قال: ــ أرأيتم ضحكته تملأ وجهه.. ثم انسلّ من بين الجموع.
كان جسده يقاوم الهزال ببقية من فتوة رغم أنّه لم يجاوز الثلاثين، يرتفع في مشيته ارتفاعا يشبه الطفو على سطح تضطرب جوانحه، تلوّح يداه إلى أفق مغلق على سفر دائم، قد يغيب فيه يوما أو يومين لكنه يرجع و في عينيه نهم وشوق لأفق جديد، يصرخ في الصباح في وجوه الرائحين و الغادين الذين يجرحون كبرياء سفرته بلا اهتمام و لا فضول عدا بعض الهمهمات المطحونة برحى ضنكا:
ــ لقد قلت له البارحة أن فلسطين ليست له وحده، أنا كذلك يمكن أن أحررها، لكنه ضربني بالسوط على وجهي .. ألا ترون خطوط الدم الزكي ، سوف يندم ابن ال… لقد طردني و قال لي اذهب فأنت لست صلاح الدين يا أحمق.. هل أنا أحمق يا وجوه…
كان الناس ينظرون إلى الرجل المسجى، كان وجهه فعلا تملأه ضحكة تغطي ملامحه كلها، أصبح كله ابتسامة واحدة مرعبة كلما تمادت عيون الناس في التحديق ، كأنها تكشف عوراتهم أمام مرايا أنفسهم في كوة ما في دواخلهم المهلهلة، ثم يبتعدون مطأطئي الرؤوس يسترقون النظرات إلى بعضهم البعض، و ينصتون لا يتكلمون يسمعون لهاث أنفاسهم يتقاطر في آذان الصدى، يبتلعون ريقا مرّا لا يصمد أمام القحط الذي يبتكره صاحب الجسد الهزيل… ( جئتم لتدفنوا المالح.. المالح لا يموت.. إنّه في إغفاءة كالحلم ثم يستيقظ ليفضحكم لقد قرر أن يقول كل شيء، هل تسمعون يا وجوه الشر؟!)
إيه يا المالح يحسبون أنني مجنون وأني ورثت الجنون عنك، هم لا يصدقون أني أسافر إلى كل الدنيا أجمع قبائل الجزيرة و النهرين و فاس و مكناس ، سنحرر القدس يا المالح ..
ـــ اعقل يا فارس أبوك المالح مات، و يجب أن ندفنه. ألا تؤمن بالموت؟ أنت تقرأ و تعرف أن إكرام الميت التعجيل بدفنه.
ــ أنت يا سيدي الشيخ صادق، و لكن وجوه الشر هؤلاء يريدون التخلص منه لأنه سيفضحهم.
ــ الستر مليح يا ولدي، و هؤلاء أهلك و لا يحبون إلا الخير لك ولأبيك.
ــ إذاً لماذا لم يصدقوا حين قلت لهم أن مصر أصبحت في بحر الظلمات حيث وقف عقبة بن نافع .
ـــ سأجعلهم يصدقون، اتركهم يجهّزون المرحوم، و سأجعلهم يصدقون .
تخطّفت المالح الأيادي تجهزه لرحلته حيث ينام أجداده نومتهم الأخيرة… و هو الذي لم ينم في دنياه إلا قليلا.. حين عاد ذات مساء كان يحمل معه حقيبة قميئة داكنة اللون فيها أشياؤه القديمة التي ذهب بها. و ذات صباح، عاد و على عينيه نظارة سوداء، لم يمد يده لأحد يصافحه كان لا يرى أحدا، و لم يكن يتكلم إلا قليلا. كان منذ رجع يقضي كل وقته في تتبع صوت فارس؛ يسمع لعناته للغادين و الرائحين يبتدعها ابتداعا، و يقذفها حارّة تشوي الوجوه، يسمع مواويله التي تثرّ كما الينابيع من الصخر، و تنزّ كما الجراح من الصدر، يلاعب سيفه الخشبي في صولة فرسانٍ هذه أوبتهم كما يقول، ثم يجلس تحت جدار آيل للسقوط ينتحب بصوت تسمعه الجوارح و الوحوش قبل قلوب تسري دماؤها في شرايينه، و يبقى حتى المساء يبكي و فارس منخرط في حالته و طقوسه؛ يقود جيشا من العرب، و جيشا من العجم، و حين يسقط مغشيا عليه يمسح المالح عرقه عن وجهه اليابس المكدود ثم يغيب الشبحان في باب قميء و تنام الخلائق ليلتها في كوابيس ابن المالح و يحمدون الله على نعمة العقل التي تسوقهم سائر يومهم. و في الصباح يخرج المالح بنظّارته وعصاه السوداوين وقد سار في العمر مرحلة أو مرحلتين ليجلس تحت الجدار الآيل للسقوط متكوّما بلا ملامح، و ينام فارسه يومين أو ثلاثة يسافر سفرته الجديدة و يعود بجواد جديد.
ارتفع المالح على الأكتاف بعد أن اطمأن الشيخ أن قبره قد شق في الأرض شقا، و أن فارسه قد هدّته المعارك التي خاضها اليوم، فكبّر و هو يمسك بيد فارس كأنه يكبح جماحه، و كأنه يسمع حمحمات خيوله المغيرات، فيهدأ في يده ولا تتحرك إلا شفتاه بما يشبه الهمهمات، و تعلو بعض التكبيرات، ثم يشق النحيب صمت الصامتين؛ نحيبه المتنامي.. كما نما فارس يقرأ ما تيسر من الفجائع يعصرها في تلافيف ذاكرته المتحفزة، تلهيه المدرسة عن أحلامه و يلهيها عن سيرها فيفرّ منها لا يلوي على شيء. كان المالح غائبا ، و لا أحد يعرف عن غيبته شيئا غير أنّه حين عاد عاد بعصا و نظارة سوداء لابن يسافر ليومين أو ثلاثة ثم يعود من غفوته بجواد جديد.
تناولته أكتاف أخرى تسرع خطاها، و يزداد النحيب .
ـــ كان الجدار آيلا للسقوط.
ـــ و لماذا لم يسقط منذ سنين ؟
ـــ للبيوت أعمار كأعمارنا.
ـــ كان الجدار وحيدا لا عمر له!.
ـــ هل يمكن أن يفعل ابن المالح بأبيه ما لم يفعله غيابه و السنون.
لم يكن ذلك إلا همسا، يخرج من بين الشفاه و الحناجر تلوكه الألسن بطعم التشفي، ثم تتهدل الكلمات و تشيخ على غضبة جديدة لابن المالح يسايرها الشيخ ليقطع أمامها الطريق فلا تخبو التسبيحات المنبعثة من أفواه الرجال أصحاب الأكتاف التي تحمل أباه:
ــ أنا لم أقتله،
سقط الجدار..
وانهار..
لملم الشيخ أعصاب ابن المالح و أومأ للموكب أن يسرع الخطو.
تعجب الشيخ إذ لا قبر شُقّ للمالح،
و لا في التابوت جثمانه.
قهقه ابن المالح… قلت لكم إغفاءة و سيعود.
تناقل الناس أنّه بعد عام قال:
ــ أرأيتم ضحكته تملأ وجهه؟.. و انسلّ من بين الجموع.
يقال إنّه هو أو يشبهه كثيرا!.