مرسِل ومرسَل إليه
بقلم د. نضال الصالح
ناقد أدبي وأكاديمي سوري
لعالم اللغويات الروسي «رومان جاكوبسون»، في كتابه «قضايا الشعرية» تمييز شديد الرهافة فيما يصطلح عليه بالسيرورة اللسانية، أو الفعل التواصلي اللفظي الذي رأى «جاكوبسون» أنّه يستلزم ثلاثة عوامل: مرسل، ورسالة، ومرسَل إليه، كما رأى أنّ الرسالة لكي تكون فاعلة، فإنها، بتعبيره، تقتضي بادئ ذي بدء سياقاً تحيل عليه، وأنّه من الممكن لهذا السياق أن يكون لفظياً أو قابلاً لأن يكون كذلك. وبتعبيره أيضاً، فإنّ الرسالة تقتضي، بعد ذلك، سنناً مشتركاً، كلياً أو جزئياً، بين المرسل والمرسل إليه، أو بعبارة أخرى بين المُسنّن ومُفكّك سنن الرسالة، وتقتضي الرسالة، أخيراً، اتصالاً، أي قناة فيزيقية وربطاً نفسياً بين المرسل والمرسل إليه، يسمح لهما بإقامة التواصل والحفاظ عليه.
التمييز المشار إليه آنفاً ليس خاصاً باللغة أو الأدب، بل بكلّ فعل تواصليّ بين إنسان وآخر، فكيف إن كان بين مثقف ومثقف؟ إن كان، فلا بدّ أنه الرسالة بينهما ستكتفي بنفسها من دون أن تقتضي شيئاً من السياق، أو السنن، أو سواهما، لأنّ المثقف لبيب بالضرورة، ولأنّ اللبيب من الإشارة يفهم كما كانت العرب قالت.
ولكن أيّ صفة تليق بالمثقف إذا لم يكن كذلك؟ وهل يمكن عدّه مثقّفاً آنذاك؟ وما الذي يجعل عاملاً من عوامل التواصل غائباً بين هذا المثقف وذاك؟ وهل فعل الغياب إرادة أحد طرفيّ الفعل التواصليّ، المرسِل والمرسَل إليه، أم إرادة كليهما؟ وإن كانت هذه الإرادة قيمة مشتركة بين الطرفين، فأيّ علاقة لهما بالثقافة في هذه الحال؟
تلك أسئلة تستدعي أسئلة غيرها في أيّ محاولة لقراءة ظاهرة، بل ظواهر، حوار الطرشان أحياناً، وربّما غالباً ودائماً، بين من يدعون انتماءهم إلى الثقافة، وظاهرة الخلاف لا الاختلاف حسب تعريف أبي البقاء الكفويّ في «الكلّيات»، الخلاف الذي يفسد كلّ ودّ. ولعلّ أكثر تلك الأسئلة أهمية وضرورة هي: لمَ ينفي المثقّف الآخر المختلف؟ بل لمَ يستبسل في تجريده من أيّ قيمة له إذا لم يرق له لهذا السبب أو ذاك؟
لا يمكن للمثقّف الحقيقيّ أن ينفي مثقّفاً حقيقياً، ولا يمكن أن يستبسل أحدهما في تجريد الآخر من أيّ قيمة له إذا كانا مثقفين بحقّ، بل إذا كانت صلتهما بالثقافة واقعاً بالفعل لا بالقوّة. وغالباً، ودائماً، فإنّ من يقوم بفعل النفي، أو الاستبسال، أحد ثلاثة لا رابع لهما: شبه مثقّف تفترسه الغيرة من تفوّق المثقّف، ومن حضوره حقّاً لا مجازاً، ومن مكانته التي أنجزها بنصّه وبنفسه لا التي أنجزتها أوهامه له بأنّه شاعر، أو قاصّ، أو روائي، أو.. أو التي مكّنه سواه من بلوغها على غفلة من الحقيقة. ثمّ «مثقّف» زيف، أو خيال مثقّف، أو دعيّ ثقافة قذفت عاتيات ما كانت العرب اصطلحت عليه ببرق الخُلّب به إلى هذا المكان أو ذاك من مواقع الصدارة في المشهد الثقافيّ، ثمّ ثالث تعطلت أجهزة الاستقبال لديه، ولذلك لا يمكنه فهم الرسائل التي تصدر عن هذا المرسِل أو ذاك. وإذا كانت الغيرة هي من تدفع شبه المثقف إلى نفي المثقف، وإلى تجريده من أيّ قيمة له، فإنّ هي نفسها وسواها من الأمراض النفسية ما يدفع المثقّف الزيف إلى كليهما، النفي والتجريد، وإلى سواهما، وحدّ الهوس أحياناً بأن لا خلاص من هذا المثقف إلا بالقتل، القتل عن سابق إرادة وتصوّر، وبالمعنى النفسيّ الذي يحيل فعل القتل عليه لا بمعناه الواقعيّ. وإذا كان من الممكن شفاء هذين، شبه المثقّف والمثقّف الزيف، بقليل أو كثير من المحاولات لتطهيرهما من لوثتيهما، فأيّ أمل ممّن تعطلت أجهزة الاستقبال لديه؟!
وبعد، ففي الحالات الثلاث، فإنّ المثقّف الحقّ لا يلتفت إلى الاضطرابات النفسية لأولئك، ولا يعنيه من أمرهم سوى الرثاء لهم والشفقة عليهم، وهو يردّد ما كان المتنبيّ قال:
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ .. يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا.