كسكسي الوزيرة على موقد الضاد..!
بقلم: منير مزليني
في الوقت الذي كنا ننتظر أن تعلن وزيرة الثقافة عن جائزة أو حتى عن مشروع جائزة لأحسن بحث علمي في اللغة العربية، بمناسبة اليوم العالمي لهذه اللغة السامقة، تكون ذات قيمة عالمية أو عربية أو حتى وطنية، فتدخل بذلك الجزائر في مصاف الدول المساهمة في خدمة الثقافة العالمية والمشاركة في تطوير أحد أرقى اللغات السامية، وتكون قد صنعت لنفسها مجدا يدخلها التاريخ الثقافي من بابه الواسع، إلا أنها تصر على الخروج من الباب الضيق للثقافة والتاريخ بعد ما أبانت عن انتصارها لثقافة البطن على حساب ثقافة المعرفة والفكر، بالإعلان عن مشروعها الطفرة (عالمية الكسكسي)! ولهذا الأمر دلالاته الأيديولوجية والثقافية والمعرفية المستنسخة والمعروفة، والتي طالما أعيت كل من حاول معالجتها والخوض فيها. ولكن الأمر ما انفك يذكرنا بمأساتنا المستديمة والتي تشبه محنة ابن رشد مع القرامطة أو مأساة الحلاج مع الفاطميين ! وقد استغل الحاقدون هذه الفرصة لبعث فحيحهم السام وابراز حقدهم الدفين، حتى يعتلي أحد المبتذلين المحسوبين عل
ى العربية قمة مزبلته ليصيح بملء وقاحته أن: ” اللغة العربية والاسلام فشلا فيما نجح فيه ” الكسكسي” وهو توحيد أبناء شمال إفريقيا ” وهذا كلام لا يستحق الردّ ، ولكني كنت أوافقه الرأي لو قال أن العرب والمسلمين هم اللذين فشلوا فيما نجح كسكسيهم . لكن حقده على اللغة العربية والاسلام أعمى بصيرته وجعل منه بوقا لأعدائهما .. وقد تبعه في ذلك بعض المتمسحين المسترضين لمعالي السيدة الوزيرة ليتسابقوا في المساهمة في مشروعها الخالد ثقافيا ـ وإن كانت شعبية ـ فيقترحون أسماء أكثر شعبية من اسم الكسكس مثل (البربوشة) و(البومغلوث) وغيرها! حقا إن شرّ البلية ما يضحك ، وما أرى أضحك من هذه البلية (المكسكسة)!
ولكن ما كنت لأضيع وقتي في تبيان أحقية ما هو حق بالأصل، ولكن لأضع كسكسي الوزيرة على موقد الضاد، ولأقول بأن اللغة العربية أخلاق ورجولة، وهو مبحث أضيفه لما كتبته سابقا في مقالي عن اللغة العربية، الموسوم بـ ( لغة السماء والأرض). لكن كيف تكون اللغة أخلاقا ورجولة ؟!
دونما شك أن هناك علاقة وطيدة بين أخلاق أفراد المجتمع ولغتهم ، فكلما ارتقت لغتهم ارتقت أخلاقهم وكلما حطت لغتهم حطت أخلاقهم، والعكس بالعكس صحيح فكلما علت أخلاقهم علت لغتهم وكلما ضحلت أخلاقهم ضحلت لغتهم ، إذا فالعلاقة جدلية مزدوجة مادية وفكرية معا. ولا أحد ينكر أن لغة التواصل المستعمل في مجتمعنا اليوم في مختلف المجالات هي لغة هجينة لا أساس لها ابتداء من اللغة التي ندرّس بها مرورا بلغتنا المنزلية وصولا إلى اللغة المتداولة في الشارع فهي كما هو ملاحظ متدرجة في مستوياتها ، فكلما تدرجت اللغة في رقيها تدرجت أخلاق مستعمليها ، فأخلاق التلميذ أو الطالب في المدرسة أو الجامعة ليست هي في المنزل وليست هي حتما في الشارع ، وإن كادت عندنا تتساوى في الدرجة لضحالة اللغة المستعملة هنا وهناك ، فنحن ندرس أبناءنا باللهجة الدارجة ولغة الشارع أحيانا بحجة أن التلاميذ أو الطلبة لا يفهمون اللغة الفصحى والمهم أن نبلغهم الفكرة !وهذه النظرية مردود عليها علميا لأن الأفكار الكبيرة والعميقة لا تسطيع الأحمال الضعيفة والصغيرة استيعابها وحملها. وهي سبب فساد أخلاق التلاميذ والطلبة في المدارس والجامعات.. فتصور معي لو كنا نخاطب طلبتنا باللغة الفصحى وكانت هي اللغة الوحيدة المستعملة في القسم، كيف ستكون أخلاق الطلبة حتى وإن حاول المشاكسة والمعاكسة، فلغته ستمنعه من السقوط في الرذيلة والابتذال و ستحتم عليه عدم خدش الحياء لأن اللغة في الأصل راقية . وهي لا تؤثر في أفكارهم فحسب، بل سوف تتعدى إلى سلوكياتهم ولباسهم واختيارهم للأغاني والموسيقى التي يسمعونها إليها ويستمتعون بها. فماذا لو عمت هذه اللغة منازلنا وقنواتنا ولافتات محلاتنا وشوارعنا، أكيد سوف نكون ليس أرقى المجتمعات تهذيبا وذوقا فحسب، بل سنكون أيضا أكثر رجولة، متشبعين بقيم العربية وما تحمله من شهامة وشجاعة وكرم وإقدام وبسالة. فقيم اللغة التي تقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم .
ليست هي قيم اللغة التي تقول:
” صاحبي كي خويا نعرفو من زمان
درتو كيما بويا ظهر لي سم ثعبان “
أو قول الآخر :
“من بكري (نسوفري)
وكابر في (باري)
واللي يكرهنا (يكاري) “
أما في باب الغزل والتعبير عن العواطف، فالعزل الذي يقول:
هذه الدنا كتاب أنت فيه الفكر
هذه الدنيا ليال أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
ليس هو المستوى في الغزل الذي يقول :
” مازلت نخمم وخايف لتكون نساتني
مقدرتش نوالف غيرها
ذكريات.. منين نتفكر (الباصي)
نخاف نباصي . “
أو الآخر الذي يقول :
” أنا شريت ليك الخاتم
وجاي نفوج عليك
لدزيد لقلبك الهم، أنت ليا وأنا ليك
يا زينب يا زنوبة، راني نهبل عليك
باغية والا مخطوبة ، ناوي نزوج بيك ..
أكيد أن الفارق لا يقدر، والمستويان لا يقارنان ، فالأخلاق والرجولة التي هنا ليست هي هناك، والقيم والمبادئ التي هناك ليست هي التي هنا.. وأضنني في حلّ من الشرح والتفصيل أكثر. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل اللغة الفصحى ملائكية الروح والأخلاق إلى درجة أنها لا تتطرق للأمور الوضيعة والمقاربات الحميمة، والتفاصيل اليومية البسيطة الساذجة؟ أكيد ، لا .. بل على عكس من ذلك فإن براعة اللغة العربية الفصحى وذوقها الرفيع أكثر ما يتضح في مثل تلك المواقف الحميمة والتفاصيل اليومية الوضيعة والساذجة البسيطة، وتكمن براعتها في أنها تقولها وتعبر عنها دون الوقع في وحلها أو الانحدار لوضاعتها وسذاجتها ، ولتوضيح ذلك أكثر دعونا نتصفح لغتنا الراقية في أدبياتها المستظرفة حتى وهي تتطرق إلى أدق تفاصيل الحميميات أو تجوب أغوار السلوكيات اليومية البسيطة، فهي تظل راقية وبلاغتها تفرض عليها المحافظة على الذوق الرفيع، ومتى دخلت المباشرة والسطحية عدت اسفافا وابتذالا. وقد نسوق من الشعر العربي القديم أو الجاهلي أمثلة تطرقت فيها اللغة إلى قول أدق التفاصيل الحميمية دون أن تخدش حياء متلقيها أو تشعره بالابتذال والرذيلة ، كمثل قول امرأ القيس في معلقته الشهيرة والتي يقول فيها:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة *** فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معا *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه *** ولا تبعديني من جناك المعلل
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع *** الهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له *** بشق، وتحتي شقُّها لم يحول
فرغم جرأة هذا المشهد وما يليه إلا أن لغته لا تجعلنا نصدم أو نشعر بخدش في الحياء، بل تجدنا نتعجب في هذه اللغة المصورة البارعة وقدرتها على تشكيل خيال الشعراء ومجارات مغامراتهم في سلاسلة خارقة. بل إنها حتى عند الغضب تبقى رصينة ومحافظة على بهائها وجمالها، وهو ما نلمسه في قصائد الهجاء المرّ عند فطال الشعراء القدماء والجدد سواء بسواء، ومنها مرثية بلقيس لنزار وهو يقول :
الآن ترتفع الستارة ..
سأقول في التحقيق ..
إني أعرف الأسماء .. والأشياء .. والسجناء ..
والشهداء .. والفقراء .. والمستضعفين ..
وأقول إني أعرف السياف قاتل زوجتي ..
ووجوه كل المخبرين ..
وأقول : إن عفافنا عهرٌ ..
وتقوانا قذارة ..
وأقول : إن نضالنا كذبٌ
وأن لا فرق ..
ما بين السياسة والدعارة !!
أكيد أن الشواهد لا تعد ولا تحصى، وأن لغتنا العربية تحمل من الكنوز والأسرار ما يجعلها من مصاف اللغات وأرقاها، وإن كانت بقية اللغات تعلو وترتقي برقي شعوبها فإن المجتمعات العربية هي التي ترتقي إلى أمجاد لغتها ومقامها الرفيع، لأنها راقية بذاتها.
لكن بعد كل هذا، قد يرد علي قائل بأن صاحب مقولة:” اللغة العربية والاسلام فشلا فيما نجح فيه الكسكسي ” منسوب على اللغة العربية، وهو يقول عكس ما تقول ؟ فالردّ على هذا القول بسيط وصريح وهو مقعد في فقه اللغة العربية، أين يعتبر ذاك شذوذا و(الشاذ يذكر ولا يعتد به).
عنابة في : 21 ديسمبر 2020