المثقف العربي بين فضائيات التحظير وزحام لا أحد
بقلم مختارعيسى
لا قيمة للكلمة التي تفقد استقلاليتها، ولا مكان لمبدع حق على خارطة الإبداع إن لم يتحرر من أي قيد تفرضه آليات سبق تجهيزها في معامل التثبيت الذائقي والتحنيط الثقافي ، كما سبق أن أشرت مرارا إلى ذلك وإلى أوجاع البلاغة العربية، وصنمية التعاريف التي أوقفت المبدع العربي قرونا عدة أمام كليشهات تعبيرية، وتوثينات تصويرية تدور حول معان مكرورة وعمود للشعر اصطنعته فئة، وخرجت بسببه قامات إبداعية فارقة من ساحة الرضا النقدي التي سجنت الذائقة بين جدران غرفة معتمة ، الضوء الوحيد فيها هو رضا سادن المعبد النقدي ، والنجاء الوحيد من عتماتها في استحسان من يملك أكياس الدراهم والدنانير، ينثرها إذا ما استوقفه مادح بأبيات مصنوعة ، مصبوغة نفاقا، ومدهونة كذبا، ولا يزييها إلا كاسي السلطان ، ولا يمررها غير ندمائه، ولا يسوغها سوى لاعبي السيرك اللغوي الراقصين على حبال الهوى أمام الأعين الرواصد، ولا تمر إلا عبر مطابعه، أو تقاريره ورجاله، وهيمنتهم على الآلة الإعلامية الجهنمية التي تستطيع بأذرعها الأخطبوطية اللامتناهية الإمساك بكلمة تحاول التفلت من سجن المسوّغ، والركض إلى فضاء الفرادة، ورحابة الإبداع.
ما من سبيل أمام المتابع لأحوال الثقافة العربية وتبايناتها التي قد يظنها البعض دليل ثراء، رغم أنها، – في نظري – دليل تعدد أشكال العسف، وتنوع أمزجة الرقباء، وفساحة أوضيق ما تسمح به الأجهزة حسب الظرف الآني، وحسابات الربح والخسارة في علاقات تجارية محض، وليس لاستقلال المثقفين واحترام توجهاتهم محل في هذه المعادلة… أقول ما من سبيل أمام المتابع لرصد مساحات الاستقلال ومُتاحات الحركة أمام المثقف العربي في ظل أنظمة أغلبها يحتكر الحكمة ويدعي الإلهام، وينوب- بكل بساطة- عن الجموع المتباينة، برأي واحد، وذائقة تتكلس غالبا في فاترينة عرض ثابتة،لا تداخلها ذوائق المتفرجين، ونظرة عاجلة إلى الراهن الإبداعي العربي تؤكد وقوعه بين شقي رحى طاحنة؛ حيث تتناوبه قوانين وقواعد فضلا عن ادعاءات ونجمنات لا يخفى أن وراءها أذرع الإعلام، حكوميا كان أم شخصيا، وقد حوّلت كثيرا من أصحاب الأقلام والفكر، وبعضهم كان الرهان عليهم جادا، والأمل عليهم معقودا، إلى مهرجي سيرك احترف أصحابه تحريكهم لإلهاء المتلقي حينا عن قضاياه الحقة، وإغراقه حينا آخر في الذاتية المقيتة التي تجزره وتحوصله، فيما هى تفعل الأمر ذاته مع الكاتب، أو المخرج أو حتى المصور؛ حتى اختلط الأمر على المراقب وصارت آلته الرقابية وحواجزه الجمركية تمرر- كما سبق القول في مقالات عدة – جسد الراقصة، ولا تسمح بعبور قصيدة، أو خاطرة، وبالقطع هناك محاولات عديدة بذلها مثقفون واعون للتحرر من هذه الشبكة بخيوطها المنسوجة بإحكام أجهزة وعلاقات مؤسسية، ولعل ما عرف في أجيال سابقة بثورة «الماستر»التي أتاحت أشكالا أقل تكلفة، وأسرع إنتاجا من الكتب والمجلات كان خطوة جادة رغم ما شابها من دخول الأدعياء وبالطبع لا ننسى المحاولات المتتالية لجماعات ثقافية وتشكلات أدبية للمروق من المؤسساتية الثقافية بأسمائها المتعددة، وتجلياتها المختلفة، ومنها «الحظيرة» بتعبير ساخر ومقيت ألقى به مسؤول ثقافي في دولة رائدة في وجه المثقفين معلنا عن قدراته «السيركوية» في اللعب على حبال الحركة الثقافية المشدودة حتما بأوتاد أمنية، واستخباراتية، وبمجرد أن ألقى لعدد من مبدعينا الذين كنا نظنهم كبارا، وكانوا يعبئون أسماعنا وأبصارنا كل يوم بفرادتهم وانحيازهم للإبداع، والإبداع وحده، بمجرد أن ألقيت إليهم بعض المنح مادية كانت أوفي صورة جوائز مشكوك في استحقاقاتهم لها بحكم غياب التنافسية الشريفة سقطوا، باستثناءات قليلة كصنع الله إبراهيم مثلا، في البئر المسمومة ودخلوا «الحظيرة» لا يجرؤون على مغادرتها طوعا وكرها،واختاروا لأنفسهم أن ينضموا إلى صفوف طويلة عرفها المتن العربي على مدار تاريخه الطويل، ممن سلبتهم أكياس الدراهم والدنانير نصاعة الموقف،وشروق النفس، وضوءنة الفكرة، بانضمامهم إلى جيش كتاب السلطة، حتى صاروا أذرعها التي تبطش بها بكل من يجترئ على المخالفة، أو يحاول مجرد محاولة الانعتاق من مكرور محفوظ ممنهج تملية دوائر القرار، حتى إن جاء في صور تتخذ تجليات مهرجانية ثقافية أو إبداعية لا تخفي على العين الرمداء وتتأكد وقوعاتها في استنساخية رؤيوية للقضايا ذاتها، في علاقة المثقف بالسلطة حتى صار الشعر والأغنية والمسرحية والفيلم والكتاب مجرد أدوات في المطبخ السياسي؛ لإعداد الوجبة اللازمة لمن يجب سد جوعهم بين الحين والآخر؛ اتقاء لغضب، أو تمريرا لموقف، أو تبريرا لخيانة، أو تبييضا لوجه اسودّ من كثرة ماعلاه من غبار أزمات متلاحقة.
والسؤال الذي يفرض حضوره هنا هو هل يمكن للمثقف تحقيق الاستقلالية، والمروق من « الحظيرة» ليلعب دوره الحق في مجتمع مفتوح يؤمن بحرية التعبير وحق الاختلاف أم أنه بالضرورة لابد واقع في شباك المؤسسة، وإلا سيق إلى غياهب التجاهل المعمود، والنفي المحسوب، والإقصاء الممنهج، فيما يُسوّد أرباع الأشباه، وأشباه الأرباع، وتكون لهم الصدارة في الحراك الثقافي، المحكوم غالبا بترسانة هائلة من قوانين الضبط والمصادرة، والحرق.
هل المؤسسة ضرورة؟…. بالطبع لا يمكن للإنسان وهو كائن اجتماعي، أن يعيش منعزلا عن الآخرين، وهو في حاجة ضرورية لتحقيق إنسانيته للتعايش معهم والتفاعل مع مخرجاتهم الفكرية والثقافية، ومن ثم فإن شكلا من تنظيم العلاقات لابد أن يقوم بين الناس في دول حديثة قد تبلورت فيها السلطات، وتداخلت وانفصلت في آن، فهل بالتالي هناك ضرورة لمؤسسة ثقافية عامة كوزارات الثقافة أو الإعلام في بعض الدول لاستيعاب الحراك الفكري والثقافي والإبداعي بصورة منظمة لا تغفل حق الفرد، ولا تتناسى دور الجماعة؟
بالقطع المؤسسة الثقافية ضرورة، لكن المؤسف أن مؤسساتنا التي تتعامل مع الواقع الثقافي لاتفترق كثيرا عن تلك التي تتعامل مع المنتج الزراعي أو الصناعي، الأمر الذي يدخل الدولة، أو نائبتها المؤسسة في )سلعنة( الفكر والنظر إليه وإلى المفكرين والمبدعين وفق قوانين تجارية كقانون العرض والطلب، وأحيانا حيث يلعب الترويج الذائقي، والتسليع الإبداعي، والنجمنة الممنهجة الدور الأكبر في في إعلاء فكرة على أخرى وتسويد ذائقة على غيرها، وإفساح المجال لتنافس غير شريف غالبا؛ حين تتدخل المؤسسة بأدواتها الترويجية أو الإقصائية؛ فتقدم ما يستوجب التأخر، وتؤخر رتبة ما يستحق الصدارة، الأمر الذي يضر بأطراف العلاقات الثقافية في المجتمع، من مبدع ومتلق، ووسيط حامل.
وليس غريبا إذن أن نجد كاتبا يتسول تكاليف طباعة كتاب يستحق أن تتبناه المؤسسة، وآخرين لا يتوقف هدير آلات الطباعة لتقديم ما يتصورون وتتصور المؤسسة المتآمرة جدارته، وهو لا يعكس إلا ما تريده السلطة عبر رقبائها، وهم غالبا بعيدون عن موضوع ما يراقبون، ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالحراك الذائقي، أو التطور الإبداعي، فلا يمررون إلا ما عرفوه وما عرفوه سوى ما اختزنته عقولهم من كليشهات محفوظة حول مثلث التابو العربي الشهير، الجنس والدين والسياسة، ادعاء بأنهم يصونون ثوابت المجتمع، وكثير من هذه الثوابت لا يرقى لهذا الثبات التقديسي؛ كونه إنتاجا بشريا قابلا للمغايرة،والاستبدال، والتجاوز والانحراف