اللغة العربية وتحديات العصر
بقلم :مختار عيسى
بين تهاليس الصفقاء ومفاكهة المتظرفين وتنكيتات التفـَّه واستندار النهّاكة والدكّاكين من المعولمة قلوبهم وألسنتهم ، واستقعارات وتكاليس وتحوصلات وصندقة الرثّاثين البوالي من كهنة التحانيط والمتحِّفة الثُّبّت تعيش اللغة الأولى بالرعاية والأجدر بالحماية واقعا مرا ، يتقاسمها أعداؤها وأحبابها على موائد العولمة في صيغتها الإمبريالية ، ونزعتها الخالعة الشعوب من جذورها ، ويتبارى أكاديميونا و أدباؤنا ومفنونا على طحنها بأضراس ديناصورات ماقبل التاريخ حينا ، وحينا على وضعها ضمن قائمة الوجبات السريعة باستهتارات المتعجلين، الذين لايرون التوقف عندها ضرورة لإبقائها حية لإحياء ما لاحياة لهم بدونه مادموا عربا ، ومادام القرآن كتابهم المقدس.
لاننطلق حتما ونحن نسعي لطرح قضيةالتحديات العصرية التي تجابه لغتنا العربية من ركيزة الشوفينية ، ولا أميل ـ شخصيا ـ إلى مناقشة الأمر من زاوية التقديس ؛ فلست رائيا قداسة لهذه اللغة في ذاتها ؛ فكل لغة لها منزلتها الأسمى عند أهلها ، وماقداسة العربية فيما يتوهم أصحاب هذا النهج إلا لأنها حملت كتاب الإسلام ، وهو الموجّه للعالم كافة ، فقداستها ليست ذاتية ،وشرفها ليس في معجمها ، شرف أي لغة ليس فيه قطعا ، وإذا جاز لنا أن نصفها فالمكرَّمة أصدق صفةٍ لها ، لحملها قرآنا كريما ، وعلى كلٍّ فإن كل لغة هي بمنزلة أعلى عند أصحابها من اللغات الأخرى كافة، وإذا كانت العربية لغة عبادة في تلاوة الآيات الكريمات لدى المسلم العربي والانجليزي والياباني و الهندي مثلا، فإن تكريمها هنا محصور بهذا الجانب ، وتتراجع حضورا على درج التكاريم ـ قطعا ـ أمام اللغة الانجليزية أو الصينية مثلا في جوانب أخرى عدة .
لذا فإن سعينا هناـ ليس من قبيل المباهاة والتفخرات، واعتمادات موانح أفعل التفضيل للنفس من راحة واطمئنان، ولكن من قبيل الإحساس بالخطر الداهم الذي تتعرض له اللغة العربية؛ كونها أحد أهم ركائز الهوية ، وحماية الشخصية العربية من الذوبان الماحي للخصوصيات الموائز في بوتقة العولمة التي تبنتها الولايات العشبية الأمريكية الطارئة على مشهد الحضارة الإنسانية الضاربة جذورها في أعماق زمنية غوائر.
إن المأساة التي تعيشها مؤسساتنا الأكاديمية وفي القلب منها الموكولة ـ أصلا ـ عناية باللغة وآدابها ، تجعلنا وجها لوجه أمام تهديد بتلاشي الخصوصية وانتفاء التمايز ، وهو مقصد إلهي من اختلاف الألسن، وإن ما تبثه وسائل الإعلام بأشكال وطروحات متباينة من تهكمات واستظرافات ،فضلا عن شيوع استخدام اللهجات المحكية ، واستبعاد مايحفظ للغة بقاءها مصونة من التحاريف و الانتهاكات ..كل هذا يشكل جريمة في حق مكون أساس من مكونات الشخصية العربية وتسهيلا لاستلاب ثقافي ،وفكري لمصلحة آخر ، لايريد لهذه اللغة ولا لأهلها بقاء ؛ لأنه يدرك أنها السياج الحامي للهوية التي تتصدى لكل محاولات التذويب الاحتلالية ، ثقافية كانت أم جتماعية أم اتخذت طرائق أخرى .
إن كثيرا من علمائنا ـ للأسف ـ قد وقعوا في حبائل فكرة غربية ، صورت العربية لغة مساجد فقط ، ومنعت عنها أن تكون لغة علم وحضارة، وهذه مجافاة صارخة للنصفة ، وافتئات على الحق دون غضة خجل، فلا تفاضل بين اللغات في ذواتها، وإنما بما يقدمه أهلوها ، وعلى هذا فالجرح جرحنا ، والمأساة مأساتنا، وماعلينا إلا أن نحاول إقامة الأدلة والحجج الدوامغ على تهافت هذه الفكرة، وأن نتخلص من ذلك الخضوع للحصار غير المبرر ؛ فأوروبا كانت حريصة على لغتنا؛ وقت أن كان من بيننا العلماء الأفذاذ الذين أخرجوها من ظلام عصورها الوسطى ، وما تراجع منزلة لغتنا إلا لتراجعنا في عطاءاتنا للإنسانية ومنجزها العلمي والحضاري .
لا أتصور أن أمة تهين لغتها كما نفعل، سخريات في الإعلام، وكسل في المؤسسات الأكاديمية، وافتتان بتعليم الصغار من سنواتهم الأولى لغات أخرى غير عربيتنا، وكأننا نحقق بأيدينا ما فشلت فيه قوى الاستدمار، لا الاستعمار ، من فرض لغات بلادها ، من فرنسة أو تتريك أو برطنة ، بل إن أم الكوارث ، أن تجد أبناء المشايخ تحت وطأة المباهاة قد تفرنجت ألسنتهم واعوجت أشداقهم من مضاهاة المتفرنسين والمتبرطنين والمتأمركة عقولهم في بلاطات السلاطين ، وديوانات الساسة ، ومعاهد البزنسة الإعلامية وثقافة المانيكانات اللغوية في فتارين العرض العصري المتلفز .
صرنا غرباء في شوارعنا ، فجل لافتات المحلات و الإعلانات تتجاهل لغتنا وتعتمد الأسماء و الرموز الأجنبية ، حتى على محلات الطعوم الشعبية المحلية ، أرأيتم إلى هذه الاستلابية المقيتة ؟
وإن مناهج تعليمية في ماقبل الجامعة أو في مرحلتها أو بعدها لاتزال تراهن على الأحافير اللغوية بمظنة حماية التراث ، أو تتجافى عن أصول وقواعد استجلابا لرضا الكسالى ، لهي أعظم الأخطار التي تواجه النشء ، والبالغ ،على التسوية ، وإصلاحها ضرورة حياة ، ومأمن قومي ، و سياج هوية .
وإن جماعات وصالونات أدبية تعتمد الأغلاط كأنها التصاحيح ، و تعلي من شأن الهوابط ، بزخات الإلحاح الإعلامي لهي من الدواهم الواجب احتراسها وتوقيها ، إذا ما أردنا إنجاء لذواتنا ، وأوطاننا ، من التلاشي في محيط اللغة العالمية ، وقد فشلت من قبل محاولات توحيدها كما حدث للاسبرانتو على سبيل التمثيل .
الأمل ليس في مواكبة يوم عالمي أصبح لافتة وشعارا دون ترجمة حقة لمدلوله على أرض الواقع الفعلي، ولكن بانتباهة وصرخة استغاثة واستخراص كل ذي همة للإنقاذ ، وها أنتم بمؤتمركم تطلقون أو أنتظر أن تطلقوها عالية ، مستغيثين ، ليعلم أبناء لغتكم أين هم من هذه الدواهي وكيف هي سبيل النجاة .
كأني باللغة تستصرخكم ، لاتضيعوني فتضيعوا ، و لاتناسوني فينسى الوجود هويتكم ، فتصبحوا على مافعلتم نادمين .
إني أتوهم ، وبعض التوهم محمود الآثر ، أننا نستطيع ، الآن ، أن ننقل صادقين هذا الحرص إلى محيطاتتنا ، كل في حيوزه الجغرافية ، وفي تواقيته المناسبة زمنيا ، لتسري كهرباء الاستنقاذ في عروق مدننا وقرانا ضوءا ساطعا ، كاشفا سوءات من يتهددونها كتلك الدعوات التي تنفي عنها اتصالا بالعلم أو التقدم ، ويريدون حبسها في قوارير متحفية، أو قاعات درس الامتحان غايتها وكفى ، وفاضحا كل من تآمر عليها ـ بقصد أ و بنية حسنة ، باستسهال الدارجة في المدرسة والجامعة وروابط وصالونات ومؤسسات الثقافة ، وفي قاعات المحاكم ، وأروقة السياسة ، ومراكز البحث العلمي .
أيمكن حقا أن تتوازى مع حلمنا المعقود تحققه عليكم أيها الغيورون الأفاضل جهود مؤسسات الدولة كافة باعتبار الموضوع أمنا قوميا ؟
أيمكن أن نراهن على أن نائبا أو وزيرا أو أي مسؤول مهما تباينت درجات مسؤوليته سوف يجعلها معادلا لوجوده الذاتي ومحققا لهويته ؟
هي ـ إذن ـ البدء والغاي ، والنشيدة ، والمدود ، وها أنتم أولاء ـ إذن ـ جنودا هيأكم الله لإنقاذ لسانكم ، واستعادة فرادته ، وإلباس لغتكم ثوب حياة جديدة .
إنا لمنتظرون وآملون .