يحدث أن أقطع شوطا في كتابة نص ما؛ بحماس وتدفق وتعميق، ثم فجأةً أحسّ بالروتين الذي يثمر التسطيح؛ فأتوقف فورا.
لا يقبل النص الأدبي التفاوت الجمالي بين مفاصله. وقد تلعب الحالة النفسية التي يكون عليها الكاتب أثناء الكتابة دورا في عمق النص أو سطحيته.
من هنا؛ روّضت نفسي على أن تتفادى الروتين، أثناء الكتابة، وتوفّر الشغف إلى آخر جملة، من خلال طقس بات يجلب لي الاستعداد النفسي للكتابة بمجرد ممارسته هو الخروج إلى الشارع مفخخا بموسيقى حزينة.
أتفادى الشوارع التي يُحتمل أن ألتقي فيها من يعرفني؛ فيخرجني من الحالة. كما أتفادى الأكل والشرب والفسبكة والكلام والمهاتفة والتبضّع والمشي، فلا يبقى لي إلا فعل فعل الجلوس.
إنه مقام يشعرني بكوني ميتا يتأمل الدنيا من العالم الآخر. بما يخلق في داخلي الرغبة في التعبير. وهي الرغبة التي أستغلها في مواصلة الكتابة.
عادةً ما تكون هذه الموسيقى كردية، منذ عام 2012. ولهذا خلفية تتعلق بتجربة عشتها، وأفضل أن أحتفظ بها لنفسي، حتى لا أجهض جدوى هذا الطقس بالبوح المطلق.
(02)
أستطيع أن أكتب في وضعيات مختلفة؛ ما عدا أن أكون جائعا. حتى في شهر رمضان الذي أصبحتُ أتخذ منه محطة لكتابة تجربة سردية جديدة؛ فإنني أكتب فيه مباشرة بعد السحور، وأتوقف عند الظهيرة، حيث يشرع الجوع في الإعلان عن نفسه.
في بداياتي العاصمية؛ صيف 2002، انخرطت في كتابة تجربتي الإبداعية “من دسّ خُفَّ سيبويه في الرّمل؟”؛ فكنت أشرع في الكتابة مباشرةً، بعد أن أتمكّن من لقمة في إحدى طاولات الأكل السريع. عادةً ما تكون كارانتيكا بالهريسة.
وقد ورثت ذلك الطقس عن تلك المرحلة؛ فأنا أقصد تلك الطاولات، في الأيام التي أكون خلالها في حالة كتابة.
إن اللحظة التي أقف فيها أمام طاولة الطعام في الشارع؛ وأشرع في الحديث إلى صاحبها وبعض زبائنها تمنحني الإحساس بكوني مرتبطا بالإنسان البسيط المكافح؛ فتتدافع الكلمات والجمل والمشاهد والصور والأفكار داخلي، وتعلن عن رغبتها في الانكتاب. فأنا لا أفهم الكتابة السردية (للشعر عندي منطق آخر) خارج الارتباط بهذا النوع من البشر.
لاحظت أم علياء ذلك مني؛ فأبدت احتجاجها على أنني أترك طبيخها وأقصد طاولاتٍ قد تُعرّض صحّتي للخطر. شرحت لها سياق الطقس؛ فتخلّت عن الاحتجاج. وباتت تكتفي بالحرص على تذكيري بوجوب اختيار الطاولة النظيفة.
الأديب عبد الرزاق بوكبة شاعر وقاص وروائي وناشط إعلامي له العديد من المؤلفات الأدبية المتنوعة ، وقد سبق له تمثيل الجزائر في عدة نشاطات وطنية وعربية ويعتبر من أهم الناشطين الثقافيين في الجزائر