المثقّفُ بالفعل والمثقّفُ بالقوّة
د. نضال الصالح
لا يعني الامتياز الإعلامي، في الحياة الثقافية العربية، امتيازاً معرفياً أو إبداعيّاً دائماً، كما لا يعني الامتياز الإبداعي أو المعرفي امتيازاً إعلاميّاً دائماً أيضاً، فثمّة الكثير ممّن يبرعون في تسويق أسمائهم، وممّن وقفتْ، وتقف، وراءهم جحافل من المؤسسات، على اختلاف أشكالها، ولهم قرص في كلّ عرس: في مهرجانات، وندوات، ومؤتمرات، وعبر غير وسيلة اتصال ثقافي، ومن محيط الوطن العربيّ إلى خليجه، ينطبق عليهم المثل القائل: “أسمع جعجعة ولا أرى طحناً”. جعجعة يتمّ تصنيعها، فتصديرها إلى المتلقّي من دون أن تكون دالّة على شيء سوى الخواء.
بين ظهرانينا الكثير من المبدعين والمثقّفين الحقيقيين الذين تمّ، ويتمّ، تغييبهم عن سابق إصرار وترصّد، والكثير من كتّاب الرقى والتعاويذ والتمائم، وتصدّرتْ، وتتصدّر، أسماؤهم، وصورهم، مختلف وسائل الاتصال الثقافي. ما إنْ يطالع المرء فهرساً بموادّ أيّ دوريّة ثقافية حتى يباغت بمادة لهم في كلّ شيء وعن أيّ شيء، في العولمة، وعصر الأنوار، وأسئلة الراهن والمستقبل، والإبداع الشعري والروائي والقصصي والتشكيلي والسينمائي..، وما إنْ يحاول المرء البحث عن برنامج ثقافي في الفضائيات العربية حتى تكتحل عيناه بمرآهم أنفسهم، وهم يتحدّثون في كلّ شيء وعن أيّ شيء، بينما ثمّة مبدعون ومثقّفون يقبعون في الظلّ، وصرعى إرادات غاشمة تقدّم ما هو غير ثقافي على ما هو ثقافي.
هل صورة الإعلام العربيّ فيما يتصل بالشأن الثقافي قاتمة إلى هذا الحدّ؟ وهل حقّاً أنّ مجمل ما صدّره، ويصدّره هذا الإعلام من أسماء هو على هذه الدرجة من الضمور الإبداعي والمعرفي؟ وهل مجمل الذين لا حضور إعلامياً لهم هم مبدعون ومثقّفون؟ ما مِن ريب في أنّ الإجابة على هذه الأسئلة هي النفي، وأنّ التعميم هو قول ببعض الحقيقة لا الحقيقة كلّها، ولذلك، فمن البدهيّ أن يكون ثمّة أسماء لها حضورها الإعلامي تبدو جديرة بذلك، وأن يكون ثمّة أسماء لا حضور إعلامياً لها، على الرغم من أنّها تمارس الكتابة، تبدو جديرة بذلك أيضاً. وبهذا المعنى، فإنّ ما سبق من قول: “ليس كلّ امتياز إعلامي يعني امتيازاً إبداعيّاً، وليس كلّ امتياز إبداعي يعني امتيازاً إعلامياً”، يمكن أن يكون على هذا النحو أيضاً: “وليس كلّ امتياز إعلامي يعني ضموراً في الإبداع، كما أنّه ليس كلّ ضمور إعلامي يعني امتيازاً في الإبداع”.
غير أنّ الأكثر شيوعاً هو ما يبدو لصيقاً بالطرف الأوّل من المعادلة، أي ممّا يثبّت أنّ جمهرة، غير قليلة العدد، من “نجوم” الإعلام الثقافي و”فحوله” أنأى ما يكونون عن الإبداع والثقافة، لكنّهم يمتلكون كفاءة نادرة في تحويل وسائل هذا الإعلام إلى إقطاعات خاصّة بهم، بل في جعل الأوصياء على هذه الوسائل أبواقاً لهم، يستكتبونهم في كلّ شيء، وعن أيّ شيء، ويغدقون عليهم من الألقاب ما لا صلة له بهم، من مثل: المفكّر، أو الباحث، أو الموسوعي، أو الناقد، أو هذه الألقاب كلّها معاً، لكأنّهم يعرفون كلّ ما يصدر في الوطن العربي من أعمال فكرية، أو روائية، أو قصصية، أو.. في عصر لا يمكن أن يقبض فيه المتابع والمختصّ إلا على جزء يسير من المعرفة، وفي حقل محدّد منها، على الرغم ممّا هيّأته وسائل الاتصال الحديثة كلّها. ولأنّ ثمّة امتيازات كثيرة يحصدها هؤلاء من ذلك، فإنّهم يعضّون عليها بالنواجذ، ولايألون جهداً في إقصاء مَن ينازعهم حضورهم الكاذب، وفي تغييبه، وتهميشه، وتهشيمه أيضاً.
في المشهد الثقافي العربيّ ثمّة أسماء بعينها هي التي يُدعى أصحابها إلى المهرجانات، والندوات، والمؤتمرات الثقافية، مهما يكن من أمر المهرجان، أو الندوة، أو المؤتمر، حتّى ليبدو للمتابع أنّ ثمّة ما يشبه “المافيا الثقافية” هي التي تستبدّ بكلّ شيء، وتحجب عن غيرها أيّ شيء، ولكاّن أفرادها قد أوتوا مجامع الكلم، أو لكأنّهم وحدهم الذين يعلمون وما سواهم من الذين لا يعلمون.
وبعدُ، وقبلُ، وربّما دائماً، فإن الامتياز الإعلامي محكوم، في أحيان غير قليلة، باعتبارات غير ثقافية، باعتبارات تصنعها العلاقات الخاصّة مع المسؤولين عن المنابر الإعلامية، والولاءات العمياء، وبذلك يصدق المثل القائل: “ليس كلّ ما يلمع ذهباً”.