مقال للدكتورة دليلة زروق / جامعة الجزائر2
اهتم لويجي بيراندللو (Luigi Pirandello ) بشخصيات مسرحية ست شخصيات تبحث عن مؤلف وأعطاها أبعادا نفسية تجلت بشكل واضح من خلال متابعته تحركاتها على خشبة المسرح ومنحها فرصة التعبير عن شعورها، حيث تجلت الأنا الفاعلة عند أفراد عائلة المسرحية بشكل واضح، خصوصا وأن أفرادها عاشوا أزمات حادة أهلتهم لاقتحام خشبة المسرح من أجل إثبات ذواتهم، راغبين في اقتسام مأساتهم أمام المتفرجين قصد التخفيف من حدة المعاناة، من هذا المنطلق يجدر الكشف عن أبعاد مسرحية ست شخصيات معتمدين على التحليل النفسي الفرويدي كاشفين عن خصائص المسرحية وفق الإشكالية التالية: كيف تجلى البعد السيكولوجي عند شخوص مسرحية ست شخصيات ؟
-تحليل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف):
تمثل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) للويجي بيراندللوصورة« مصغرة للعالم والحياة، حيث وزعت على كل شخص، وبالتالي فإن خطاب الممثلين والشخصيات المسرحية هو نفسه خطاب المتكلمين في الواقع، إذ أن المؤلف لا يمكنه أن يخرج عن الأعراف الخطابية والاجتماعية للغة التي يكتب بها.»(1) لذلك تعتبر مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) مثيرة للجدل والنقاش، إذ يرى محمد مندور أن مسرحية ست شخصيات أعمق من المسرحيات الشهيرة كمسرحية (ارتجالية فرساي) لموليير، ومسرحية (الضفادع) لأرسطوفانيس، ذلك أن بيراندللو يعالج قضية الشخصيات الدرامية علاجا فلسفيا نظريا ثم يطبق بعد ذلك آراءه عمليا.(2 )
وبالفعل اعتبر مسرح بيراندللو مخبرا للعلاج النفسي وللتخلص من هواجس النفس والتحرر منها، فقد أسالت مسرحية (ست شخصيات) حبرا كثيرا وأشبعت نقدا ودراسة وتحليلا، وفي هذا الصدد ذهب يوسف عبد المسيح ثروت في كتابه (دراسات في المسرح المعاصر) إلى أن بيراندللو طور فكرة الوهم وضياع الحقيقة، إلى حد غريب في مسرحيته الشهيرة (ستشخصيات تبحث عن مؤلف)، وفيها ينقلب مسرح الحياة إلى حقيقي، وتزول الحواجر بين المسرحيين، فلا يعود للتمثيل بمعناه المسرحي المعروف أي أثر في الوجود البشري، وتصبح الحياة نفسها تمثيلا مأساويا عجيبا لا ينتسب بأي صلة إلى التمثيل المسرحي. لأن مسرح الحياة ينتقل بصورة عفوية مروعة على خشبة المسرح. فينهزم الممثلون التقليديون تاركين وراءهم كل مواصفاتهم وأساليبهم وأدواتهم وتقاليدهم. تاركين-في الوقت نفسه-السيد المخرج، المدير الفني، ليستقبل الممثلين الأحياء، وليندمج معهم، في إخراج جديد، لم يكن ليخطر على باله ولم يكن ليحلم به.( 3)
كما يؤكد أيضا محمد مندور أن مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)« تقوم على درس تطبيقي لمفهوم بيراندللو للدراما وأهمية الشخصيات فيها، فقد حرص على أن يحدد في دقة أبعاد كل من الشخصيات الستة الذين يحملون المأساة، وذلك في الإرشادات المسرحية التي دونها، غير مكتف بترك الأحداث والحوار يحددان تلك الأبعاد الجسمية والنفسية والسلوكية، على نحو يضمن أداءها على النحو الصحيح.»( 4)
أما المخرج لويجي سكوارتزينا مخرج مسرحيات لويجي بيراندللو، فله رأي في مسرحية (ست شخصيات) قائلا: « كان يجب أن تقدم على أنها عمل في تطور. في الماضي (…) واعتقد أنه حانت اللحظة لأن نقدمها على أنها دراما تستمد حياتها من لحظة التقديم،إن كل قفشة فيها يجب أن تكون غير متوقعة. وألغى بيراندللو التركيب، فنحن نجد أنفسنا باستمرار أمام عجينة تتشكل. »( 5)
أما إليا الحاوي فاعتبر مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) أنها أول مسرحية تعالج (المسرح داخل المسرح)، فقد دارت عليها مناقشات تترى في النقد والتقييم، بين تأييد وتنديد. وجد فيها بعض النقاد ذروة العمل المسرحي المبدع وآخرون اعتبروها مسرحية البولفار.( 6)
أما محمد المصري فقد رأى في(بيراندللو) أنه توصل إلى « تراجيديا فريدة من نظريات عصره، مزجها بتجاربه الخاصة، والتي كانت مؤلمة وقاسية، وظهرت في هذه التراجيديا الحيل المسرحية بأجلى معانيها مع الحيل الفكرية، وتقودنا الحوادث التي تتحرك فيها شخصيات مسيرة بخيوط العلاقات الإنسانية إلى حافة الهاوية، ويتملكنا نوع من الدوار ونحن نتأمل محاولاتهم البائسة لاسترداد وحدتهم النفسية، وقد نشأت مأساتهم من جهلهم لأنفسهم لا انتظارهم لما سيقع بهم..»(7)
يتفق النقاد والباحثون على أن بيراندللو مفجر الثورة على التقاليد المسرحية، بشكله المسرحي الجديد والمغاير للمألوف، فقد سبق كتاب زمانه عندما نحا بمسرحه منحا آخر ليس بالمفهوم المتداول في الأذهان، فالمسرح عنده لم يعد يحوي الشكل التقليدي من مقدمة وعقدة وحدث، وإنما أصبح للمسرحية بعدا فلسفيا تشغل الأذهان والعقول، فهو بهذا فتح مجال التأويل والإنتاج الدلالي اللامتناهي للباحثين، فالمعاني في مسرحه تتولد وتزداد غموضا وعمقا كلما حاولنا استجلاءها والكشف عن أغوارها…
وعليه ارتأينا الكشف عن خبايا المسرحية وفق منظورنا بتسليط الضوء على إقحام بيراندللو واقع المجتمع ودحضه للإيهام والفصل فيما هو أنسب لمعالجة شؤونه الذهنية والمادية.
أ-تقنية المسرح داخل المسرح في مسرحية (ست شخصيات):
بيراندللو هو أول من افتتح (تقنية المسرح داخل المسرح) خلال القرن الواحد والعشرين بدءا من نصه الشهير(ست شخصيات تبحث عن مؤلف) وكل الذين جاءوا بعده من المسرحيين اللاحقين تأثروا بفكرته في شكل أو آخر.(8)
فقد أثبت عامر صباح المرزوك في كتابه(تاريخ وأدب المسرح العالمي) ، وعصام محفوظ في كتابه(مسرح القرن العشرين) أن حاسة الإبداع عند بيراندللو تفجرت بعبقرية وذكاء حتى لقب بأبي المسرح داخل المسرح.
وظف لويجي بيراندللو تقنية المسرح داخل المسرح في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، وذلك عند اقتحام عائلة مشتتة تتكون من أب وأم وابن شرعي وثلاثة أبناء غير شرعيين لخشبة المسرح بغية طرح مأساتهم أمام النظارة ليتقاسموا معهم همومهم قصد تخفيف حدة المعاناة، فعند وصولهم إلى قاعة العرض وقع بينهم وبين مدير المسرح جدال طويل حول أحقية طرح المأساة بأنفسهم بدل الممثلين الذين يتقمصون الأدوار باحثين عن الشهرة.
اتجهت العائلة إلى المسرح قصد عرض تجربتها أمام النظارة، والمقطع الموالي يبين اقتحام العائلة قاعة المسرح دون سابق إنذار:
« بواب المسرح: (في استحياء) بعض الناس يسألون عنك يا سيدي.
( المدير والممثلون يستديرون في دهشة إلى الشخصيات الست تجاه الصالة)
المدير: (في غضب) نحن في التجربة الآن !! وأنت تعرف جيدا أنه غير مسموح لأحد بدخول المسرح أثناء تجربة المسرحية.
( يوجه كلامه بعيدا)
من أنتم أيها السادة، وماذا تريدون؟
الأب: (يتقدم إلى الأمام يتبعه الآخرون،حتى يصل إلى أحد الدرجين) نحن نبحث عن مؤلف.»(9)
لقد توقف المدير والممثلون عن مواصلة العرض عند رؤية العائلة الورقية تقتحم مسرحهم داخلة قاعة العرض تعطي لنفسها أحقية الظهور والوقوف على الخشبة حاملة مأساتها. إلا أن المدير رفض بشدة هذه الفكرة، فاحتدم الجدال بين الفريقين، واستطاعت العائلة أن تقنعه وتقنع الممثلين بتقديم عرضها لأنها هي التي عاشت المأساة والمعاناة، وهي الأحق بعرض وضعها، وبذلك تحول الممثلون إلى متفرجين، مثلما يوضح المقطع التالي:
« الممثلون والممثلات: (يصفقون ) رائع…رائع…برافو !
المدير: (حانقا) اسكتوا ! …أتظنون أنكم في مرقص؟
(ينتحي بالأب جانبا ويتحدث إليه في هلع )» (10)
في هذا المقطع تحول الممثلون إلى متفرجين لأنهم اندهشوا وأعجبوا بصدق ومدى قدرة العائلة على إيصال مأساتها وتأثيرها على المشاهدين، حينها طلب المدير من الممثلة الأولى أن تتقمص دور الابنة غير الشرعية (ابنة الزوجة) والتي أبت أن تسمح للممثلة كذلك، بل سخرت منها واحتقرتها لأنها لا تستطيع تأدية دورها بصدق، فالممثلة تركض وراء الشهرة وتسعى إلى النجومية وهذا ما أثار غضبها:
«المدير:(إلى الممثلة الأولى )
وأنت طبعا ابنة الزوجة
ابنة الزوجة:(منفعلة) ماذا..ماذا؟ أنا، هذه؟
(تنفجر ضاحكة)
المدير:(متضايقا) ماذا يضحكك؟
الممثلة الأولى: (مستاءة) لم يجرؤ أحد على أن يضحك مني..حتى الآن! إما أن أعامل باحترام وإما أن أغادر هذا المكان !
ابنة الزوجة: لا، لا آسفة، أنا لا أضحك منك.
المدير:(لابنة الزوجة) يجب أن تشعري بالفخر لأنها ستقوم بدورك…
الممثلة الأولى: (في الحال وباحتقار شديد)…”هذه”
ابنة الزوجة: لم أقصدها صدقني، كنت أقصد نفسي حيث لا أرى نفسي فيك..هذا قصدي لا أدري فأنت لا تشبهينني في أي شيء…»(11)
إن ابنة الزوجة لا ترى في (الممثلة الأولى) ما يؤهلها لأن تحل محلها لأن التمثيل -بالضبط-يستلهم من ذاكرة عاطفية شخصية لها علاقة وطيدة بصلة الرحم (الأسرة ).
كانت الابنة تتمنع على (الممثلة الأولى) أن تؤدي دورها لأنها لا تجد ذاتها فيها، فتدخل المدير وأقنع العائلة بأحقية تأدية الممثلين لأدوار العائلة لكي يعطوا مأساتهم وجها وجسدا وصوتا وملامح، فيتفطن الوالد أثناءها إلى السبب الذي اقتضى على مؤلفهم أن ينصرف عنهم، بعد أن أوجدهم أحياء فعليين.فهو يحس أن الممثلين لا ينطقون بصوته. وليس كما يحس هو ذاته من الداخل.(12) فقد أعلنوا تمردهم، وظهرت شخصيتهم القوية أثناء مواجهة الجمهور والممثلين المحترفين، فالظروف الصعبة التي تعرضوا لها في الحياة جعلتهم يتمتعون بشخصية المواجهة الانفعالية أثناء حوارهم مع الآخرين.
وإذا ما عدنا إلى تحليل سلوك ابنة الزوجة غير الشرعية من خلال المقطع المذكور سابقا نجدها تتمتع بالنرجسية (Narcissisme) وحب الذات، ويتجلى ذلك من خلال ضحكها المبالغ فيه بغية جذب انتباه الآخرين، فقد بالغت في استخدامها للأنا Egoالدفاعية، وقد أكد علماء النفس أن الأنا الدفاعية تستخدم من أجل«المحافظة على الشخصية وحمايتها مما يتعرض لها من أخطار، وإشباع متطلباتها بشكل لا يتعارض مع الواقع وظروفه.»(13)
استخدمت ابنة الزوجة الضحك الهستيري عندما شعرت بالضعف النفسي والخوف من الآخر ولم تكتف بذلك وإنما اتخذت وسيلة أكثر وضوحا من الأولى وهي نظرة الاحتقار الموجهة إلى الممثلة، فقد أكد علماء النفس أن الإنسان الذي يواجه مخاوف في حياته يلتجأ إلىوسلة دفاعية تظهر في سلوكاته مثل الهلوسات والانفجارات الانفعالية من الصراخ أو الضحك.(14) مثلما حدث لابنة الزوجة التي شعرت بالضعف ولم ترد الاستسلام تجاه مصائد الدهر عندما كانت تحاول جاهدة أن تظهر بصورة براقة أمام الجمهور.
اتخذت ابنة الزوجة الضحك كوسيلة تعبيرية عن الغضب والرغبة في الانتقام من وضعها الذي آلت إليه، وفي هذا المقام نجد أن بيراندللوعبر بالأشياء ولم ينقلها لنا بواقعيتها، فبدل أن تعبر الفتاة في مسرحيته عن غضبها بالبكاء التجأت إلى وسيلة معاكسة وهي الضحك، فالتعبير بأضداد الأشياء يكون أقوى تأثيرا في المشاهد من الأشياء المتوقعة المألوفة المباشرة على خشبة المسرح، فطريقة عرض المسرحية كان ممزوجا بالجد والهزل معا، وعليه تصنف مسرحية بيراندللو ضمن المأساة الهزلية.
لجأ بيراندللو إلى(تقنية المسرح داخل المسرح) من أجل أن يكتشف ذاته من خلال محادثة الذات المماثلة، فقد وجدت ابنة الزوجة ما يقابلها في الواقع، فكأنها ترى نفسها في مرآة عاكسة وتسخر منها لأنها مغفلة وقعت ضحية الغدر والخداع، وهذا ما نجده في الفلسفة الوجودية عند (جون بول سارتر) التي تعتبر أن الإنسان حر في حياته بشرط أن يتحمل مسؤولية العواقب، فكثيرا ما يلجأ المصابين باضطرابات نفسية في حياتهم إلى مناجاة أنفسهم، لأنها الطريقة الأنسب لاكتشاف الذات المبهمة والغوص في أعماق الروح الإنسانية التي لا تزال محل جدل بين الفلاسفة ويستحال فهمها.
كان الحوار في المسرحية مرتكزا بين الشخصيات والممثلين في شكل تبادل أدوار دون أن يخلو ذلك من صراع وجدال بينهم، فيتحول الممثلون تارة إلى متفرجين عندما تشرع العائلة في سرد واقعها المعيشي، وتتحول العائلة (موضوع المسرحية) إلى متفرجة عندما يتدخل الممثلون من أجل إقناع المدير لطرد العائلة من قاعة العرض خوفا على مكانتهم.
وبعد جدال عميق انتصرت الواقعية على الزيف الفني، وشرعت العائلة في سرد أحداث وقعت في الماضي ثم انتقلت إلى المضارع في شكل سردي قائم على الوصف والتعليق والاستطراد وهي تقنية مهمة من تقنيات (كسر الإيهام) وخلق حالة من الانفصام بين المتلقي والممثل.
استعان بيراندللو بعنصر السرد لإحداث التغريب عن طريق الراوي، حيث أخذ يناقش ويعلق وينقد الكثير من المواقف، فقد اختزل الكثير من الأحداث عن طريق السرد وأغلب الأحداث عنده تروى ولا تجسد. سعيا منه إلى تذكير المتفرجين بأنهم أمام ممثلين يؤدون أدوارهم فقط. والهدف من ذلك هو تطهير نفس المشاهد، ومن ثم دفعه إلى أن يبحث عن التغيير.
أما منزلة المؤلف في هذه المسرحية فكانت بمثابة الراوي العليم ببواطن الشخصيات متنبئا إلى ما يحدث لهم مستقبلا، فهو المؤلف والمخرج والمدير الذي كان يحسم النزاع بين الفريقين والفصل في أمر العائلة والممثلين. فقد أحسن دمج المسرحيتين من خلال الانتقال المباشر من الواقع المعاش وهو (مأساة العائلة الورقية) إلى الواقع الفني (تقمص الممثلين لأدوار الشخصيات) والعكس، وهذا ما أدى إلى كسر الإيهام بالواقع في إطار الملحمية .
ب-بيراندللو والتناص الذاتي:
يتناص بيراندللو مع نفسه في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، رغبة منه في التحرر والتطهر من أشياء دفينة تتواجد في لا شعوره الجمعي La subconscience collective*)) عن طريق الكتابة وطرحها للنقد أمام مرأى المتفرجين. فالفنان عندما يحكي قصته « يستخدم جزء كبيرا من حياته الخاصة ومن شخصيته مادة لذلك،(…) فهو لا تقوده رغبة في تمجيد ذاته بل في تقصيها. »(15) فقد صرح بأنه كتب مسرحية(ست شخصيات تبحث عن مؤلف) لغاية في نفسه قائلا: « كتبت مسرحية ست شخصيات تبحث عن مؤلف لأتخلص من كابوس.»(16)
أثبت فرويد أن ذكريات الطفولة تبقى راسخة في ذهن الإنسان، وتؤثر في نموه تأثيرا لا يزول، « وترسى على وجه الخصوص الأساس لما قد يحدث من اضطراب عصبي (…)، فقد كان الناس ينظرون إلى الطفولة على أنها بريئة وخالية من شهوات الجنس، ولم يكن يتبادر إلى الأذهان أن الصراع ضد شيطان اللذة الحسية يبدأ قبل فترة البلوغ المضطربـــــــــــــــة. »(17)
أثبت فرويد عند قيامه بتجارب في مجال الطب النفسي أن الإنسان يكبت معاناة الطفولة إلى مرحلة متقدمة من العمر، وهذا ما وجدناه عند بيراندللو أثناء تعبيره عن معاناته بلفظة كابوس، فالكابوس الذي عانى منه بيراندللو هو حادثة الخيانة التي عاشها في صغره وبقي يتألم منها والتي أصبحت جزءا من حياته لم يستطع نسيانها أو تناسيها.
إن الاضطراب النفسي عند بيراندللو أعطاه قدرة وقوة الإبداع، وفي هذا الصدد يرى عز الدين إسماعيل أن« الشخص العصابي يخضع في صورة غير واعية لنظام يقلع فيه عن بعض المتعة أو القوة، أو هو ينزل بنفسه الألم كيما يضمن نوعا آخر من القوة أو نوعا آخر من المتعة. »(18)
وهذا ما يسمى في علم النفس بالمعادل النفسي، فالإنسان الذي حرم في حياته من متطلبات الواقع كالحب والهجران والحرمان… يلجأ إلى وسيلة تغطية عجزه عن طريق الصبر من أجل تحقيق أشياء أخرى تعوضه ذلك الحرمان، فبيراندللو أراد أن يستحضر معاناته الطفولية عن طريق (التداعي الحر) ومن ثم إعادة إحيائها بكل تفاصيلها ليتخلص منها لأنها كانت مدفونة في داخله، فبقدر شدة الألم يكون الإبداع قويا، فيتحول هذا الإبداع إلى لذة معادلة لذاك النص، فبيراندللو كانت علاقته باللاشعور أكثر من علاقته بالشعور لأنه كان يعيش خبايا نفسه الطفولية، أما الحاضر فلا نجد له أثرا كبيرا في حياته. سوى لحظة الإبداع والكتابة فقط.
فعوض أن يتخذ بيراندللو طريقا سلبيا تجاه معاناته اتجه إلى نوع من المعالجة النفسية التي عرفها علماء النفس بأنها« تحويل طاقة دافع مدان من موضوع أصلي تريد أن توجه له إلى موضوع آخر بديل مقبول اجتماعيا، وهذه العملية تتم أساسا على مستوى لا شعوري، على نحو ما يحدث للمراهقين من تحويل طاقة الدافع الجنسي القوية لديهم نحو موضوعات لا يعارضها المجتمع بل يحبذها ويحث عليها كالرياضة والفن والخدمات الاجتماعية والتحصيل الدراسي والهوايات المختلفة.»(19)
كان بيراندللو مخيرا بين أمرين وهما: الانتقام من المجتمع لأنه حرم من أبسط الأشياء التي تمتع بها غيره من الناس وهو الاستقرار النفسي والعائلي أو تحويل طاقته السلبية إلى أحاسيس إيجابية وهذا ما فعله، فقد استغل طاقته السلبية من خلال التفريغ عن طريق الفن والكتابة، وهذا ما أسهم في بناء وتطوير مسرحه.
أثبتت الدراسات أن الإنسان يسقط في كتاباته أشياء دفينة عاشها في فترة معينة، استنادا إلى ما أكده كل من أرسطو Aristote)) وفرويد (Freud) ونيتشا (Nietzsche)على أن الكتابة هي عملية معالجة نفسيةPsychodrama))، فحادثة الخيانة بقيت بعد خمسين سنة »كأنها بكر في نفس بيراندللو، يتقزز منها ويشعر بالسفلية والنذالة وحقارة التصرف الإنساني السري والمكتوم. « (20)
وبالفعل عكست مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) واقع بيراندللو، حيث يتواجد في شخصية الأب الذي تحمل عناء خيانة زوجته عند التحاقها بسكرتيره، وحاول أن يجمع شتات العائلة بعد وفاة الزوج غير الشرعي أثناء سفره للعمل خارج إيطاليا، وهذا يعكس صبره وتحمله الصعاب، فمسألة الخيانة أثرت في حياته الطفولية. ورغم فعلة الزوجة أشفق على الأسرة بعدما توفي الزوج غير الشرعي، وجمع شمل العائلة، مشبها زوجته السابقة بقشرة البيض الفارغة بقوله :
« قشرة البيضة…إنها الشكل الفارغ للعقل حينما لا تملؤه الغريزة العمياء. فأنت العقل وزوجتك الغريزة.. »(21)
يتضح تعاطف بيراندللو مع زوجته بشكل كبير في المسرحية، وهذا راجع إلى أزمة الطفولة لديه عندما رأى والده – الذي كان يدعي المثالية- يخون والدته التي كان متعلقا بها كثيرا، وواقع زوجته المصابة بمرض الهلوسة، فقد أثبت فرويد أن المحبة الزائدة للأم في الطفولة تتحول على نحو مفاجئ إلى كبت وتسمى بعقدة أوديب.(22)
إن خيانة والد بيراندللو لزوجته تحت مرأى منه جعله يتقزز ويميل إلى حب الجنس الأنثوي ويتعاطف معه وينفي العقل عن المرأة ويعتبرها وسيلة هشة سهلة للضياع مثلما وجدنا أثر المرأة الضحية في مسرحية(ست شخصيات تبحث عن مؤلف)(الأم-الأخت- الزوجة)، والهدف من ذلك هو استقامة المجتمع وعدم تشتته، فالأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع.
كما يتجلى إسقاط الواقع على المسرحية في شخصية الابن الشرعي الذي انتقد وضع والده الذي سمح لزوجته لكي تهرب مع عشيقها قائلا:
«أولا: فسح المجال لزوجته بالالتحاق بسكرتيره بعد أن طرده لاحظ قلقها واضطرابها الشديد فقرر ترك المجال لزوجته لكي تنعم بالحياة التي تريدها .
الأم: ( بعنف) دفعني إلى ذلك، دفعني إلى ذلك والله على ما أقول شهيدا.
المدير: عفوا، ولماذا لم تطرد سكرتيرك هذا؟
الأب: هذا ما فعلته بالضبط؟ ولكني رأيت بعد ذلك هذه المرأة المسكينة تجول بمفردها بين جدران المنزل كمخلوق بائس ضائع، كأحد الحيوانات الضالة الذي تأخذك به الشفقة فتؤويه.»(23)
ينتقد الابن الشرعي موقف والده الايجابي تجاه والدته، فلم يتجرأ على مناداتها بأمي وإنما اعتبرها زوجة لوالده بسبب حرمانه منها عندما تم نقله إلى الريف لينشأ نشأة صالحة بسبب استهتارها، فالحرمان جعله يرغب في الانتقام منها وتعذيبها، فقد أثبت فرويد في كتابه (مستقبل وهم) أن كل الضروب من الحرمان والرغبات الغريزية التي يعاني منها الإنسان تعاود الولادة.(24)
فرغم محاولة الأب إنقاذ ولده بإرساله إلى الريف لينمو نموا سليما، إلا أن دور الأم والدفء الأسري لا يغيب مهما عوضته المربيات، فالابن ازداد حقده على والدته، وظهر في سلوكه عند قيامه بتحريض والده من أجل طردها وعائلتها من البيت .
غير أننا نتساءل عن سبب سماح الزوج لزوجته بالالتحاق بسكريتيره رغم أن سلطة القانون والاقتصاد والمجتمع من نصيب الرجل؟ في هذا المقام أثبتت الدراسات التي أجراها فرويد في مجال الطب النفسي أنالمرأة تمتلك سلطة أعلى من سلطة الرجل وهي: السلطة العاطفية، إذ يرى «أن المرأة غالبا ما تمتلك هذه السلطة بشكل سلبي، فتعطي نفسها بشكل بارد أحيانا وبشكل مهدد ومخيف أحيانا أخرى مما يحول الرجل إلى عاجز رهابي، ويعطي المرأة في ذهنه صورة رمز الافتراس والخطر، وعلى هذا تتحول المرأة في نفسه هي أيضا من السلبية إلى الفاعلية.»(25)
فإعراض الزوجة عن زوجها لأيام وانشغالها عنه كان بمثابة انهيار عاطفي حدث له، فقد أراد التخلص من زوجته قصد التنفيس من حدة معاناته، فقد أثبت (علم الاجتماع) أن العلاقة بين الزوجين تكمن في دقائق الأشياء التي يصدرها أحد الطرفين نعتبرها ثانوية أو لا قيمة لها أو لا معنى لها، غير أنها تساهم في بناء أو هدم الأسرة . (26) فالخيط الرابط بين الزوجين يعتبر رفيعا جدا وهشا، يعادل وضع عائلة الست شخصيات، فعند شعور الزوج بإهمال زوجته له التي كانت طوال الوقت شاردة الذهن، جعله يتخذ قرار التخلي عنها والتخلص منها رغم حبه الشديد لها، والدليل على ذلك إيوائه لها بعد خيانتها له ووفاة عشيقها.
إن بيراندللو الذي يلعب دور الأب فسح المجال أمام زوجته للالتحاق بسكرتيره بعدما يئس من وضعها، فكانت تتنقل بين الغرف شاردة الذهن كأحد الحيوانات الضالة، فقد صور حال زوجته الساذجة التي تتبع رغباتها النفسية،والتي تسببت بتشتيت أسرتين:
1-أسرة الأب: اضطر الأب لنقل ابنه إلى الريف ليتلقى تربية سليمة بعيدا عن أمه الساذجة، فنشأ حاقدا ناقما على مجتمعه وعلى والده بسبب فعلة والدته الشنيعة.
2-أسرة الزوج غير الشرعي: نتج عن علاقة الزوجة بالسكرتير ثلاثة أبناء غير شرعيين، حيث استغلت الابنة لخدمة الهوى بعدما اضطرتها الظروف لذلك، فكانت عرضة للخطر لولا تدخل الأب لإنقاذ الوضع.
فرغم ما تسببت به هذه المرأة الفارغة -كما اعتبرها بيراندللو- يدعو الأزواج إلى فسح المجال أمام زوجاتهن ورعايتهن وعدم التخلي عنهن، حيث صور نفسه في المسرحية على أنه البطل الذي سيخلص زوجته من معاناتها بعد تفكك عائلة الزوج غير الشرعي.
وهذا ينطبق على حياة بيراندللو أثناء صبره على زوجته عند مرضها، وفي هذا الصدد يصف إليا الحاوي وضع زوجة بيراندللو قائلا: إن عافيتها انهارت إثر الوضع الأخير، وارتبكت أعصابها، ومع أنها عولجت، فقد كانت تنحدر رويدا رويدا في هاوية ذاتها وتطبق عليها جدران العالم بنوع من السوداوية التي لا ينجع فيها دواء. ومن الانهيار العصبي إلى الهلسنة، إلى الجنون المطبق والقيام في مصّح الأمراض العقلية. وتلك الغيرة العدمية الصفراء التي كانت تتآكله.(27)
مما سبق يتجلى رسوخ بيراندللو المتجذر بأرض المعاناة لأن وجوده كفنان يتغذى على مصائب الناس وخاصة إذا كانوا من أقربائه، ففي مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) صور بيراندللو الأب الشرعي (المدير) على أنه المخلص للأسرة رغم خيانة الزوجة وإنجاب أبناء غير شرعيين يتكفل بهم لدرئهم من الضياع وهذا لقداسة الأسرة عنده ومكانة الأنثـــى (الأم) كعماد لها. لقد عاش بيراندللو حياة مزدوجة « عاش نفسه وعاش النموذج المشوه لنفسه في فكر زوجته. فلا عجب –إذن- إن هو تساءل أيتــها هي النفس الحقيقيـــــــــــــــة. »(28)
كما تناص موقفه مع تجربته الخاصة عند ملازمة زوجته وهي مريضة ولم يتخل عنها دراية منه بمكانة الأمومة ومعاناته في صباه.
ج-فلسفة عنوان (ست شخصيات) عند بيراندللو:
يطرح العنوان الذي وضعه بيراندللو(ست شخصيات تبحث عن مؤلف) تساؤلا فلسفيا جوهريا مفاده: من هو المؤلف هل هو بيراندللو أم القدر؟ وأيهما أفضل الفن أم الحياة؟ كتب بيراندللو مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، مثلما الله تعالى يكتب حياة البشر إلا أنه عجز على أن يصوغ لهم قالبا فنيا، وترك لهم المجال والحرية لخط قدرهم والمقطع الموالي تظهر رغبة العائلة في أداء دورها ولو لمرة واحدة:
«الأب: نريد أن نعيش يا سيدي؟
المدير: (في تهكم)..إلى الأبد ؟
الأب: لا يا يسدي.على الأقل لحظة واحدة فيكم .
أحد الممثلين: شيء غريب…شيء غريب ؟
الممثلة الأولى: يريدون أن يعيشوا فينا؟» (29)
في هذا المقطع تظهر رغبة العائلة في أن تخط قدرها وتسرد مأساتها دون تنميق وهذه مسألة جدلية فلسفية تبين أن شيء من الله يتواجد في ضمائر المخلوقات والمقطع الموالي يوضح ذلك:
« المؤلف الذي خلقنا كائنات حية لم يرد، أو لم يستطع بعد ذلك أن يضعنا ماديا في عالم الفن وهذه جريمة شنيعة يا سيدي لأن من قدر له أن يولد شخصية حية يمكنه أن يهزأ حتى من الموت. ولن يموت أبد.» (30)
لذا تأتي الست شخصيات لطرح مأساتها وترفض أن تمثل(تسير) أدوارها، بل يجب أن تؤدى لأن الله تعالى كتب عليها مأساتها وخط لها قدرها كما شاء وهذه مسألة عقائدية طرحتها العقيدة الإسلامية: هل الإنسان مسير أم مخير ؟
وقد فصل بيراندللو في ذلك، وكان خيار الأسرة الورقية أن تعرض مأساتها الحميمية دون مركب نقص لتتجلى الحقائق ومنها على الأخص أن المؤمن مصاب ولن يتم الرضا عن النفس إلا بكشف سترها ولو دعاء وتضرعا إلى المولى، وبما أن الإنسان خليفة الله في الأرض فقد نفخ من روحه في الشخصيات، وعرضها على المشاهد ليقنعه بأن الأرواح لا تسير كالأجساد ولا تخضع لعقل بل إلى نفس.
في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) -بينما كان بيراندللو يكتب مأساتها- خرجت من خياله لتواصل طريقها وتخط قدرها بنفسها، أما في مسرحية (لعب الأدوار) نجد أن الممثلين ملزمون بأداء أدوارهم، وكان البعض منهم يتذمر أحيانا من الدور الذي أسند إليه. وتسيير الإنسان أو تخييره مسألة عقائدية طرحتها فرقة الجبرية عندما اعتبرت أن الإنسان« مجبور في أفعاله: لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار.» (31) وهذا هو وضع الممثلين الذين هم مجبرون على أداء أدوارهم كما هو مكتوب في نسخة المسرحية بينما يذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الإنسان مخير في أفعال الخير والشر وهذا مصداقا لقوله تعالى:
« فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.»(32)
فالاختيار ترجيح الشيء، وتخصيصه، وتقديمه على غيره، وهو أخص من الإرادة، وله عند القدماء معنيان:« الأول كون الفاعل بحيث إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، والثاني صحة الفعل والترك، بمعنى أن المختار هو القادر الذي يصح منه الفعل والترك، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك. والمقصود بحرية الاختيار القدرة على اختيار أحد المقدورين، أو اتصاف الإرادة بالقدرة على الفعل دون التقيد بأسباب خارجية. والقول بحرية الاختيار مذهب الذين يرون أن للمرء فيما يريد أو يفعل، حرية أو قدرة واستطاعة عليه.« (33
وهذا هو وضع الست شخصيات التي عاشت المأساة وخيّر كل فرد من أفراد العائلة بين الخير والشر، فمثلا إتباع الزوجة لعشيقها هو من محض إرادتها.. لذا رغبت العائلة أن تعرض دورها الذي قدره الله تعالى لها:
«الأب: لا يا سيدي: إني أمثل كأي إنسان الدور المقدر له تمثيله. (34)
يندهش المدير ويسخر من الأب قائلا:
“المدير: (في دهشة مصطنعة وساخرة ) وأنت وهؤلاء حولك ولدتم شخصيات؟
الأب: فعلا يا سيدي: وشخصيات حية كما ترى.»(35)
ويضيف الأب قائلا:
«الأب: لم تر شيئا مثل ذلك في حياتك، لأن المؤلفين عادة يخفون دقائق عملهم. عندما يرى المؤلف الشخصية تحيى حياة حقيقية أمامه…. لا يفعل شيئا أكثر من مجرد تتبعها في كلماتها وحركاتها التي توحي هي نفسها بها إليه. والواجب أن يحترم رغبتها. والويل إذا لم يطع أمرها.. فعندما تولد شخصية، تكتسب في الحال الاستقلال حتى عن مؤلفها نفسه..ويمكن أن يتخيلها الناس في مواقف لم تخطر قط على بال المؤلف-وتكتسب في بعض الأحيان أيضا معاني لم يخطر على بال المؤلف على الإطلاق أن يصفها بها. «(36)
نجد في المقطع المذكور أن بيراندللو أعطى للشخصية مكانة عالية واهتماما واضحا، وذلك لأن تشكيلة وتركيبة الفرد المعقدة تفسر صعوبة الوصول إلى سبر أبعاد الشخصيات إلا إذا كان الكاتب المسرحي مضطلعا بنظريات علم النفس والاجتماع والفلسفة لكي يتمكن من بعثها حية تمارس أفعالها بإرادتها، فالفروق الجسمية والعقلية والنفسية هي التي تميز فردا عن آخر، فهذا الفرد أكثر ذكاء من ذاك، وهذا أقل انطوائية من ذاك، كما أن هذا أطول من ذاك…الخ. وتلزم معرفة الفروق بين الأفراد بعضهم وبعض حتى يعامل كلا بالطريقة التي تناسبه.(37)
فقد برع بيراندللو في بناء شخصياته ضمن تركيبة معقدة تتمثل في أبعاد ثلاثة وهي :
البعد الاجتماعي: يتلخص في بيئة العائلة، فقبل الحديث عنها ينبغي تقسيمها إلى مرحلتين: المرحلة المحافظة: التي عاش فيها الابن الشرعي رفقة والده وأمه قبل وقوعها في الخطأ والمرحلة المتفتحة: بعد التحاق الأم بسكريتير زوجها حين أنجبت منه ابنة غير شرعية وولدين صغيرين. ففي المرحلة الأولى عرفت العائلة استقرارا تاما وعليه تشبع الابن الشرعي بقيم رفيعة سامية، وفي المرحلة الثانية عرفت العائلة تشرذما بسبب تدخل طرف غريب عن الأسرة وهو الزوج غير الشرعي، لذا حدث تصادم بين شخصية الأخ الشرعي المحافظة وشخصية الأخت غير الشرعية التي كانت ترتاد أوكار التلاقي، فهما متناقضان تماما، وهذا اتضح في سلوك الابن الشرعي عندما كان يرسل نظرات الاحتقار والازدراء لأمه وأخته غير الشرعية ويطلب من الوالد طردهم من البيت.
أما الجانب الانفعالي فيتمثل في مشاعر وعواطف متضاربة بين العائلة، فعدم استقرار العائلة أدى بشعور كل طرف منها بالهوان وعدم الثقة بالنفس، وقد استمدت الأسرة هذه المشاعر من الجانب الاجتماعي المضطرب الذي أدى إلى انفعالات الشخصية.
الجانب العقلي: فيما يخص هذا الجانب نجد أن مستوى الثقافة لدى العائلة مثّله الأب الذي كان دقيق الملاحظة وسريع الانتباه والبداهة والتذكر غير أن زوجته شخصية مناقضة له تماما، فلم تكن من مستوى ثقافة زوجها، فقد تفطن لخيانتها…وهذا يعود إلى سوء اختيار الزوج لشريكة حياته .. ورغم ذلك نجد أن دوره في العائلة بعد ضياعها لم ينته، وإنما أعاد بناء شملها.
ظهرت قوة الكتابة الدرامية عند بيراندللو من خلال مراعاة البعد النفسي والعقلي والاجتماعي للشخصيات، عندما أعطى درسا تطبيقيا للكتاب الذين يكتبون مسرحياتهم دون مراعاة الجوانب المذكورة سابقا، وبالتالي تموت الشخصية فور ولادتها، فمن الصعب أن يكتب المؤلف مسرحا إذا كان يجهل أبعاد الشخصية والعمق الفلسفي لها، فلابد للفنان أن يترك الشخصيات فوق الخشبة ترسم أدوارها بنفسها وأن لا يتدخل ويوجد مصائرها، فيتضح توجيه المؤلف للشخصيات بدل التطور الطبيعي السلس لها فيعطيها الحياة والوجود، ولابد للكاتب المسرحي أن يكون مبدعا لكي ينجح في عمله الفني مثلما فعل الله تعالى في البشر عندما خلقهم .
د-الألم واللذة في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف):
كان الإنسان منذ الأزل يصارع الحياة، فقد جعل الله تعالى الدنيا متقلبة، وجعل الإنسان يكابد من أجل العيش،« فالحضارة التي يشارك فيها تفرض عليه درجة محددة من الحرمان، ويسبب له الناس الآخرون مقدارا معينا من الألم، إما بخرقهم تعاليم هذه الحضارة وإما بسبب نقصها وعدم كمالها. أضف إلى ذلك المصائب التي تنزلها به الطبيعة الجامحة غير المروضة، والتي يطلق عليها اسم المقادير. « (38)
غير أن الله تعالى أعطى للإنسان متنفسا في هذه الحياة وهو الإبداع، فالإنسان لم يقف مكتوف اليدين يواجه مصيره المحتوم وإنما أخذ يجد الحلول لأزمات الدهر، فهو المخلوق المميز الذي ميزه الله تعالى بالعقل عن غيره من المخلوقات، فأخذ الإنسان يحاكي الطبيعة بشتى الوسائل كالموسقى والرقص والفن ….
وعلاقة الفن بالحياة علاقة حتمية، وتختلف درجة فهم الإنسان المبدع للحياة وإدراكه لها، وبالمعنى الحسي يختلف عن فهم الإنسان العادي وإدراكه. « ثم إن الأمر يختلف من فنان لآخر، بل ويختلف في الفنان الواحد بين حالة وحالة أو بين ساعة وساعة. تلك خصوصية الفن، أو الخبرة الفنية، بحيث لا يفيد التنكر لها أو تجاهلها. « (39)
من هذا الموقف تبادر إلينا تساؤل مفاده: هل يجب أن تنقل المآسي بطريقة مباشرة أم يجب مراعاة أحاسيس الجمهور ونقلها بطريقة لبقة وإيحائية؟ وهل يلعب الممثلون أدوارهم أم يعيشونها كما هي ؟ وبعبارة أخرى: هل الفن بحاجة إلى ألم أم أنّه بحاجة إلى مزيج من اللذة والألم أي إلى خلط بين الحقيقة والإيهام ؟
سبقت الإشارة إلى أن الممثلين عندما شرعوا في أداء تجربتهم كانوا في غاية من الانبساط لأنهم سيظهرون أمام الجمهور في عرض مسرحي وستكتب عنهم الصحف والجرائد والمجلات، فكان كل واحد منهم يسعى إلى تغيير مظهره بوضع مساحيق التجميل ليظهر أمام الناس.
دخلت العائلة المكونة من ست شخصيات مقتحمة قاعة العرض تريد أن تجسد المأساة بملابس سوداوية تعكس حالتها النفسية وشقاءها، فالست شخصيات تمثل الألم(الواقع)، أما الممثلون يمثلون اللذة(الإيهام) ويريدون إيهام المتفرج بأنهم يتألمون، لهذا حدث جدل كبير بين الفريقين وفي النهاية انتصر الألم على اللذة، وهذا نتيجة صدق العائلة في عرض مأساتها، فكيف لإنسان لم يعش تجربة ألم أن يتألم ؟! فالست شخصيات كانوا بحاجة إلى التطهر من درن الحياة والمنفذ الوحيد للتفريغ هو المسرح، فاقتحموه رافضين مساحيقه متشبثين بطبيعتهم يتوسلون إلى المدير طرح مأساتهم كما هي:
«الأب: بالضبط، وما دمت لا توجد نسخة للمسرحية وعندك لحسن الحظ الشخصيات بدمها ولحمها..
المدير: أوه جميل! أتريد أن تفعل كل شيء بنفسك؟
تمثل وتظهر أمام الجمهور؟
الأب: نعم نظهر كما نحن
المدير: أوه… أؤكد أنكم ستقدمون عرضا رائعا.»(40)
لم تكن العائلة بحاجة إلى نسخة لحفظ أدوارها كما هو الحال بالنسبة للممثلين الذين استعانوا بالنص، وهم بحاجة إلى الحفظ الجيد لإنجاح العرض والمقطع الموالي من نسخة المسرحية عبارة عن إرشادات للممثلين، وهي تؤكد على الحيوية والبهجة والمرح :
»من الأفضل أن يرتدي الممثلون والممثلات ملابس فاتحة زاهية تعبر عن البهجة. وأن يؤدي الممثلون المشهد الأول بطريقة طبيعية حافلة بالحيوية. ويمكن في أي لحظة ما أن يجلس أحد الممثلين إلى البيانو ويعزف بعض المقطوعات الموسيقية الراقصة فيبدأ الممثلون والممثلات الأكثر شبابا في الرقص.» (41)
واستنادا إلى ما سبق يتضح أن العائلة الورقية تخاطب ذهن المتفرج من خلال عرضها لمأساتها الواقعية وكأنما يريد الكاتب أن يعلمنا بأن السيطرة على المنبه الذهني لا يتم إلا من خلال إثارة النفس لما لها من سطوة على كياننا، وبحكم أن اللاوعي هو خزان الأحداث المؤلمة فقط، قام بتوعية اللاوعي من خلال الألم لما له من أثر على النفس قبل الجسد، وأما الممثلون يوهمون المتفرج بالأحداث وهنا تظهر الجدلية والعمق الفلسفي للمسرحية. ويتضح لنا جليا أن بيراندللو سلط الضوء على الست شخصيات وأعطاها الأحقية في مسرحيته عن طريق مخاطبة ذهن المتفرج، وهذا ما يدعو إليه الاتجاه الواقعي فهو »يقدم بشكل عام، صورة للواقع تمثيلا للحياة كما نعيشها «(42) فـ »الفن لابد أن يلتحـــــم بالحيــــــاة «.(43)
وعليه يدعو لويجي بيراندللو الكتاب أن يكتبوا عن واقعهم وأن يخاطبوا عقول المتفرجين بطريقة عنيفة ليوقظوا فيهم الإحساس والمعاناة، لا إلى إغفالهم وتنويمهم وخداعهم بالمساحيق والصور المزيفة، فقد جسد الكاتب في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) واقعه السوداوي الذي انتشرت فيه رذيلة الخيانة التي تركت وقعا كبيرا في نفسيته وحاول أن يتطهر منها عن طريق الكتابة.
ه-التجريب في مسرح بيراندللو:
التجريب هو« عمل أو فعل أو نشاط يؤدي إلى سلسلة من أحداث غير متوقعة تشكل أثرا أدبيا أو فنيا.»(44) ظهرت محاولات عديدة للتجديد في الأشكال المسرحية من الستينات حتى الثمانينات، فالمسرح يعتبر مخبرا تجريبيا « لا يجب أن يصور الواقع اليومي على نحو طبيعي،بل يصور تلك الالتماعات التي لا تطالها الكلمات.» (45)
اعتبر بيراندللو نقطة انطلاق لحركة درامية جديدة ظهرت بفرنسا وأطلق عليها مسرح الطليعة ويقصد بذلك ضرورة « صنع قوالب فنيّة جديدة للتعبير عن أحاسيس الإنسان المعاصر، وعلى ضرورة تطويع المسرح، بحيث يصلح لما تحمله كتاباتهم من تجارب ثورية وأبعاد ميتافيزيقية. »(46)
عمد لويجي بيراندللو في مسرحه التجريبي إلى اكتشاف أساليب جديدة، فالمسرح بالنسبة له يجب أن يكون مخبرا تعالج فيه مشاكلنا النفسية والاجتماعية والاقتصادية في إطار فني واقعي،فالمسرح ليس للأحلام والخيال.
طرح بيراندللو إشكالية التجريب من خلال التساؤل التالي: هل نخاطب الذهن لنوقظ العقل لإحداث ثورات وانقلابات على أوضاع غير مرغوب فيها أم نلجأ إلى الانفعال والوجدان كي نطرحها أم إلى التظاهر وتبني قضايا الغير كأنها قضايانا ؟
مزج بيراندللو بين العديد من المدارس المسرحية في مسرحيته (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ، كمدرسة بريخت التي تخاطب الذهن وتهدف إلى إيقاظ وعي المتفرج ومدرسة ستانسلافسكي التي تخاطب الوجدان والشعور،وتتمثل في مسألة الزيف في نقل العواطف والمدرسة الواقعية التي تدعو إلى استنباط الظواهر من الواقع المعاش. حيث يتجلى التجريب في مسرح بيراندللو عند دخول العائلة الورقية إلى المسرح متأقلمة مع الأوضاع جاهلة المدارس المسرحية الفنية محطمة إطار الاحتراف ولتفرض وجود العصامية الواقعية.
والحقيقة أنّ محاولات بيراندللو التجديدية وبخاصة في هذه المسرحية « لاقت رفضا عنيفا من النقاد، أولئك الذين حاولوا أن يصفوا بيراندللو بخلوه من الإنسانية، لأنه يضفي على شخصياته أبعادا ذهنية لا محل فيها للعاطفة، وبخلوه من الفنيّة لأنّه يصنع مفارقات لا منطقية يصل منها إلى معادلات فكرية لا أثر بها للحياة.»(47)
فاقتحام الخشبة بالنسبة للممثلين كانت كأنها صدمة عارمة(Electrochoc)أصابت القاعة. فقد تعمد الكاتب استعمال كلمة (تجربة) ليثير انتباهنا إلى المسرح التجريبي الذي يعمد إلى اكتشاف تقنيات جديدة على خشبة المسرح وذلك أثناء انتظار المدير فوق الخشبة:
« مدير المناظر: في هذا الوقت؟
(ينظر إلى ساعته)
لقد بلغت الساعة العاشرة والنصف الآن. سيصل المدير بعد لحظات لإجراء التجربة.» (48)
فالتجريب يعتمد على أكاديمية ومعرفة بالمدارس المسرحية واكتشاف أساليب جديدة، فالمسرح بالنسبة للكاتب يجب أن يكون تجريبيا دائما، لأنه قاعة علاج نفسي من خلال طرح قضايا مصيرية، فالست شخصيات يمثلون خلاصة تجربة حياة والممثلون في مسرحية (لعب الأدوار) يمثلون بداية التجربة، ومسرحية لويجي بيراندللو بلا فصول ولا مناظر ويتوقف التمثيل خلالها مرتين كالآتي:
« ملحوظة مهمة. هذه المسرحية بلا فصول ولا مناظر، يتوقف خلالها التمثيل مرتين. المرة الأولى لا يسدل فيها الستار، وذلك عندما ينسحب مدير الفرقة ومعه كبير الشخصيات، ليكتبوا السيناريو، ويخلي الممثلون المنصة. والمرة الثانية عندما يسدل العامل الستار عن طريق الخطأ.»(49)
من خلال ما سبق يمكن اعتبار التحولات الجديدة التي طرأت على فضاء العرض المسرحي مثل إلغاء الستارة من شروط العرض واختزال نظام الفصول والاقتصاد في الديكور يدخل ضمن المسرح التجريبي.(50) فالستار كان مرفوعا منذ البداية ولم يسدل إلا مرة عن طريق الخطأ، وهذا يبين غياب الحاجز بين الجمهور والممثلين لأن الممثل بدوره أصبح متفرجا، فالكاتب يعمد إلى اكتشاف أساليب جديدة، فمسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)ليست مسرحية بالمفهوم التقليدي التي تحتوي على فصول ومناظر، بل هي درس نظري و تطبيقي في الدراما.
و-بيراندللو واثبات الذات ثنائية (الحياة /الموت) :
أثبت بيراندللو تجربته عند دخول العائلة ليتقاسم مأساة الأسرة علنا مع المجتمع (الجمهور ) وأن يثبت مكانة التجربة الوجودية في المسرح، ولأن المسرح فكر وتحليل قبل أن يكون فنا ومساحيق، وهذا طبقا لمقولة شكسبير “أعطيني مسرحا أعطيك شعبا عظيما “، فالمسرح مخبر لاكتشاف أساليب علاجية لآفات اجتماعية، وهنا يتضح الفرق بين ثنائيتي الحياة والوجود أي عندما نحيا لنعيشVivre)) وعندما نحيا لنثبت وجودناSurvivre))، فإثبات الذات هو إثبات للوجود.
فمسالة إثبات الذات لا تتحقق إلا عن طريق التمتع بأنا فاعلة في الوجود، فالحياة قائمة على الصراعات التي نجدها في صميم المجتمع، والتي تتميز بشدتها، ودرجة وعي الفاعلين الذين يشاركون فيها، وطبيعة وبنية رهاناته. من الممكن أن تصل هذه الصراعات إلى مستوى من العنف، وهي قد تقوم على توزيع الثروات، أو الوصول الى السلطة وترويج الأفكار، أو تحويل القواعد. وتأخذ شكل لعبة حصيلتها صفر(ما يربحه أحدهم يخسرهالآخر)، وإيجابية (من خلال دمج التعاون والمواجهة)، بل تكون أحيانا سلبية(حيث لا يوجد إلا الخاسرون).(51)
فجوهر مسرحية بيراندللو هو الصراع من أجل إثبات الذات وتحقيق الوجود، غير أن الصراع تمركز حول دائرين:
1-صراع الشخصيات مع بعضها.
2-صراع الشخصيات مع الممثلين .
يسعى كل فرد من الأسرة إلى إثبات وجوده، وجوهر الصراع في هذه المسرحية هو صراع حول المرأة (أخت – أم -زوجة –ابنة) فقد أراد الجنس الأنثوي إثبات وجوده واحتلال المركزية ، فهاهي الفتاة الشابة غير الشرعية التي « كانت ترتدي ثياب الحداد، ولكنها تتعمد أن تبدو أنيقة في هذا الرداء.« (52) تحاول الظهور أمام الآخرين رغم مصائبها، فقد أثبتت الدراسة أن المرأة تعاني ماديا ومعنويا من المجتمع وقوانينه الجائرة،(…) ولكنها لا تفقد رغباتها ولذاتها (وإن كانت تقمعها إلى حين) ويتحول الألم إلى لذة.(53)
إن شخصيات مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ولدوا أحياء »من خيال المؤلف، بعد أن فشل في صياغة قصتهم في قالب فني فانطلقوا إلى حال سبيلهم.»(54)إن الإنسان يموت ويموت المؤلف وهو أداة الخلق، ولكن الشخصية تبقى في الحياة لأنها بذورحية وجدت الفرصة لكي تنمو في منبت خصب: خيال عرف كيف ينميها ويغذيها ويبعث فيها الحياة إلى الأبد.» (55)
فالهدف الأسمى للعرض هو مشاطرة المأساة التي كانت مهمشة بالنسبة للكاتب مع جمهوره وقرائه، فالعائلة لم تخلق لتعيش وإنما لتطرح فكرها وهذا مصداقا لمقولة ديكارت:”أنا أفكر إذن أنا موجود”.
ز-ملامح العبث في مسرحية (ست شخصيات):
الاتجاه العبثي هو اتجاه فلسفي برجوازي يسعى إلى التأكد على عدمية الحياة بشكل مطلق يتعدى النسيج الدرامي ليشمل كل جوانب الواقع. (56) يعتبر بيراندللو رائد المدرسة العبثية حيث انتهج الكتاب نهجه من خلال اتخاذهم من « اللامعقول L’absurde مدارا لمسرحياتهم ورواد هذه الحركة: أرتو أداموف وصموئيل بكيت ويوجين أونيسكو وتوفيق الحكيم في مسرحية يا طالع الشجرة.» (57) كل هؤلاء الكتاب يعدون من رواد مسرح الطليعة وهي حركة « تدعو إلى التغيير. وأي مسرح يجرؤ على أن يصف نفسه بالطليعة مطالب بأن يستعمل وسائل وأدوات وتقنيات وأشكال حرفية، لها من الخصائص مالا توجد لسواه، إلا في حالات نادرة في تاريخ الأدب العالمي.» (58)
والعبث هو فعل لا يترتب عليه فائدة أصلا، أو هو فعل لا يترتب عليه في اعتقاد الفاعل فائدة، أو تترتب عليه فائدة لكنها لا يعتمد بها في نظر الفاعل، وإذا فعل المرء فعلا لا تترتب عليه فائدة، أو ليس له فيه غرض صحيح قيل إنه يفعل ذلك عبثا.(59) يتجلى العبث عند بيراندللو في تصوير شخصيات فلسفية في صورة غير لائقة بها كما فعل عندما ألبس سقراط ملابس طباخ:
« المدير: (ينهض مشيرا بيده) والآن انتبهوا جيدا: هنا المدخل الرئيسي. وهنا. المطبخ. (إلى الممثل الذي يمثل دور سقراط) . ستدخل وتخرج من هذا الباب…..»(60)
إلى أن يقول:
«الملقن: (يقرأ) عندما ترفع الستار، يظهر ليوني جالا مرتديا قبعة طباخ ومئزرا يخفق بيضة في وعاء ملعقة خشبية. فيليبو كذلك يرتدي ملابس طباخ يخفق بيضة أخرى. جويدو فينانتسي ينصت جالسا.»(61)
نرى أن فيليبو الذي يلعب دور سقراط يرتدي ملابس طباخ ويخفق بيضة في مسرحية (أداء الأدوار)، حيث نجد أن التوجيهات التي استعملها بيراندللو غير جدية والأدهى والأمر أن المواضيع المسرحية تستورد.
«المدير: (يهب واقفا) مضحك! مضحك! وماذا أعمل؟ لا ترد إلينا الآن من فرنسا مسرحيات جيدة. مضطرون لعرض مسرحيات بيراندللو والعبقري من يفهمها، مسرحياته مكتوبة قصدا بشكل لا يرضي الممثلين ولا النقاد ولا الجمهور.»(62)
يتجلى العبث من خلال « تحطيم العلاقات المنطقية بين الأشياء، وقلب الأوضاع المألوفة بين الأشخاص، والكشف عن قصور اللغة في التفاهم بين الناس، بحيث يؤدي هذا كله إلى خلق عمل فني متكامل يقوم على أسس فنية من نوع جديد، ويؤدي إلى متعة فنية هي الأخرى من نوع جديد.»(63) إنّ أساس الفن هو إعادة ترتيب العلاقات وفق تشوييه لا يتناسب بين الحقيقة والواقع، انطلاقا من رفض العلاقات القديمة، وهذا يدخل ضمن التغريب المتطرف الذي يرفع الأشياء أو ينزلها مكانتها إلى درجة غير معقولة. فالعبثية تسعى إلى قلب العلاقات حتى لا تستقيم مع أي منطق، وهو مبدأ الشك وإدانة كل شيء في الحياة .
ح-معاني الشخصيات ودلالتها في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف):
نشأ الأدب الرمزي في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وكان أبطاله رجالا بعيدين عن المسرح وعلى رأسهم ملارميه(Mallarmé ( وريمبودRimbaud) ( وبودليير Baudelaire)) ، وظهر نتيجة الرد على المذهب الواقعي والطبيعي ونعني به «الأدب الذي يقرؤه القارئ العادي فلا يفهم منه إلا ظاهره، أما القارئ المتأمل فيفهم منه هذا الظاهر، ولكنه لا يقف عنده، بل هو لا يكاد يمضي في القطعة الأدبية الرمزية حتى يبهره ما تحت سطحها.»(64)
يغلب الطابع الرمزي في مسرحيات (المسرح داخل المسرح) ، وعليه تؤكد آن أوبرسفيلد (Anne Ubersfeld) أنه « يكفي أن تكون هناك رموز مسرح تفرض نفسها على عدد من الممثلين الحاضرين فوق المنصة لكي يمكننا التحدث عن مسرح داخل مسرح.» (65)
برع بيراندللو في استخدام البعد الرمزي في مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، إذ تجاوز الأنماط المألوفة إلى أنساق دالة، لأنه يريد إحياء قيم متجذرة في الإنسان من خلال مزجه بين قيم سامية في الإنسان وقيم رذيلة، أراد إبراز حقيقته من خلال كشفه عن جانبين متضادين فيه، جانب طيب إنساني ويقابله جانب شرير لا إنساني من خلال مقابلته بين الخصال النبيلة التي ترفع من قيمة الإنسان إلى مستوى أعلى وهو مستوى الكمال الذي لا يبلغه مهما علا،ويبقى مجرد برقع خارجي يضعه المرء تحت شعارات المثالية والدين وخصال سيئة كالغدر والخيانة و…..
تتمثل هذه القيم في التسامح الذي يمثله الأب: عندما أشفق على زوجته التي فداها بنفسه بعدما وقعت في حب سكرتيره، وإخلائه السبيل أمامها لترتبط به، وبعد وفاة العشيق،وضياع أسرة زوجته أواها ثانية إشفاقا عليها وعلى أبنائها. والبراءة التي يمثلها الطفلان بسبب أم مستهترة تسببت في ضياعهما. وصفة الشفقة التي تمثلها ابنة الزوجة التي وقعت ضحية بسبب مكر السيدة مادام باتشي..
ثم يقابل هذه الخصال بصفات تعكس حقيقة الإنسان صاحب الوجه المزدوج مناقضة تماما للأولى: وهي الحقارة وتمثلها الزوجة التافهة التي سقطت في غرام سكريتير زوجها، وارتبطت به في علاقة غير شرعية وأنجبت منه ثلاثة أبناء. وصفة الغدر والاستغلال التي مثلتها مادام باتشي التي اعتبرت كنموذج في المجتمع الإيطالي للمرأة السلبية والسيئة والانتهازية.
ورغم ما حدث للعائلة من أزمات، نجد أن سمة الحب طغت على أفرادها مما جعلها تتشبث ببعضها البعض، فحب الأم لابنها الأكبر ظاهر فيلطفها معه وحب الفتاة الشابة لإخوانها الصغار سمح لها أن تقف إلى جانبهم وهي تلوم زوج أمها على فعلته الشنيعة، وحب الأب لزوجته السابقة جعله يشفق عليها وعلى أبنائها.
وخلاصة لما سبق يتضح أنّ بيراندللو يعتبر ضحية مجتمع تخلى عن تقاليده،عكسته شخصية الأم التي تمثل الانفتاح والخروج عن القيم عندما خالفت قوانين المجتمع الإيطالي والشخصية المناقضة التي يمثلها الابن الأكبر: وهو رمز للشخصية المحافظة التي تأبى الخروج عن القيم.
وفي هذا الصدد دعا بيراندللو من خلال مسرحيته (ست شخصيات) سكان ايطاليا إلى التمسك بالأصول، واعتبر أن الصفات الدنيئة واللاأخلاقية لا تعبر عن طبيعة الشعب الإيطالي قائلا: « وإنها ليست صادرة من داخل هذا الشعب، بقدر ما هي مستوردة من الخارج، فحاول بيراندللو أن يرتد إلى تراث هذا الشعب المتمثل في كوميديا الفن.» (66)
نستنتج أن لويجي بيراندللو عاش أزمات حادة في حياته تحولت إلى عبقرية في مسرحيته، بعدما فجرها وتحرر منها عن طريق الكتابة وعرضها على خشبة المسرح ليتقاسمها مع جمهوره بعدما كانت مهمشة بطريقة إيجابية، فمعظم العظماء الذين ذاع صيتهم وفاقت شهرتهم كان سببها أزمات نفسية دفينة في الضمير الجمعي….
تتجلى عبقرية بيراندللو في:
-استخدامه تقنيات جديدة إبداعية كتقنية المسرح داخل المسرح،حيث أراد إبراز دور الممثل الناجح الذي يهدف إلى إيصال رسالته بصدق والممثل الذي يسعى إلى النجومية والشهرة من خلال مقابلته بين المسرحيتين المسرحية الإطاروالمسرحية الداخلية.
-فقهه حقيقة الكتابة المسرحية من خلال مزجه بين الاتجاهات المسرحية كالعبث من خلال إعادة ربط العلاقات المنطقية بين الأشياء وعدم وضعها في مكانها الصحيح، والاتجاه الستانسلافسكي الذي يمثله الممثلون في مسرحية (لعب الأدوار)، وهم الممثلون الذين يؤدون أدوار غيرهم دون إحساس ساعين إلى الشهرة فقط، والاتجاه الرمزي الذي تمثله شخصيات مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) والتي ترمز إلىعواطف متضاربة سلبية وايجابية تجتمع في الإنسان كالتسامح والشفقةوالغدر …. ، والاتجاه البريختي من خلال كسر الإيهام بالواقع وتحسيس المتفرج بحقيقة ظاهر الإنسان ..
– عمق البعد الفكري الفلسفي لدى للويجي بيراندللو، من خلال مساءلة القدر، واستخدامه الثنائية الضدية (الحياة /الموت) عندما كانت العائلة مهمشة (موت) ، ثم انتقلت إلى خشبة المسرح لتتقاسم المأساة وتطرحها على مسمع ومرأى الجميع ( حياة ) وهذا ما شجعها وبعث فيها الروح .
-(الألم/اللذة) فالعائلة الورقية التي هربت من المنزل متجهة إلى المسرح لعرض مأساتها تمثل (الألم )لأنها عاشت تجربة قاسية،أما الممثلون يجسدون (اللذة )لأنهم كانوا في قمة السعادة والفرح باحثين عن الأدوار التي تليق بهم وترفعهم إلى النجومية.
-اعتباره أن المسرح هو قاعة علاج نفسي لمشاكل الإنسان وهمومه، وليس مكانا للشهرة والنجومية، وهذا يدخل ضمن المسرح التجريبي، فمن مهمة المسرح التجريبي اكتشاف أشكال مغايرة للمسرح الإغريقي المتعارف عليه، فهو مسرح تجاوز الأشكال التقليدية التي أصبحت لا تساير حركة التقدم في العصر المعاصر الذي أصبح بحاجة إلى أشكال جديدة تمتص انشغالات وهموم الإنسان المعاصر.