إطار المحافظة على الشكل, فاستخدم بعض الأدوات الفنيَّة “ما بعد الحداثيَّة” مع الحفاظ على شكل القصيدة التقليدي القائم على وحدة الوزن و القافية في القصائد العمودية أو الحفاظ على وحدة التفعيلة في قصيدة التفعيلة أو الشعر الحُر. فنجد الاعتماد على الخيال الكُلّي أو الصورة الكليَّة التي ترسم مشهدًا يمكن تخيُّله بكل عناصره و تفاصيله مثل ذلك المقطع في ص14 الذي عبَّر فيه الشاعر عن حبه للابن حين يقول: (( طفلٌ.. لا دمية تشغله../يستصغر كلَّ الأشياء../ و لديه تساوَتْ أزمنةٌ../ إلّا زمنًا../ حين الأمطار تبلله../يبكي يا”ماما”../يجري صوب أبيه../لا يعرف من رَجُلٍ غيره../يحنو..يقسو../ يبكي لبكائه/ يستصرخ أمه علنا / يعطيه أواسط أفئدته../ و جميع نواحيه../ كلَّ دروبه../يحضنه..يفديه بمهجته…/أو يجعله دومًا وطنا..)).
كما نجد توظيف السؤال الذي يعكس قلق الذت الشاعرة و حيرتها حين يقول في قصيدة” انكسار ” ص 47: (( بعد كل الصبر هذا../ أتراه اليُسْر آت../ أتراها اليوم شمسي../ لم يَعُدْ يجدي صراخ الليل فيها / و هبوب الظلمات../أترى موجي يرقُّ../ فيلين الصخر عندي/ و أرى شطي يزين../بآلافِ الصدفاتْ)).
و نلمس بقوَّة العُمق الفلسفي في تعبير الشاعر عن رؤاه, ذلك العمق الفلسفي الذي ربط الشاعر بينه و بين حُبه للوطن في قصيدة” معنى المطر ” حين يقول في ص49-50: (( لو تعلمين حبيبتي معنى المطر../حلمٌ../تهشّم في العراء../ كما القدَر../ دمعٌ../ تيقن بالنهاية../ فانهمر../ شِعرٌ../ تناسى جرحه..قد عاد للأرض الحزينة../ فاندثر../ لو تعلمين حبيبتي معنى المطر../ وطنٌ../ يسافر في لظى الصمت الرهيب../ و في جحيم المفردات../ وطنٌ../ يلوك الصمت../ يرفض أن يموتَ بلا سفر)).
كما نرى البُعد الصوفيّ حتى في قصيدة الغزل مثل قصيدة” دعيني ” حين يقول في ص30: ((و ثغركِ لو تعلمين الهوى/ بحيّ على الحُب قد أذّنا / تعاظمتِ حتى بلغتِ العُلا / فأصبحتِ أجملَ ما يُقتنَى/ و جاوزتِ بلقيس في حسنها / كأنِّي أراها غدت مذعنا / فلستُ أبالي إذا ما سألت/ فإنِّيَ أنتِ و أنتِ أنا)).
و مِمَّا يعكس الثقافة العربية الأصيلة للشاعر التناص مع بعض نصوص التراث خصوصًا في بعض القصائد العمودية, لكن مع التعبير عن الواقع الحالي و نقد سلبياته, فنجد روح الشاعر الأندلسي الكبير ابن زيدون في نونيته الشهيرة ( أضحى التنائي بديلا عن تدانينا/ و ناب عن طيب لقيانا تجافينا ) و اسم محبوبته ولاّدة بنت المستكفي في قصيدة” يا أبتي ” ص11 حين يقول: ((قد عُدْتَ يا أبتي قد عدتَ مرتحلا / قد عُدْتَ تبكي على أطلال ماضينا / أهٍ لنا لو رأيتَ اليومَ حالتنا / ” نجيش بالدمع و التذكار يثنينا” / رمى بنا البَيْن..صِرنا أمَّةً شططا / و الراية احترقت و الحزن يخفينا / و أرض قرطبة الغرَّاء في ولهٍ/ نبكي أيا أبتي أين ابن زيدونا / لا زال صوتك في الأجواء يُسمعها / شريانه صوت بُغْضٍ من أمانينا / كيف العراق؟ و كيف الشام؟ يا وجعي / يا كِلمة أخرست عمدًا قوافينا)).
من سمات التجديد نجد توظيف الشاعر “للمونولوج” أو الحوار الأحادي الداخلي ليعكس الشاعر مدى رفاهية حِسِّه, و يُبيِّن قيمة و أهمية الشِعر عنده حين يقول في قصيدة” شهقة الانعتاق الأخير” ص16: ((و يجيئني صوت الوجود بداخلي/ يمحو سطور الحُزن في أنَّاتي/كن مستحيلا, كاملا متأصِّلا / أو ممكنًا يجري مع الحقباتِ/ كن ما أردتَ حديقة أو جدولا / أو زهرة من أجمل الزهراتِ/ و امحو بشِعركَ حُزن قلبكَ تنتهي/ أنقاض وهمكَ في الزمانِ الآتي)). كما وظّف الشاعر الحوار مع الآخر مستخدمًا الأسلوب الإنشائي الأمر للالتماس و التمنِّي, مع التكرار و الأسلوب الخبري, ليعرض لنا قلق الذات الشاعرة ومعاناتها في قصيدة” على رِسلكم أيُّها العابرون ” ص56 حين يقول: (( دعوني…/ أفتّش عن وحدتي../ أفتش عن ما تبقى من المهزلة../ لعلّي ألاقي قصيدي المغامر في البسملة../ لعلّي أصادف شكل المدائنِ/ في ذرَّةٍ من رياح الفضاء تجيءُ مع الأسئلة/ و يأتي السؤال تباعًا مع الأسئلة../هل الدم في أصبعي../نهاية فتنتنا القاتلة؟!/ هل الصمت في أضلعي…./بداية ما قد تبقّى من المهذلة؟/ هل النار في أدمعي../ ستوقف نبض الرياحِ/ و تمحو سطور روايتنا الفاعلة؟/ ستوجِدُ نهرًا جديدًا…/ يُعيدُ إلى البيتِ خارطة العائلة)).
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ ديوان( إفضاءات في أذن صاحبة الجلالة ) للشاعر طارق ثابت جمع بين التعبير عن الذات الشاعرة بمعاناتها و حبها للشِعر مع التعبير عن مشاعر الشموخ و الكبرياء و الاعتزاز بالأجداد و نضالهم من أجل الوطن الذي يحمل الشاعر له أسمى معاني الحُب و الانتماء مع الاعتزاز بالأوراس مسقط رأس الشاعر و مهد الثورة الجزائرية المجيدة في قصيدة اتّسمتْ بالتنوُّع على مستوى البناء الفنيّ فجمعت بين شكل القصيدة التقليدية العمودية و قصيدة الشعر الحُر, و حملت بعض السمات الفنيَّة مثل العمق الفلسفي و اللغة الصوفية و توظيف الصورة الكليَّة و لغة الحوار الداخلي مع الاستفادة من التراث و الثقافة العربية الأصيلة التي لم تقف حاجزًا بينه و بين رغبته في التجريب و تطوير أدواته الفنيَّة داخل القصيدة.