رؤية سلعنة الثقافة وعصرنة عكاظ الشعراء
مختار عيسى
يتهم القائمون على اقتصاديات الإعلام والثقافة، خصوصا أولئك الذين يروجون للنص الإبداعي بوصفه منتوجا استهلاكيا يخضع لقوانين العرض والطلب، وآليات السوق النقدية، ومقدار القوة الشرائية للمستهلكين، أوبمعنى أدق وألصق بالحقول الدلالية للشائع الثقافي… القوة التلقوية لدى القارئين. يتهم هؤلاء كثيرا من النصوص ـ التي يشكو مبدعوها من قلة الإقبال ـ بمجافاة هذه الآليات والقواعد التسليعية، ومن ثم فإن إزاحتها إلى (مخازن) الوعي، وتكاديس الثقافة وتراكماتها تصبح ضريبة على هؤلاء المبدعين/المنتجين أن يدفعوها قسرا، أوطواعية، وعليهم بذل طاقات أعظم، والاعتماد على معينات خارج هذه النصوص لترويجها بأقل خسارة ممكنةٍ.
لايعني هذا أن هؤلاء المسلعين مجرد تجار، لهم دكاكينهم النقدية، وإعلاناتهم الترويجية سواء أكانت على هيئة نشرات أم مقالات الترويج النقدي الإعلامي والذي لايختلف في بعض مظاهره عن إعلانات البيتزا والبيبسي، أو بمحاربة البضائع الأخرى؛ فبالطبع فإن منطق العصر يفترض، أو لنقل يحرض على تطوير الإنتاج، وألا تظل مقولة «ليس في الإمكان أبدع مما كان» التي يعتمدها أتباع النقد الوثني، سيدة السوق.
قد يستهجن بعض المتابعين هذه اللغة (التجارية) في التعامل مع إبداع إنساني، وقد يرى، وأعتقد أن الحق إلى جانبه، تباينا في الوظيفة الأدائية لكل من المبدع الأدبي والمنتج الاستهلاكي… لكن هذا لايعني ـ بالضرورة ـ عدم إدراك التغيرات المتسارعة التي نقلت البشرية من امتدادات الجغرافيا والتاريخ إلى حيوز مختصرة تكاد تتلاشى في «الكبسولة الالكترونية» المسماة الكون المعاصر.
وحتى لاتستلبنا مقولات التحنيطيين الذين لايزالون ينظرون إلى الأنواع الأدبية بوصفها أنساقا غير قابلة للإفادة من السباق التكنولوجي، والإنجاز العلمي اللامسقوف، فإننا ـ تخلصا من هذه الاستلابية المخوفة ـ نشير إلى البنى المعرفية للنص المحدث إنتاجا واستهلاكا، فضلا عن الإفادة من علوم العصر وفنونه، فمن غير المقبول أن يتجافى نص عصري ومفردات القرية الالكترونية، وأن يظل الكاتب ـ شاعرا كان أم روائيا أم إخباريا يدور في فلك الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم، دون أن يعني هذا تحبيذ القطيعة مع هذا التراث جريا وراء شكلانيات حداثوية، أوحداثويات شكلانية زائفة لاتأخذ من العصر إلا مظهره، لكن المأمول أن يتخلص المبدع ـ إذا ما أراد رواجا لنصه ـ من النظر إلى إبداعه بوصفه بنية جاذبة بذاتها، تتقاطر خلفها صفوف المريدين، بل إن عليه أن يعي مافرضه عصر الصورة من وسائط أخضعت الرواج الأدبي الإعلامي لعوامل اقتصادية واستهلاكية لها قوانينها التسليعية، الأمر الذى حدا بالقائمين على هذه الوسائط إلى التقييم السعري للمنتج الأدبي أو الفني حسب درجة البعد أو القرب من مجموع الجمهور، ومن ثم يمكن إزاحة نص عظيم التمايز أدبيا وفنيا وفكريا إلى خلفية المشهد الذي تتصدره فنون أونصوص أخرى لم تدانه بنية ومحتوى لكنها تزيت برداء البهرج الترويجي، وتمسحقت بكمية هائلة من الأضواء التزيينية على نحو مايمكن أن نصفه كما أشرنا من قبل أكثر من مرة عبر الصحافة أو التلفاز بـ«الكليبات الثقافية»
إن الوقوف «الدونكيشوتي» أمام الوسائط الالكترونية ـ على سبيل المثال ـ ورفض الخضوع لآلياتها هو إخفاق ـ لاشك في وضاحته ـ في التعامل مع العصر، وسوء فهم ـ لاريب في تجليه ـ لوظيفة الأدب والثقافة.
ومن الجلى السافر أن عصر السماوات المفتوحة والفضائيات متعددة الأذرع، والأخطبوطيات السياسية والاقتصادية، والشركات عابرة القارات، قد فرض منطقه على مفردات الحياة اليومية، وأصبح اللهاث البشري وراء تحقيق الإنسان المعاصر لوجوده النوعي على شاشة الحيوات المتداخلة عائقا مختلف التجليات يحول دونه والتلقي التقليدي عبر الندوات أو المحاضرات أو القراءة الممتدة ـ على استثناءات محدودة قطعا بدائرة منتجي الثقافة أنفسهم ـ ومن ثم فإننا مطالبون بملاحقة التسارع الذي لجأت إليه ـ أو صنعته ـ فضائيات عربية وفعاليات ثقافية مؤخرا بإحياء الأسواق النقدية العربية القديمة خصوصا مايتعلق بالشعر ديوان العرب الذي جاهدت مقولات نقدية وإعلامية لإبعاده عن وظيفته لدى العربي المعاصر بعد أن حلت وزارات وهيئات ومؤسسات متباينة التوجهات والأدوات محله في تسجيله لأيام العرب وعاداتهم وتقاليدهم وقيامه بمهمات السفارة والوساطة والإعلام عن القبيلة، ولعل المثال الأجلى لهذه الإحيائية التسويقية العكاظية هو برنامج شاعر المليون الذى ملأ الدنيا ـ العربية قطعا ـ وشغل الناس ـ العرب حتما ـ لفترة طويلة نسبيا، واستطاع اجتذاب الجمهور من الشاشات الأخرى ودخل السباق السلعي الاستهلاكي عبر الرسائل التصويتية من الجماهير لاختيار الشاعر الأجدر بالحصول على المليون ـ وهو بالقطع أحد الملايين التي ساهم البرنامج في إدرارها في الجيب (البنكنوتي العربي)
لكن السؤال الملح ـ رغم الفوائد الإعلامية التي كسبها الشعراء المتبارون من فرسان الشعر اللهجي أوالشعبي أوالنبطي، وإعادة الشعر إلى بؤرة الاهتمام بما انعكس من دخول فضائيات أخرى إلى الميدان لتخريج شاعر العرب أو شاعر المليونين في ميدان الشعر الفصيح يفتح أقواسا حول الرؤية والأداة والغاية الأدبية ومدى تحقق كل منها عبر حلقات البرنامج الذي لم يحظ مشاركوه بنقد حقيقي من قبل اللجنة المخولة الاختيار بقدر ما حظوا بالبروز الإعلامي الذي سرعان ماخفت كماهي الحال مع أصحاب الكليبات الغنائية الخاطفة ؛ فكثير من المداخلات التعليقية الانطباعية حول النصوص الملقاة في شاعر المليون، أو شاعر العرب اتسمت بالعمومية والمجانية وإمكان تقديمها مع كل الشعراء، اللهم بعض الإشارات هنا أو هناك، الأمر الذي يعكس الطابع الإعلاني عن (الناقد والمنقود وبينهما الجمهور الطازج)
جميل أن يهتم العربي المعاصر بالأدب وفنونه، لكن الخطورة تكمن في هذه العقلية الإحيائية العكاظية التي تقصي ماعداها ولاتدخل إلى حلبتها سوى جياد ارتضت الركض فوق حشيشها، ولم تجرب مضامير أخرى، أعني قصر التسابق على أشكال وأغراض محددة من الشعر الذي تباينت أشكاله وأغراضه على امتداد تاريخه الإنساني الطويل.. هذا القصر تثبيت للذائقة، وإقصاء للمنجز الشعري، وعودة إلى الوراء، وأعود لأؤكد أن هذا لايعني ـ إطلاقا ـ محاولة لطرح التراث وراء الظهور، ولكن المعني هو الإيمان الإبداعي بمنطق التجاور وتداخل الفنون الأدبية ـ رغم التمايزات ـ الأمر الذي يحتم ضرورة الانتباه إلى خطورة هذه الإحيائية الإقصائية النفيوية للآخر، هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى ..هل نحن مصرون في «الكبسولة الالكترونية» على العقلية الاختزالية التأميرية الترئيسية فنقدم للعرب أميرا للشعراء، أوشاعرا لهم جميعهم ـ رغم التأطير والتحديد الشكلي والغرضي كما هي الحال في برنامج شاعر العرب على قناة «المستقلة»؟
أليس هذا تعديا على الذائقة العربية الجمعية والمتخصصة؟
ومن ناحية ثالثة.. كيف يمكن مع انفتاح البث الفضائي والعنكبوتي ضمان الحرية الواجبة للمبدع ونصه في مواجهة قيود التسابق والإغراء المادي المتمثل ـ ليس فقط في الفوز باللقب وتتويج الشاعر ـ على غرار مسابقات الجمال ـ ولكن بالجائزة (البنكنوتية) كذلك؟
هل يمرر البرنامج قصيدة لشاعريختلف مع سياسة أورؤية أصحاب المحطة التلفازية سياسيا أو اجتماعيا؟ هل تعلمت هذه المحطات جدوى احترام الآخر والدفاع عن حقه في الاختلاف حسب المقولة الفولتيرية الشهيرة؟ أم أن السباق الشعري هنا أداة من أدوات السباق السياسي فضلا عن محدودية التفكير القبلي الإغاري الاحتكاري للحكمة؟
إن الأمر هنا يخضع ـ كما قلت بدءا – لآليات العرض والطلب الاستهلاكيين، لكن المفارقة أن يجافي صاحب (فاترينة) العرض ذائقة عصره، ويصر على تقديم (المعلبات الشعرية والنقدية) مادام هو المنتج والمسوق!
جل القصائد ومعظم الشعراء والنقدة، إن لم يكن كلهم، وقعوا في براثن الأسد الإعلامي بإرادتهم؛ لأن هذا الأسد بادر بافتراس منافسيهم على الذائقة بالنفي والإقصاء وتأكيد واحدية الرؤية والأداة وإعادة الإنتاج.
قد تكون الفكرة ـ في أحد جوانبها ـ نبيلة المقصد، سامية التوجه، وقد تكون في جوانب أخرى مجرد نشاط إنتاجي استهلاكي رأسمالي، لكنها ـ حتما ـ وفي ظل توجهاتها المعلنة ذات فائدة كبرى تعيد الاعتبار للشعر والشعراء، لكن المخشي أن تقدمهم على طريقتها التلفازية المعاصرة موزعة ألقابا من قبيل (شاعر الجماهير) و(سيدة الشعر الأولى)، و(فاتنة القصيدة) و(وحش الإبداع) و(عملاق التفعيلة) إلى غير ذلك مما يتنافس عليه نجوم التمثيل والغناء، ومن ثم تصبح لدى كل شاعر أو شاعرة البطانة الخاصة التي تنتقل معه في كل مشهد مصفقة مروجة على طريقة (بص ـ شوف… وحش الشعر بيعمل إيه)!
من المهم – كما قلت بدءا ـ أن يدرك الشاعر أوالناقد أن مقولته لم تعد قادرة وحدها على جذب المريدين المتقاطرين، وأن شيئا من العصرنة واجبا لابد أن يدفعه للإفادة من الانجاز التكنولوجي والمعلوماتي فيقدم نصه عبر وسائط حديثة كالتلفاز أو الوسائط الالكترونية، أو غير ذلك من تقنيات عصر (الديجيتال) على نحو مانجح شعراء النبط في تقديمه عبر ما يسمى بالدواوين الصوتية، ولابأس في أن نرى في القريب كليبات شعرية راقية تمسح عن شاشة العقل العربي كثيرا من غبار الفضائيات التي لاتحمل سوى الأجساد العارية في مسابقات الجمال أو الأغنيات المصورة، أوحتى في أشلاء الأطفال التي تتناثر يوميا على المسطحات الفضائية بأحدث تقنيات التصوير الرقمي.