رؤية
المجربون والمخربون …
ثقافة التحنيط وتوقيف الزمن
بقلم الشاعر والناقد مختار عيسى ـ مصر ـ
ليس ثمة شك في أن الثقافة العربية – على اتساع المدلول، وانبساط الجغرافيا، وامتداد التاريخ- تعاني من جملة من الأمراض المزمنة، لم تفلح في تشخيصها، فضلا عن علاجها، النظريات المستوردة، أو المحاولات المتتالية لبعض المغتربين – ولا عداء مقصودا – لعلاجها اعتمادا على الصيدلة الأجنبية، أو على الأقل الحد من قساوة أعراضها المغرقة في شرقيتها، وأنات المعانين من زمانتها.
ما من سبيل للانعتاق من تصورات «الانتلجنسيا» العربية سواء في شقها المعادي لهذه الثقافة،أو الدفاع الشوفيني ضد التلاقح الثقافي، والتزاوج الحضاري، واختلاط الأمشاج العلمية في رحم كون يموج بأشكال من الصراعات والتداخلات والتحالفات ما يحتم الوقوع- شئنا أم أبينا- تحت وطأة الآخر، مهما كانت تصوراته، وضرورة التحاور معه بوعي دون استلاب،ودون استسلام وذوبان الهوية في بوتقة الغريب ،مع قليل من التحفظ على مصطلح الذوبان.
وما من سبيل أمام المتأمل الواعي لإنكار أو تجاهل أن من أبرز أمراضنا الثقافية العربية، أو لنقل أعراضها، وأشهرها الدعوة لخلع الثوب اللغوي والتصور الثقافي وتحطيم آليات التفكير العقدي من ناحية ومحاولة «توقيف الزمن» و«تأبيد اللحظة» و«تحجير الرؤية» أي ما يمكن أن نسميه تجاوزا «ثقافة التحنيط» من ناحية أخرى.
ومن البدهي الارتكان إلى مجموعة من الأسئلة عندما يحاول المرء الوصول إلى إجابة تحظى بدرجة نسبية من القبول؛ فالأسئلة- في نظري وأعتقد أنها في نظركم كذلك- تمثل أهم آليات التفاعل البشري مع الظواهر، والأحداث والسمات العامة والخاصة على السواء، وإن كان ثمة رجل لا يسأل فهو بالتأكيد لن يعرف، فالسؤال مفتاح المعرفة،لا جدال في ذلك.
ويرتبط بهذه الثقافة التحنيطية، أو آلية التثبيت الزمني وتأبيد الفكرة، ما يتعلق بمفهوم )القداسة(، وما يرتبط به- بصورة أو بأخرى- من البحث في الأوليات، على ما في ذلك في أحيان كثيرة من إنفاق لوقت وجهد فيما لا طائل من ورائه، ومن ذلك محاولات مستمرة ودؤوب لاستثارة السؤال ذي الصبغة الجدلية البيزنطية: أيهما أولا؟ ولا تعنينا هنا مرجعية الضمير، بقدر ما نود أن نلفت إليه النظر بخصوص هذا التردد البندولي بين طرفي السؤال في كل مرة، بين مثبت أولية هذا، ومدافع مستميت عن أولية ذاك.
أثار في ذهني هذه التساؤلات، وبعضها يعاني من أعراض «التحنيط» ماردده أحدهم منذ أسابيع قليلة في أحد المنتديات الثقافية الجادة بعدما أثار لغطا، وأحدث ضوضاء معرفية، وجلبة حضارية، وتشويشا رؤيويا ربما قصد إليه قصدا، متمترسا وراء حرية التعبير بكتابات أقل ما وصفها بها الحضور أنها مثيرة للغثيان حين تحدث عن عدم احترامه للشعر العربي رغم أنه قدم نفسه في ثوبه، واحتقاره للغة العربية لعجزها وعدم قدرتها على مجابهة العصر، ودعوته بعد فضيحة لغوية ارتكبها ليس في حق سيبويه وأحفاده في قضايا الضبط والإعراب فقط بل في الإحساس بالمفردة وعلاقاتها البنائية بما جاورها ومداليل الألفاظ وموسيقاها الداخلية والخارجية بل وروح المفردة وأحاسيسها الداخلية إذا جاز التعبير.. دعا هذا المتشاعر إلى الكتابة بالأحرف اللاتينية، وهي دعوة لاشك في غرضيتها المحرضة على تحطيم مرتكز من مرتكزات الثقافة العربية، تبنتها جماعات أدبية وأفراد من قبل وحاولوا تمريرها عشرات المرات منهم المستشرقون، الألماني «ولهم سبيتا» و«اللورد فرين» و«كارل فولرس» والمبشر الانجليزي «وليم ولكوكس» والمبشر «ماسينون» ومنهم المستغربون من أمثال «عيسى المعلوف» و«عبدالعزيز فهمي باشا» «وأحمد لطفي السيد» وحتى «د. طه حسين» الذي دعا إلى إضافة لاتينيات إلى أبجديتنا و«سعيد عقل» و«سلامة موسى» و«لويس عوض» و«بيومي قنديل» وغيرهم، محملين اللغة مفردات ونحوا ورسما خطايا تراجع الفكر العربي وسقوط الشعراء في هُوى سحيقة من تردي المنطق، ومخاصمة الواقع، ومجافاة العلم، ومعاداة التطور ولنراجع في هذا الإطار ما كتبه صاحب «نقد العقل العربي» المفكر «محمد عابد الجابري» حيث اتهم اللغة العربية بالبداوة وأنها لغة أعراب محدودة بحدود عالمهم، ويمكننا في هذا الإطار أيضا الركون إلى ما كتبه «جورج طرابيشي» في الرد على هذه القضية في كتابه «إشكاليات العقل العربي» الذي عارض الجابري مفندا ما قدمه بأدلة جادة
ومما أثارني مرتبطا بهذه القضية كذلك، ماطرح للنقاش من مدة ليست بعيدة تحت عنوان واسع المدى من نوعية(قطعي الثبوت والدلالة) يقول:«اللغة قبل الدين» مع أن مثيرة القضية الكاتبة الزميلة “بشاير العبدالله” التي طرحت القضية في إحدى الصحف العربية استندت في مقدمتها على مفردة يقينية هي الأخرى (أعني تكاد تعتمد التثبيت) هي «نعلم» وكان المعلوم في الجملة الحاملة لهذه المفردة بكل ثقلها اليقيني القطعي(إن الدين هو الأول لاشيء قبله)، واستبراء للحكم لا أستطيع القطع بأن الكاتبة هي صاحبة العنوان، إذ إن الأمر ينطوي-عندئذ- على تناقض حكمي بالغ الدلالة على اهتزاز الأدلة،واختلاط القرائن،وتفشي الشكوك، فالكاتبة التي أكدت(علما) الأولية للدين على ما عداه، عادت لتجيب عن سؤال استقصائي عن معنى اللغة في الدين، ولا بأس حتى الآن،فهي تبحث عن «جزء» في «كل»،ومن ثم فالدين أساس كلي تأسس عليه هذا الجزء وهو اللغة، لتعود مرة أخرى لتخلص إلى نتيجة أن اللغة هي أساس الدين بل ربما تأتي سابقة له.
والكاتبة ولجت – ببراعة ـ في قضية شائكة حين تعرضت – وإن كان بصورة تبدو عابرة- لقضية التكفير التي لحقت بأدباء وشعراء يكتبون الكلمات على حسب معناها اللغوي، ماأوقعهم في حبائل أولئك المحنطين الذين يحصرون الكلمات- على اتساع حقولها الدلالية- في مداليلها الاصطلاحية.
وفرقت الكاتبة ومعها كل الحق، بين معنيين، لا ضرورة ثابتة للربط بينهما، هما المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي وكي تخلص الكاتبة من شرك الجدل البيزنطي والتردد البندولي بين طرفي السؤال الشائك: البحث عن الأولية، تقول:«لا أخرج اللغة عن الدين، أو أخرج الدين من اللغة، وتقديم أمر على آخر لا يعني خروجه عليه، لولا لغتك لما فهمت دينك»
وتتابع: «وهنا لا أقدم اللغة كأمر ثانوي على أمر أساسي كالدين، بل العبارة، تقول إن اللغة أساس فهم الدين، وبذلك أتت قبله، أي أساسا للأساس، وليس تقديما أو تفضيلا».
ألا ترون معي أنه مأزق (القداسة) وهو – برأيي- من أشد المآزق التي تواجه الذهنية العربية، حيث تتماهى مفاهيم التنزيه، والقداسة، والعصمة، والاحترام، حتى لا تكاد تجد تمييزا قائما لدى الكثيرين من أبناء هذه الأمة بين هذه المفاهيم، على ما بينها من تباين كبير واختلاف عظيم، فمن مقدس للغة العربية بوصفها لغة القرآن ومحرم- تبعا لذلك- لاستخدامات اللغة ومفرداتها وتراكيبها ما دامت حلت في الكتاب المبين، وكأن القرآن أتى ليوقف اللغة عند حدود المعاني الاصطلاحية الدينية، تاركا أمور الدنيا للغة غيرها يخترعها المسلمون، أو يعتمدون عليها في التعامل اليومي مع مفردات الحياة وبين ناف لعظمة اللغة مشككا في قدراتها من أمثال ذاك المتشاعر وأقرانه من الخاضعين خضوعا أنثويا لفكر الغرب وحضارته، ولا بأس عندهم من التخلي له عن ثوبنا اللغوي، ووعائنا الفكري – إذا جاز التعبير – وقد أشارت الكاتبة منحازة بالطبع، وأنا معها، لاستبعاد تقديس اللغة، لأنه- فيما أرى- عنوان هذه الثقافة التحنيطية،وطريق تجميد الدلالة الدينية عند معايير محددة لا يتجاوزها التفسير-على ما في ذلك من خطورة، قد تمس المعتقد الأساسي في صلاحية الرسالة لكل زمان ومكان، ومن ثم يكون الانتقال الدلالي للفظ (المقدس- الجامد- الثابت) في حقيقة التعامل العصري قيدا وحجابا على رحابة النص،واتساعه وشموليته، وهذا مكمن خطورة على التصور الإنساني للدين، ومادامت المسألة لا تتعلق بالقطعي الثبوت والدلالة فإن باب امتداد الرسالة والدين يصبح مرهونا بفقهاء (الاصطلاح) المحنطين اللغويين، مع أن اللغة ليست إلا وعاء ناقلا لمعنى، هو بالتأكيد لا يتغير كليا مع تغير الوعاء إلا إذا كان البعض يصل في قناعاته إلى القول بانعدام(التماسك الذري) بين مكونات الدين، وبالتالي فهو يتشكل حسب اللغة!!
ويبرز سؤال: هل إسلام الأمريكي غير إسلام الهندي غير إسلام الجزيرة العربية؟
هل هذا السياج الجغرافي يصلح لأن يكون مؤطرا لدين له صفة العالمية والشمول؟ أو هل من المفترض أن يكون هناك تفاوت في معنى الدين بتفاوت اللغة فيما يخص صحيح المعتقد؟ لا علاقة للغة بالدين، إلا كونها جسرا يعبرعن طريقه إلى المعنى، ومن ثم لا قداسة لهذه اللغة، ولا لغيرها، وإلا توقفنا عن إلحاق مفردة أو اصطلاح حداثوي بها خوفا من المساس بذاتها المقدسة، ومن ثم ينجح أولئك المغرضون- وما أكثرهم- في وصمنا بمجافاة روح العصر، والوقوع أسرى ماض لم يعد التعامل مع مفرداته مجديا، اعني هؤلاء المنادين بالقطيعة والتنافر مع التراث، أو أولئك الذين يصرون على تحنيطنا، وتجميدنا خارج لحظة الصورة، والإنترنت والفضاء الإلكتروني والقرية الصغيرة.
اللغة بنت الحياة، اصطلاحية، رغم بعض الآراء التي بحثت توقيفها وحاولت تفسير النص تفسيرا قسريا لإثبات نزولها بمفرداتها من السماء، لكن الحقيقة التي تجابهنا هي ماذا نفعل؟ هل يظل الإسلام ابنا للغة العربية فقط؟ وهل نحن مطالبون بتحويل العالم كله إلى الحديث بهذه اللغة؟
هل نطمح إلى وجود مبشرين لغويين؟أم أن الأمر لا يعدو كونه دليلا عظيما على فساحة الإسلام، وطلاقة القدرة الإلهية في تنوع واختلاف الألوان والألسنة؟
المتشاعر الذي يحتقر اللغة هو وأشباهه من أصحاب الأغراض غير البريئة فيما يعبرون عن عجز حقيقي عن فهم آليات التفاعل الخلاق والمثاقفة الحقة مع تراثه الذي لا يحول فهمه على حقيقته دون احترام الآخر اللغوي والعقلي، وحين يعبرون في دعواهم للخلاص من اللغة لعجزها كما يتوهمون، بحجة التجديد أو التجريب فإنهم بذلك يسعون للتخريب، وفرق شاسع بين الموقفين، فنحن إذ نقف مؤيدين بكل ما فينا من طاقة مع التجريب والتجديد فإننا نرى أن هؤلاء يصدرون عن نفسية مريضة بازدواجية عجيبة من الاستعلاء على جذورهم والخضوع الذليل لعشبيات طارئة مادامت آتية من الآخر، وهذه العلاقة الاستعلائية/الاستلابية في آن إنما تؤكد عجزهم البين عن إدراك جوهر التطور، وأنهم لايفرقون بين التهريج والتجديد، ومن ثم وجب إسقاطهم خارج سور الوعي الناضج والرؤية الجديـــــرة بالحـــــوار الجاد، لكن علينـــــا في الوقــــت ذاته إدراك غيهم الذي فيه يعمهون وألا نتيــــــح لهم الفرصة لتضليل ناشئة الكتاب ومراهقي الثقافة.
ومن ناحية أخرى تحياتي لمن يناقشون القضايا الشائكة بجدية ويثورون على ثقافة التحنيط وأصحاب دكاكين «ليــــس في الإمكان أبدع مما كان».
أحييك استاذ على ما جاء في المقال من افادة وتذكير للذين مازالوا يخنقون انفسهم اختيارياً بالمناهج الغربية بعيداً عن أصالتنا كعرب أصحاب لغة تتسع ولا تضيق.
لقد كتبت الكثير من هذه الطروحات في نظريتنا النقدية العربية الجديدة: نظرية التحليل والارتقاء، مدرسة النقد التجديدية، عسى ان يخلع البعض جلباب التحنيط عن نفسه كما وصفتم ويؤوب لواقعه وأرصه!
تحياتي مع خالص الود.
سعد الساعدي.. اعلامي وناقد عراقي