رغم أن المذاهب الفقهية الأربعة الباقية اليوم هي ركيزة الفقه الإسلامي الأساسية في الفضاء السُّنّي المعبِّر تاريخيا عن غالبية أمة الإسلام؛ فإن قضية المذاهب الفقهية المندثرة ظلّت ذات دلالات بالغة في التجربة المعرفية الإسلامية. وأهم هذه الدلالات تلك الطاقة المفتوحة في فهم النصوص الشرعية وتطبيقاتها الظرفية، فرغم أن هذا الفهم مقيد بالكثير من القواعد الشرعية فإن ذلك لم يحُلْ دون غَناء تجربة التفريع الفقهي والفتوى المذهبية على مدى القرون.
وتدل التجربة المذهبية الإسلامية على أن ظهور مذهب وخُفوت آخر يخضع لسنن موضوعية وعلمية قابلة للرصد والدراسة والتحليل، ومن الخطأ الشديد حصر عوامل ذلك في قرار سياسي تتخذه سلطة ما، رغم أهمية أثر السياقات السياسية لصعود وسقوط الدول وما يرتبط بذلك من تقديم جماعة علمية على أخرى، أو تبني مذهب وهجر آخر أو حتى حظره!
لقد كان من الطبيعي جدا غَناء الحركة الفقهية في القرنيْن الهجرييْن الأوليْن باعتبارهما قرنيْ الاندفاعة الروحية الإسلامية الكبرى، وانتشار الفتوحات الممتدة مصحوبة بنشر الصحابة والتابعين للعلوم، وما ترتب على ذلك من تعدد المراكز العلمية في أمصار الحجاز والكوفة والبصرة وخراسان والشام ومصر والمغرب، وتكوين الكثير من المدارس العلمية.
والحق أن الاندثار الذي نعنيه هنا هو اندثار التبلور كمذهب وفق شروط وطبقات ومراحل المذاهب الفقهية المعروفة، أي اندثار المدرسة والتيار؛ لأن الكثير من آراء أئمة المذاهب المندثرة ومواقفهم بقيت محفوظة منقولة وظلت دائما ملهمة للعقل الفقهي، فصوابية معظم تلك المذاهب ومصداقية أئمتها أمر مقرر عند أصحاب المذاهب الباقية، بل كثيرا ما رُجّحت اختياراتهم على غيرها في مدونات الفقه المقارن.
وبما أن المذاهب السُّنية المندثرة كانت كثيرة العدد؛ فإن مقالتنا هذه تتأسس على خلاصة في موضوعها قدّمها الإمام السيوطي (ت 911هـ/1506م) في كتابه ‘الحاوي للفتاوي‘، حين قال إن “المذاهب في هذه الملّة الشريفة [ليست] منحصرة في أربعة، والمجتهدون من الأمة لا يُحْصَوْن كثرة، وكلٌّ له مذهبٌ من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهلُمَّ جرا. وقد كان في السنين الخوالي نحو عشرة مذاهب مقلّدة أربابها مدوّنة كتبها، وهي: الأربعة المشهورة، ومذهب سفيان الثوري (ت 161هـ/778م)، ومذهب الأوزاعي (ت 157هـ/774م)، ومذهب الليث بن سعد (ت 175هـ/792م)، ومذهب إسحق بن راهويه (المحدِّث الحافظ ت 238هـ/852م)، ومذهب ابن جرير (الطبري ت 310هـ/923م)، ومذهب داود (الأصفهاني ت 272هـ/886م)، وكان لكل من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويَقْضون، وإنما انقرضوا بعد الخمسمئة لموت العلماء وقصور الهمم”!!
وسنركز هنا على هذه المذاهب الستة التي ذكرها السيوطي، لأنها كانت أشهر المذاهب المندثرة ذكرا وأطولها عمرا، على تفاوت كبير بينها في حدود الانتشار وسرعة الاندثار. على أننا سنستعيض عن مذهب ابن راهويه بمذهب آخر كان أكبر منه وأشهر، وهو مذهب معاصره أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي (ت 240هـ/855م).
وسيكون تناولنا للموضوع ذا شِقين؛ شِقّ نستعرض فيه هذه المذاهب وفقا للترتيب التاريخي لوفيات أصحابها: معرِّفين باختصار بأئمتها ومكانتهم ومشاهير تلامذتهم، وراسمين -كلما أسعفتنا المعطياتُ- خرائطَ انتشارها تاريخياً وجغرافياً؛ ثم يأتي بعد ذلك شِقٌّ نقدِّم فيه أهم ما استخلصناه من علل داخلية وعوامل خارجية وضعت هذه المذاهب على طريق الاندثار.
إمامة مسلَّمة
صاحب المذهب الأوزاعي هو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الهمْداني، إمام دمشقي الميلاد والنشأة بيروتي الوفاة. ويكفي لبيان مكانته العلمية ترجيح الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) فتوى للأوزاعي على فتواه هو نفسه، إذ يروي أبو زرعة الدمشقي (ت 281هـ/894م) رجوع مالك عن فتواه تلك قائلا: “أصاب الأوزاعي”! بل إن الإمام مالك قدّم الأوزاعي على سفيان الثوري وأبي حنيفة (ت 158هـ/775م) -حين سُئل عنهم- قائلا: “كان أرجَحَهم الأوزاعي”.
وأورد ابن أبي حاتم (ت 327هـ/ 939م) -في ‘الجرح والتعديل‘- للأوزاعي رسائل عديدة في مصالح المسلمين العامة موجهة للخلفاء. وكان يقول الحقّ أمام الولاة ولا يبالي، يروي ابن أبي حاتم أن أمير الشام عبد الله بن علي العباسي (ت 147هـ/764م) لما سأل الأوزاعي عن دماء بني أمية لم يتردد في إجابته قائلا: “مَا تَحِلُّ لَكَ”! كما رد عليه دعواه بأن الخلافة وصية لبني هاشم من رسول الله ﷺ فقال: “لَوْ كَانَتِ الْخِلافَةُ مِنْ رَسُولِ الله ﷺ إِذن مَا رَضِيَ عَلِيٌّ (ت 40هـ/661م) بِالْحَكَمَيْنِ”.
وقد ذكر له ابنُ أبي حاتم مواقف مشهودة في إنصاف أهل الذمة من الولاة في لبنان، وهو ما انعكس لُحمة وطنية كاملة في تشييع جنازته؛ فيَروي أنه “خرجت في جنازته أربع أمم ليس منها واحدة مع صاحبتها، وخرجنا يحمله المسلمون، وخرجت اليهود في ناحية، والنصارى في ناحية، والقبط في ناحية”!!
وحسب ابن عساكر (ت 571هـ/ 1176م) في ‘تاريخ دمشق‘؛ فقد بدأ الأوزاعي الفتوى سنة 113هـ/732م وعمره 25 عاما! وصنّف كتبا ضمّنها علمه لكنها تلفت في زلزال كما سنرى. وأشاد الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- بتراث الأوزاعي الفقهي؛ فقال إن “له مسائل كثيرة حسنة ينفرد بها [عن المذاهب]، وهي موجودة في الكتب الكبار، وكان له مذهب مستقل مشهور عمِل به فقهاءُ الشام مدةً وفقهاءُ الأندلس، ثم فَنِيَ”!
ويذكر أبو زرعة الدمشقي -في تاريخه- بسنده عن الهِقْل بن زياد الدمشقي (ت 179هـ/796م) تلميذ الأوزاعي: “أن الأوزاعي أجاب في سبعين ألف مسألة”. وبشأن المدوَّن منها؛ ينقل ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي (264هـ/878م) قوله: “بلغني أنه دون عنه ستين ألف مسألة، قال وهذا الذي عند الوليد أربعة آلاف مسألة قد أخرج من مصنفات الوليد”. وهو الوليد بن مَزْيَدٍ العُذْرِيّ البيروتي (ت 203هـ/819م)، كان أحد تلاميذ الأوزاعي الذين قصدهم ابن عساكر بقوله: “أعلم الناس بالأوزاعي وبمجلسه وحديثه وفتياه عشرة أنفس”.
أما عن انتشار المذهب الأوزاعي؛ فقد شاع أولا في الشام ثم انتقل إلى الأندلس قبل النصف الأخير من القرن الثاني/الثامن الميلادي. قال الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘: “كان مذهب الأوزاعي ظاهرًا بالأندلس إِلى حدود العشرين ومئتين، ثم تناقص واشتهر مذهب مالك..، وكان مذهب الأوزاعي أيضًا مشهورًا بدمشق إِلى حدود الأربعين وثلاثمئة”. وبهذا فإن الشام احتضنت مذهبه، وحملته بيروت معها؛ لكنه ذوَى تدريجيا تاركا ذكرى جنازته تتراءى للذاكرة العامة كلما ذُكِر التنوع والإنصاف في مجال التعايش الديني!!
أما الأندلس؛ فقد كان الغالب عليها الأوزاعية قبل تولي بني أمية حكمها سنة 138هـ/756م وتواصل بعد ذلك حتى مضت حقبة من عهد هشام الرضا (ت 180هـ/797م) الذي بدأ حكمه سنة 172هـ/889م؛ فابن الفرضي (ت 403هـ/1013م) يحدد لنا -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- بداية حضور المذهب الأوزاعي بالأندلس، فيقول في ترجمة زهير بن مالك البلوي (ت نحو 239هـ/865م) إنه “كان فَقِيهاً علَى مذْهَب الأوزاعي، عَلَى مَا كان عَلْيه أهْل الأندلُس قَبْلَ دخُول بَنِي أُمَيَّة”.
وأما نهاية وجود هذا المذهب هناك فيفيدنا بها القاضي عياض المالكي (ت 544هـ/1149م) بقوله في ‘ترتيب المدارك‘: “أخذ أميرُ الأندلس.. هشام بن عبد الرحمن [الداخل] بن معاوية (= هشام الرضا).. الناسَ جميعًا بالتزامهم مذهب مالك، وصيّر القضاء والفتيا عليه”. ومن تلامذة الأوزاعي الأندلسيين صعصعة بن سلام (ت 192هـ/808م) الذي أدخل هذا المذهب إلى الأندلس، وكان آخرهم زهير البلوي المذكور آنفا.
بينما صمدت الأوزاعية في بلاد الشام مدة طويلة حتى منتصف القرن الرابع/العاشر الميلادي، وعن ذلك يقول ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘: “والأوزاعي إمام أهل الشام وما زالوا على مذهبه إلى المئة الرابعة”! فكان آخر المتفقهين به هناك القاضي أحمد بن سليمان ابن حَذْلَم (ت 347هـ/959م) الذي يقول ابن عساكر إنه “آخر من كانت له حلقة في جامع دمشق يدرّس فيها مذهب الأوزاعي”.
مطاردة مربكة
أما مذهب الثوري؛ فمؤسسه سفيان بن سعيد الثوري الذي كان محدِّثا ثبْتاً وفقيها كوفيا عظيما، حتى قال عنه الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م): “ما رأيتُ رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري”! ووصفه العِجْلي (ت 261هـ/875م) -في كتابه ‘الثقات‘- بقوله إنه “ثَبْتٌ فِي الحَدِيث فَقِيه صَاحب سنة وَاتِّبَاع، وَكَانَ من أقوى النَّاس بِكَلِمَة شَدِيدَة عِنْد سُلْطَان يُتَّقَى”!!
وقد أراد الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/775م) تولية الثوري القضاء فامتنع، وهرب من الكوفة أواخر 155هـ/772م فبقي مستترا عن السلطة متنقلا خفيةً بين العراق والحجاز حتى مات بالبصرة 161هـ/778م. وذكر النديم (ت 384هـ/1047م) -في ‘الفهرست‘- عدة كتب للثوري، لكن الذهبي يفيدنا -في السِّيَر- بأنه أوصى بحرق كتبه بعد موته!
ومن الكوفة حيث نشأ مذهب الثوري أولا؛ انتقل هذا المذهب إلى جارتها عاصمة الخلافة بغداد ممثَّلا في تلميذه عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي (ت 182هـ/799م) الذي يخبرنا الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- بأن تلاميذ الثوري أرادوا “إجْلاسه في حلقة سفيان فأبى”.
ووفقا لابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘الباعث الحثيث‘- فقد ظلَّ سفيان الثوري قرونا معترفا به ضمن “أصحاب المذاهب الخمسة المتبوعة”، لكن بحلول مطلع القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي انقرض مذهبه من بغداد، فابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يقول -في ‘المنتظم‘- إن عبد الغفار بن عبد الرحمن الدِّينَوَري (ت 405هـ/1015م) “كان آخر من أفتى على مذهب سفيان الثوري ببغداد في جامع المنصور، وكان إليه النظر في الجامع والقيام بأمره”.
ومن تلامذته النعمان بن عبد السلام البكري (ت 183هـ/800م) الذي كان عابدا زاهدا محدّثا متفقها، وهو الذي أدخل مذهب الثوري إلى أصفهان؛ حسب أبي نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) في ‘تاريخ أصفهان‘. كما وصل هذا المذهب إلى منطقتيْ شيراز وجرجان الواقعتين اليوم في إيران.
وظهر المذهب السفياني بخراسان وتحديدا عاصمتها نيسابور؛ إذ يفيدنا الصريفيني (ت 529هـ/1135م) -في ‘المُنتخَب‘- بأن آخر النيسابوريين السفيانيين هو الحافظ محمد بن عبد العزيز الحِيرِي (ت 451هـ/1060). وانتشر في الدِّينَوَر التي كانت بشمال غربي إيران اليوم؛ حيث يذكر الإمام السمعاني (ت 562هـ/1166م) -في ‘الأنساب‘- أنه “اشتهر بهذه النسبة (= الثوري) جماعةٌ من أهل الدِّينَوَر ينتسبون لمذهب سفيان” الثوري.
وظهر مذهبه كذلك بالشام أسوة بمذهب الأوزاعي؛ فكان له هناك تلامذة صاروا أئمة، ومن أجلهم: الصوفي الشهير بشْر الحافي (ت 227هـ/842م)، والمُعافَى بن عمران الأزدي الموصلي (ت 184هـ/801م) الذي “كَانَ الثَّوْريّ يُسَمِّيه الياقوتة”؛ وفقا لابن حبان (ت 354هـ/965م) في ‘الثقات‘. ومن السفيانيين الشاميين القاضي الحافظ مكيّ بن جابار الدِّينَوَري (ت 468هـ/1076م)؛ طبقا لابن عساكر.
وبقي مذهب الثوري قائما متَّبعا في الأمصار طوال قرون، حتى إن شمس الدين الغزي (ت 1167هـ/1754م) يضع لنهايته حدًّا زمنيا شبه دقيق؛ فيقول -في ‘ديوان الإسلام‘- إنه “بقي مقلِّدوه إلى قريب الخمسمئة”، ولعله تواصل بعدها لأن المحدِّث عبد الرحمن بن حمد الصوفي الدوني العراقي (ت 501هـ/1106م) “كان سفيانيَّ المذهب”؛ كما يحكي عنه أبو طاهر السِّلَفي (ت 576هـ/1180م) في ‘معجم السفر‘. بل إن ابن تيمية يتحدث -في ‘الفتاوى‘- عن وجوده في عصره، فيذكر أنه “باقٍ إلى اليوم بأرض خراسان”!!
وبهذا يظهر جليا أن مذهب الثوري أضاعته النزعات الزهدية لطلابه، علاوة على ملاحقات السلطة له في آخر عمره العلمي؛ مما حدّ من عطائه وحرمه التعليمَ بحرية والاستكثار من الطلاب، وأربك تواصل أجيال المذهب وتراكم تراث العلم والنظر الفقهي فيه.
إهمال مضيِّع
من أبرز المذاهب المندثرة مذهبُ الليث بن سعد القلقشندي المصري (ت 175هـ/792م)، الذي كان إماما كثير الحفظ للحديث والآثار وحاز مكانة علمية كبيرة، عبَّر عنها باختصار عبد الله بن وهب (ت 197هـ/813م) تلميذ مالك بقوله: “كلُّ ما كان في كُتُب مالك [من عبارة]: «وأَخْبَرَنِي مَن أرضَى مِن أهل العلم»، فهو [يعني به] الليثَ بْن سعد”! وقال الشافعي (ت 204هـ/820م): “الليث أفقه من مالك بن أنس إلا أنه ضيعه أصحابه”؛ حسب رواية أبي الشيخ الأصفهاني (ت 369هـ/977م) في ‘طبقات المحدثين بأصفهان‘.
أما تصانيفه فيقول الذهبي عنها: “وهو إمام حجة كثير التصانيف”! إلا أنها اندثرت وبقي منها كُتيب صغير طُبع ضمن كتاب ‘الفوائد‘ لابن منده (ت 475هـ/1082م)، كما نُشِر جزء من أماليه بعنوان: ‘مجلسٌ من فوائد الليث بن سعد‘. ومن تلاميذ الليث ابنه شعيب (ت 199هـ/815م) الذي يصفه ابن يونس الصدفي (ت 347هـ/959م) -في تاريخه- بأنه كان محدّثا فقيها مفتيا، وحفيده الفقيه المحدث عبد الملك بن شعيب (ت 248هـ/863م).
ومن تلاميذه كذلك كاتبه: عبد الله بن صالح الجهني (ت 222هـ/838م)، وحماد بن صفوان بن عتاب الغافقي الذي يقول السمعاني إنه “كان جليسا لليث بن سعد وكان يحفظ مذهبـ[ـه]”! وإسحق بن بكر بن مضر (ت 228هـ/843م) الذي “كان يُفتِي في حلقة الليث بقوله”؛ كما في ‘تاريخ ابن يونس‘. وبهذا اندثر فقه الليث، وإن بقيت سيرته العلمية والاجتماعية مبثوثة في بطون الكتب فقيها وقدوة اجتماعية مؤثرة.
أما مذهب أبي ثور؛ فصاحبه هو: إبراهيم بن خالد الكلبي (ت 240هـ/855م) الذي قال الخطيب البغدادي إنه “كَانَ أحد الثقات المأمونين، ومن الأئمة الأعلام فِي الدين، وله كتب مصنفة فِي الأحكام جمع فِيهَا بين الحَدِيث وَالفقه”. وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/856م) أقوالا عديدة يقرّظه فيه، منها جوابه لمن سأله عن مسألة في الفقه: “سَلْ -عافاك اللَّه- غيرَنا! سَلْ الفقهاءَ، سَلْ أبا ثور”!
وكان أبو ثور ينتمي إلى المذهب الحنفي ثم لقي الشافعي حين زار العراق فأخذ عنه؛ وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي: “كان أولا يتفقه بالرأي ويذهب إلى قول أهل العراق (= الحنفية)، حتى قدِم الشافعي بغدادَ فاختلف إليه ورجع عن الرأي إلى الحديث”. لكن أبا ثور سرعان ما تميَّز بمذهب خاص به عن كلا المذهبين السابقين؛ فهذا النديم يفيدنا بأنه “استحدث لنفسه مذهبا مشتقا من مذاهب الشافعي”، ولعله يقصد بذلك مذهبيْ الشافعي القديم بالعراق والجديد بمصر.
وقد وصفه الحافظ ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ/1071م) -في ‘الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء‘- بأنه “لَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ يَذْكُرُ فِيهَا الاخْتِلافَ وَيَحْتَجُّ لاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْفُقَهَاءِ”. ثم أوضح أنه كان “أَكْثَر مَيْلا إِلَى [آراء] الشَّافِعِيِّ.. فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا”.
وربما كان هذا التقارب مع الشافعية من أسباب ارتباك مذهب أبي ثور في التصنيف بين الحنفية والشافعية والاستقلالية؛ وهو ما جعل الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) يفصّل الأمر -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- قائلا: “ومع هذا الذي ذكرته من كون أبي ثور من أصحاب الشافعي، وأحد تلامذته والمنتفعين به والآخذين عنه، والناقلين كتابه وأقواله؛ فهو صاحب مذهب مستقل، [فـ]ـلا يُعدّ تفرُّدُه وجهًا في المذهب”. وأوضح النووي أن قوله هذا هو قول “الأئمة المصنِّفين في اختلاف مذاهب العلماء”، واصفا مذهب أبي ثور في كثير من المسائل بأنه “قوي أو أقوى من مذهب الشافعي دليلاً”!
ومن كبار تلاميذه: عُبيد الله بن محمد بن خلف البزّاز (ت 293هـ/906م) الذي يقول ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- إنه “كان عنده فقه أبي ثور”، ومنهم الصوفي المعروف الجُنيد بن محمد البغدادي (ت 298هـ/910م) الذي كان ممن جمعوا بين الفقه والتصوف والحديث، وكان يخبر عن توثق علاقته بشيخه أبي ثور فيقول: “كنتُ أفتي فِي حلقة أَبِي ثور الكلبي الفقيه ولي عشرون سنة”!! ومنهم الحسنُ بن سفيان الشيباني النسائي (ت 303هـ/906م) الذي يصفه ابن عساكر بأنه كان “أديبا فقيها أخذ الأدب عن أصحاب النضر بن شُمَيْل (ت 204هـ/820م) والفقه عن أبي ثور”.
وباعتبار جمْع أبي ثور بين آراء أبي حنيفة والشافعي؛ فإنه يمكن القول إن مذهبه كان ثمرة التقاء مدرستيْ الرأي بالعراق والرواية بالحجاز، ونتاجا علميا لتلاقح منهجين فقهييْن متنوعيْن؛ لكن مذهبه لم يدم تاريخيا زمنا طويلا، إذ يرى الإمام الذهبي -في ‘السِّيَر‘- أنه “انقطع أتباع أبي ثور بعد الثلاثمئة”. وأما جغرافياً؛ فقد انتشر مذهب أبي ثور خارج موطنه العراق انتشارا محدودا، فكان “أكثر أهل أذربيجان وأرمينية يتفقهون على مذهبه”؛ كما يخبرنا النديم الذي أورد عناوين مصنفات من تراثه الفقهي.
ظاهرية متمايزة
مؤسس مذهب الظاهر/الظاهرية هو: داود بن علي الأصفهاني (ت 270هـ/884م)، وهو المذهب الذي يقول بالأخذ بظواهر نصوص الشرع ونبذ إدخال القياس الفقهي ضمن أصول الأحكام الشرعية، فكان صاحبه داود “أولَ من أظهر انتحال الظاهر ونفَى القياس في الأحكام”؛ وفقا للخطيب البغدادي. وهو أمرٌ بقدر ما منح هذا المذهب استقلاليته الفكرية، فإنه أربك علاقته المعرفية ببقية المذاهب والتيار الفقهي العام إجمالا، كما عقّد البنية المعرفية للمذهب.
وقد ترجم الذهبي -في ‘السِّيَر‘- لداود الأصفهاني فوصفه بأنه “الإمام البحر الحافظ العلامة، عالم الوقت.. رئيس أهل الظاهر…، أخذ العلم عن إسحق بن راهويه وأبي ثور [الكلبي]..، وقيل: إنه كان في مجلسه أربعمئة صاحب طيلسان أخضر (= زِيّ طلاب العلم)، وكان من المتعصبين للشافعي..، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد”.
وقد ترك داود كتبا مجزَّأة على أبواب الفقه، وترك وراءه تلاميذ كان أبرزهم ابنه الإمام الكبير أبو بكر محمد بن داود (ت 297هـ/910م) الذي نافح عن المذهب وآرائه، كما في كتابه: ‘الانتصار من أبي جعفر (= الإمام الطبري)‘. ومنهم عبد الله ابن المغلِّس الظاهري (ت 324هـ/937م) الذي يقول عنه الخطيب البغدادي: “وعن ابن المغلِّس انتشر علم داود في البلاد”.
وقد أشرق مذهب الظاهرية من الغرب الإسلامي حين تألق نجمه في فضاء الأندلس، وظلّ له أتباع هناك بالتوازي زمنيا مع وجوده في المشرق. وكان أول من حمله إلى هناك عبد الله بن قاسم القيسي (ت 272هـ/886م)، الذي قال عنه الإمام ابن حزم (ت 456هـ/1064م) في ‘رسالة فضْل الأندلس‘: “وإذا نعتْنا عبد الله بن قاسم.. ومنذر بن سعيد (البلّوطي ت 355هـ/966م) لم نجارِ بهما إلا أبا الحسن بن المغلِّس [وأمثاله]..، وقد شَرَكَهم عبد الله في أبي سليمان (= داود الظاهري) وصحبته”.
كما نبغ في المذهب من الأندلسيين قاضي قضاتها المنذر البلّوطي الذي انتصر -في كتبه التي وصلنا بعضها- لمذهبه الظاهري في بيئة الأندلس المالكية المذهب، ورغم ظاهريته الفقهية فإنه كان يميل لآراء المتكلمين في الاعتقادات؛ وفقا لابن الفرضي. وتحدث عنه أبو الحسن النُّباهي (ت 792هـ/1390م) -في ‘المَرْقبة العليا‘- قائلا إنه “كَانَ متفنناً فِي ضروب الْعلم، وَغلب عَلَيْهِ التفقه بِمذهب أبي سُلَيْمَان دَاوُد.. الْمَعْرُوف بالظاهري؛ فَكَانَ يُؤثر مذْهبه وَيجمع كتبه ويحتج بمقالته وَيَأْخُذ بهَا لنَفسِهِ، فَإِذا جلس مجْلِس الْحُكُومَة (= القضاء) قضى بِمذهب مَالك بن أنس وَأَصْحَابه -الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل فِي بَلَده- وَلم يعدل عَنهُ”.
ومن الأندلسيين من كان له اعتناقٌ خاطف للمذهب الظاهري وتمذهبٌ مؤقَّت به، مثل الحافظ ابن عبد البر (ت 463هـ/1072م)؛ فقد ذكر الذهبي أنه “كان في أول زمانه ظاهري المذهب”، ورغم إمامته في المالكية فإنه كثيرا ما رجَّح آراء فقهية للظاهرية أو الشافعية مخالفة لمذهبه، فيقول الذهبي إنه “كان كثيرا ما يميل إلى مذهب الشافعي”. غير أن ابن حزم لم يصرح بظاهرية ابن عبد البر -وهو صديقه وشيخه في الحديث- كما فعل مع البلوطي.
مشروع حزمي
أما خاتمة أئمة الظاهرية القدامى بالأندلس فكان الإمام ابن حزم نفسه الذي وصفه الذهبي بأنه “رأسٌ في علوم الإسلام”، وترك كتبا عظيمة الأثر في الفقه والأصول والفِرَق مثل: ‘المحلى بالآثار‘، و‘الإحكام لأصول الأحكام‘، و‘الفصل في المِلل والنِّحل‘؛ وقد ضمّنها مشروعه الفكري والشرعي.
وممن عُدَّ من أئمة ظاهرية الأندلس تلميذا ابن حزم: القاضي صاعد بن أحمد الطُّليطلي (ت 463هـ/1071م)، والحافظ الحُميدي الأزدي (ت 488هـ/1096م)، وأحمد ابن حزم حفيد ابن حزم نفسه (ت 540هـ/1146م)، والصوفي الشهير ابن عربي الحاتمي (ت 638هـ/1240م) الذي نعته الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- بأنه “كان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات”!!
ومنهم كذلك الإمام النحوي أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ/1345م) الذي يقول فيه ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في ‘الدرر الكامنة‘- إنه “كان ظاهريا وانتمى إلى الشافعية [حين سكن مصر سنة 679هـ/1280م]..، وكان [تلميذُه القاضي] أبو البقاء (الحنفي ت 772هـ/1371م) يقول: إنه لم يزل ظاهريا! قلتُ (= ابن حجر): كان أبو حيان يقول: مُحالٌ أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه”!!
وقد عاش المذهبُ الظاهري حقبة ازدهار في بعض عهود دولة الموحدين بالمغرب والأندلس، وخاصة في أيام المنصور يعقوب الموحدي (ت 595هـ/1199م) الذي يروي المقّري -في ‘نفح الطيب‘- أنه كان معجبا بابن حزم، وأنه وقف يوما على قبره ثم قال: “كل العلماء عيال على ابن حزم”! ولعل هذا الإعجاب هو الذي دفعه إلى “الثأر” لابن حزم من خصومه فقهاء المالكية النافذين سلطانيا حين أغروا حكام الأندلس بالتضييق عليه بل وإحراق كتبه. فأمر المنصور هذا سنة 591هـ/1195م بحرق كتب فروع الفقه المالكي، ليس في الأندلس فحسب وإنما في بلاد المغرب أيضا؛ كما صوّر لنا وقائعَه المؤرخُ عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ/1250م) -في كتابه ‘المُعجِب‘.
ورغم محدودية انتشار الظاهرية؛ فإن الإمام ابن حزم الأندلسي منحهم -في ‘رسالة في جُمل فتوح الإسلام‘- الغلبة الفقهية على الدولة الغزنوية في أيامه، فقال إنها دولة “عظيمة في الهند، هي الآن مسكونة بالمسلمين معمورة بطلاب الحديث والقرآن، والغالبُ عليها -والحمد لله رب العالمين- مذهبُ الظاهر”!! وعلى كل؛ يبدو أن الظاهرية تواصل وجودها عموما في المشرق الإسلامي حتى إن ابن تيمية يقرر أن “مذهبَهم باقٍ إلى اليوم”! أي في النصف الأول من القرن الثامن/الرابع عشر الميلادي.
وقد أيّد ذلك الذهبي بقوله -في ‘السِّيَر‘- مُقِرًّا بحضور الظاهرية مذهبا مستقرا في عصره: “صار الناس اليوم في الدنيا إلى خمسة مذاهب، فالخامس: هو مذهب الداودية”، لكنه يستدرك بشأن عددهم حينها فيؤكد أنه لم يبق من “أصحاب داود إلا القليل”. أما ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) فيقول -في ‘المقدمة‘- واصفا حال الظاهرية نهاية ذلك القرن: “ثمّ درس مذهب أهل الظّاهر اليوم بدروس (= وفاة) أئمّته”!!
ومما يستحق التوقف عنده فيما يخص أهل الظاهر: ثنائيّتُهم المعرفية؛ فاثنان من كبار منظّري الظاهرية ألَّفا في الحُبّ والصَّبابة، وهما أبو بكر محمد بن داود الظاهري وابن حزم، بل تظهر هذه الثنائية كذلك في اجتماع الظاهرية الفروعية مع علوم الكلام بما فيها من تأويلات في الأصول، كما في حالة المنذر البلوطي الظاهري المذهب والميّال لآراء المتكلمين في الاعتقادات؛ كما سبق القول. وكذلك ابن حزم الذي أجاد الذهبي تلخيص ثنائيته المنهجية بقوله -في ‘السِّيَر‘- إن فيه “فَرْط ظاهرية في الفروع لا الأصول”! وتدْخل في ذلك أيضا ثنائية ابن عربي في “ظاهريته” الفقهية و”باطنيته” الصوفية!!
جريرية محاصَرة
وفقا للترتيب الزمني؛ فإن محمد بن جرير الطبري هو آخر العقول الفقهية التي استقلت باختياراتها المذهبية. وقد ضَمّن تراثَه الفقهي كتابَه غير المكتمل المسمَّى ‘تهذيب الآثار‘، والذي وصفه الخطيب البغدادي بأنه “لم يكن في معناه مثله”، مشيدا بكثرة العلوم التي أتقنها الطبري ومؤكدا انفراده باختيارات فقهية خاصة به.
لكن بغداد ما بعد سنوات “محنة خلق القرآن” (218-232هـ/833-847م) ليست هي بغداد ما قبلها؛ كما أن الخصومة بين ابن جرير والظاهرية كان لها أثرها في محنة من نوع آخر نالته. فقد وشى أبو بكر محمد بن داود الظاهري بابن جرير متهما إياه بتأويل بعض الصفات الإلهية، كما راج بين العامة أن الطبري يجيز المسح على الرجلين، فاتهمه العامة بالتشيع!!
وتأويل الصفات ليس واردا في كتب الطبري؛ بل على العكس يقول الذهبي إن “تفسير هذا الإمام مشحونٌ -في آيات الصفات- بأقوال السلف على الإثبات لها لا على النفي والتأويل، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين أبدا”! ثم يضيف: “وشُنِّع عليه بيسير تشيُّعٍ، وما رأينا إلا الخير؛ وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرِّجليْن في الوضوء؛ ولم نَرَ ذلك في كتبه”!
ونتيجة لهذا الجو المشحون؛ منع الحنابلةُ دخولَ الناس على الطبري والسماع منه، وهو ما انتقدهم عليه الإمام المحدّث ابن خزيمة (ت 311هـ/924م) فقال -وفقا للخطيب البغدادي- عن الطبري: “لم أعلمْ على أديم الأرض أعلمَ من محمد بن جرير، ولقد ظلمتْه الحنابلةُ”!!
أما تلاميذ الطبري فقد عقد النديم فصلا سرد فيه أسماء طائفة منهم؛ مثل أحمد بن يحيى المتكلم (ت 327هـ/939م) مؤلف ‘المدخل إلى مذهب الطبري‘ و‘الإجماع في الفقه على مذهب أبي جعفر‘. ومن أبرز ممثلي “المذهب الجريري” القاضي والصوفي الأديب المُعافَى بن زكريا النهرواني الجريري (ت 390هـ/1000م) الذي كان متنوِّع العلوم من الكلام وحتى النحو، ومصنفاتُه -حسبما يذكره النديم في ‘الفهرست‘- تجاوزت الخمسين، منها ‘شرح كتاب الخفيف للطبريّ‘ ومؤلَّفُه الذائع ‘الجليس الصالح‘.
وبالنسبة للرقعة الجغرافية لانتشار مذهب الجريرية؛ فإننا لم نقف بعدُ في رسمها على معطيات محدَّدة، لكن المؤرخ تاج الدين ابن الساعي (ت 674هـ/1273م) يفيد بحصول انتشار معتبَر له، فيقول -في ‘الدُّرّ الثمين في أسماء المصنفين‘- إن الطبري كان “له مذهب في الفقه اختاره لنفسه، وصار أحد رؤساء الأئمة..، [وقد] تخرَّج بكلامه جماعةٌ من أهل العلم، وانتشر علمه في الآفاق”!
وأما الحدود الزمنية لمذهبه فالظاهر أنها لم تمتد كثيرا بعد وفاته؛ ويفيدنا الذهبي بتقدير عام لها فيذكر -في ‘السِّيَر‘- أنه “بقي مذهب ابن جرير إلى ما بعد الأربعمئة”. وهكذا عطلت العصبية المذهبية وميراث المحنة نماءَ آخر المذاهب الفقهية المستقلة عن المذاهب الأربعة السُّنية، ومنعت بقاءه فحرمت الأمّة من مدرسة أصولية وفقهية متميزة.
إشكاليات بنيوية
يوجد داخل هيكلية كل مذهب أركانٌ عليها يقوم: الإمامُ وتلاميذُه من الناحية البنيوية، ومن الناحية المعرفية هناك المبادئ والمنهجية التي يتأسس عليها المذهب: توثيق روايات الإمام وأصوله، واستخلاص قواعده وتنظيمها، ثم وضع الكتب الحافظة لها والبانية للفروع عليها، وترسيخ الأساليب الناظمة لعملية التخريج والتدريس، وتمهيد طرق الترجيح وآليات صناعة الفتوى المذهبية؛ فكل ذلك هو ما يمنح المذهب هويته المستقلة، وصورته التأصيلية التي يستمد منها ويتمدد في الأقاليم والمناطق مدارسَ متنوعة.
وفي ذلك يقول الإمام الزركشي (ت 794هـ/1392م) -في ‘البحر المحيط‘- عارضا موانع الإقبال على المذاهب غير المخدومة منهجيا: “إنما يقلَّد [من الأئمة] الذين دُوِّنت مذاهبهم، وانتشرت حتى ظهر منها تقييدُ مطلَقِها وتخصيصُ عامِّها، بخلاف غيرهم فإنه نُقلت عنهم الفتاوى مجرَّدة، فلعل لها مكمِّلا أو مقيِّدا أو مخصِّصا..، فامتناعُ التقليد [لهم] إنما هو لتعذر نقل حقيقة مذهبهم”.
بل جاء في ‘المستدرك على مجموع الفتاوى‘ لابن تيمية أن الإمام أبا عمْرو ابن الصلاح الشافعي (ت 643هـ/1246م) كان يرى أنه “ليس له (= المقلِّد) التمذهبُ بمذهب أحد من أئمة الصحابة، وإن كانوا أعلم [من غيرهم]؛ لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب، وإنما قام بذلك مَنْ جاء بعدهم”.
وبناءً على ذلك؛ فقد واجهت بعض المذاهب مشاكل في هذه الأسس الحافظة فولّدت معيقات لانتشار المذاهب الفقهية نماءً وبقاءً؛ فمثلا قد لا يكون الأساس المعرفي للمذهب قويا، أو قد يتسبب للمذهب في موقف مضاد لبقية المذاهب، كما حصل في نفي الظاهرية للقياس الفقهي مما جعلهم عرضة للنقد المبكر بسبب ضرورة القياس فقهيا، حيث اضطر داود الظاهري نفسه إليه لكنه وضعه في صورة الاستدلال لا المصدرية التشريعية؛ أو بعبارة الخطيب البغدادي: “نفى القياس في الأحكام قولا واضطر إليه فعلا، فسمَّاه دليلا”.
وقد هاجم القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (543هـ/1149م) -في ‘العواصم من القواصم‘- الظاهرية بسبب أخذهم بظاهر النص ومطالبتهم بإنفاذ حكم الله على الحقيقة، مساويا -بسبب هذه الفكرة- بينهم وبين الخوارج؛ فقال إنها “تسوَّرتْ على مرتبة ليست لها وتكلمت بكلام لم تفهمه، تلقفوه من إخوانهم الخوارج حين حكّم عليٌّ.. يوم صِفِّين (سنة 37هـ/658م)، فقالت: لا حكم إلا لله! وكان أول بدعة لقيتـ[ـها] في رحلتي [إلى المشرق سنة 485هـ/1092م].. القول بالباطن، فلما عُدْتُ [إلى الأندلس سنة 496هـ/1103م] وجدتُ القول بالظاهر قد ملأ المغرب”!!
وقاد هذا الإشكال المعرفي بدوره إلى طرح سؤال فقهي هامٍّ يتعلق بمنزلة الظاهرية العلمية ومدى الاعتراف بهم في المشهد الفقهي العام؛ وهو: إذا خالف الظاهرية بقية الفقهاء في مسألة فهل ينعقد الإجماع برغم وجود هذا الخلاف أم لا ينعقد بسبب خلافهم مع بقية الفقهاء في أصل القول بالقياس؟ وقيمة السؤال تكمن في اعتبار الظاهرية فقهاء يعتد بقولهم أم لا؟
وقد نقل الزَّرْكَشي -في ‘البحر المحيط‘- اختلافَ الفقهاء في هذه المسألة الأصولية، موضحا عدم اعتداد الجمهور والمحققين بخلاف الظاهرية الفقهي لهم؛ معللا ذلك بقوله: “وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَلَمَّا أَحْدَثُوا قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَتْ بِهِـ[ـم] إلَى الْمُنَاقَضَةِ لِمَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا اجْتَرَؤوا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أُخْرِجُوا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ”! وإن كان الزركشي توسّط فقبل خلافهم فيما لا يكون مبنيا على أصولهم “التي قام الدليل القاطع على بطلانها”.
زهادة وانعزال
ولا يمكن إغفال الأحوال النفسية وتأثيرها على تدوين التراث المعرفي المذهبي ونقله للأجيال وتراكميته المنهجية؛ فقد تحدث أزمات نفسية تؤدي ببعض الأئمة لعدم الاكتراث بما كتبوه وعلموه فيعرض ذلك تراثهم للضياع. ومن ذلك إعراض الأوزاعي عن مصنفاته بعد حادثة احتراقها التي يرويها ابن عساكر قائلا: “احترقتْ كتب الأوزاعي زمن الرجفة، [وكانت] ثلاثة عشر قُنْداقاً (= دفتر كبير)؛ فأتاه رجل بنُسَخها [فـ]ـقال: يا أبا عمرو، هذه نسخة كتابك وإصلاحك بيدك! فما عرض لشيء منها حتى فارق الدنيا”!! والرجفة المقصودة هنا هي زلزال ضرب سواحل الشام سنة 130هـ/748م.
وأرى أن الأوزاعي مَرَّ بمرحلة مال فيها إلى الزهد فخرج مرابطا في أحد ثغور الجهاد الشامية؛ فقد نقل ابن عساكر عن تلميذه الوليد بن مَزْيَدٍ البيروتي قوله: “سمعتُ الأوزاعي يقول: جئتُ إلى بيروت أرابط فيها”! ولمّا زالت تلك الحال الزهدية التي عرضت له؛ أجاز رواية كتبه قائلا: “عليكم بكُتُب الوليد بن مزْيد فإنها صحيحة”؛ وفقا لابن عساكر. ومن تاريخ ولادة ابن مزْيد سنة 126هـ/744م؛ يترجح لدينا تأخُّر تلمذته على الأوزاعي عن تاريخ الزلزال المذكور، وعليه فإن الأوزاعي قد يكون رجّح أولوية تبليغ العلم بعد مروره بتلك الحالة الزهدية!
وما يعرض للأئمة من أحوال فإن تلاميذهم به أولى؛ فقد يكتفي بعض التلاميذ بالزهادة والالتزام الفردي بما تعلموه، وهو ما لاحظه الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) معلِّلا به ما كاد يلحق مذهب جماعته الحنابلة من اندثار؛ فقال -فيما نقله عنه ابن الجوزي في ‘مناقب أحمد بن حنبل‘- إن “هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه..؛ فإنه قَلَّ فيهم مَن يَعْلمُ بطَرَفٍ من العلم إلا ويُخْرِجه ذلك إلى التعبُّد والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم”!!
وبتطبيق ذلك على المذهب الأوزاعي؛ نجد أن محمدا نجل الإمام الأوزاعي (ت بعد 190هـ/807م) كان زاهدا عابدا، ولم يروِ عن أبيه إلا الآثار الأخلاقية؛ طبقا لابن عساكر. وهو ما تكرر مع مذهب الثوري الذي كان شيخ الزاهدين، وكذلك تلميذه بشر الحافي حين ترك رواية الحديث قائلا حسب الخطيب البغدادي: “الحديث اليوم طرفٌ مِن طلب الدنيا ولذةٌ..، وإن لي كتبا كثيرة قد ذهبت.. وإني لأهمُّ بدفنها وأنا حيّ صحيح”! والأمر نفسه وقع لمذهب أبي ثور؛ فالجنيد البغدادي -الذي كان يفتي في حضرة شيخه أبي ثور- تصوف واشتغل بعلم التصوف عن نشر مذهب شيخه!!
وقد تساهم قلة عدد التلاميذ الجادين وضعف الهمة فيمن بعدهم وقلة الضبط والتدوين في ضياع المذهب. ويمكن التمثيل هنا أيضا بالمذهب الحنبلي الذي كاد يندثر لولا علوّ همة أحد أتباعه الأولين ممن أخذ عن تلامذة مؤسس المذهب؛ إذ نجد أن أبا بكر الخَلّال (ت 311هـ/924م) هو أول من دوّن علومه في آخر عمره بعد مطلع القرن الرابع/العاشر الميلادي.
فالخطيب البغدادي يقول إن الخلّال هذا “كان ممن صرف عناية إلى الجمع لعلوم أحمد بن حنبل وطلبها وسافر لأجلها، وكتبها عاليةً ونازلةً، وصنَّفها كتُباً، ولم يكن فيمن ينتحل مذهب أحمد أجمعُ منه لذلك. وهو ما يؤيده الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بقوله: “ولم يكن قبله (= الخلال) للإمام مذهب مستقل، حتى تتبع هو نصوص أحمد ودوّنها وبَرْهَنها بعد الثلاثمئة”.
تقصير معيق
وفي المقابل؛ فإن مذهب الأوزاعي عانى من قلة التلاميذ وضعف هممهم، فقد بلغ عدد تلاميذه العارفين بفتاواه عشرة أشخاص فقط، ولم يبلغ ما دونوه عنه من فتاواه نسبة 10%؛ حسب معطيات ابن عساكر السابقة. وقد ضعفت همة أصحابه عن التدوين ومذاكرة المسائل ناهيك عن التفريع والاستنباط؛ ولذلك يروي ابن عساكر أن مفتي أهل الشام المعاصر للأوزاعي الإمام سعيد بن عبد العزيز التنوخي (ت 167هـ/784م) كان يعاتب أصحاب الأوزاعي فيقول لهم: “ما لكم لا تجتمعون؟! ما لكم لا تتذاكرون؟!”.
وعندما انتقل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس واجه إشكالية الاهتمام العلمي نفسها؛ فالقاضي المصعب بن عمران يقول عنه ابن الفرضي -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- إنه “راوية عن الأوْزَاعِيّ وغيره من الشامييّن، وروى عن المدنييّن، وكان لا يقلد مَذْهَباً ويقضي بما رآه صَوَاباً”، وهذا التقصير ذاته وقع مع الليث بن سعد فعبّر عنه الشافعي بقوله وفقا للذهبي: “كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ”.
وقد يُفْضي التفرق في البلدان إلى نتيجة مشابهة على مستوى اندثار المذاهب؛ لأن هذا التباعد -دون كثافة وجودية تضمن للمذهب الترسخ- يحول دون التراكم المعرفي، ونشر المذهب والدفاع عنه انطلاقا من مركز يكون له حاضنة ومعقلا. فدونك تراجم أصحاب الثوري الذين توزعوا -كما ذكرنا- أفرادا بين منشأ مذهبه بالكوفة وبغداد والموصل والدينور وأصفهان ونيسابور وشيراز وجرجان. وهذا التفرق للطلاب والتلاميذ وقع لمذهب أبي ثور الذي توزع بين بغداد والريّ (طهران اليوم) وخراسان ومصر.
كما يُفني المذاهبَ تتابعُ وفياتِ تلاميذ مؤسسيها قبل أن يوجد خَلَف من الأتباع يحمل علمهم؛ فقد فني مذهب الأوزاعي في الشام بتقارب فناء العارفين بفقهه من تلاميذه؛ فخلال أربعين سنة من وفاة المؤسس توفيت نخبتهم الشامية مثل الهِقْلُ بن زياد والوليد بن مَزْيد البيروتي. وفي الأندلس تحول عبد الملك بن الحسن المعروف بزونان (ت 232هـ/847م) من الأوزاعية إلى المالكية، وكانت وفاة آخرهم هناك وهو -زهير بن مالك البلوي- بعد 80 سنة فقط من وفاة الأوزاعي! وقد أدرك الذهبي إسهام تقارب وفيات التلاميذ في اندثار الأوزاعية؛ فقال في ‘السِّيَر‘: “اشتهر مذهب الأوزاعي مدةً وتلاشى أصحابه وتفانوا”!!
والأمر ذاته يُحتمَل أنه أدى لاندثار مذهب الثوري؛ فقد توفي تلاميذه النشطون في ظرف ثلاثين عاما بعد إمامهم يتقدمهم كبيرهم المعافى الموصلي، واعتزل التعليمَ بشرُ الحافي بعد تصوفه. أما مذهب الظاهرية؛ فقد مرَّ معنا قول ابن خلدون واصفا حاله في أيامه: “ثمّ درس مذهب أهل الظّاهر اليوم بدروس (= وفاة) أئمّته”!!
وإذا حاول أحدٌ ما إحياء المذهب المندثر بمجرد الرجوع للكتب وفي ظل اختفاء شيوخه؛ فقد يتحول إلى “مبتدع” حسب ابن خلدون الذي يقول إنه “ربّما عُدّ بهذه النّحلة من أهل البدع بنقله العلم من الكتب من غير مفتاح المعلِّمين! وقد فعل ذلك ابنُ حزم بالأندلس على علوّ رتبته في حفظ الحديث، وصار إلى مذهب أهل الظّاهر ومَهَر فيه باجتهادٍ زعَمَه في أقوالهم. وخالف إمامَهم داود، وتعرّض للكثير من الأئمّة المسلمين؛ فنقم النّاسُ ذلك عليه، وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا، وتلقَّوْا كتبه بالإغفال والتّرك، حتّى إنّها ليُحْظر بيعها بالأسواق، وربّما تمزّق في بعض الأحيان”!!
حسابات سلطوية
تؤثر اهتمامات البيئة العلمية على نضج التلاميذ وقدراتهم الاستيعابية ووعيهم بأهمية العالِم وقيمة علمه ونشره؛ ومن هنا يمكن إرجاع تقصير تلاميذ الليث بن سعد لافتقاد المصريين في تلك الحقبة إلى التراكم العلمي اللازم للتحصيل، وإتقان التدوين المحصِّن للروايات المذهبية من التلاشي.
فرغم كثرة تصانيف الليث حتى وصفه الذهبي بأنه “إمام حجة كثير التصانيف”؛ فقد ظل المصريون طول القرن الأول/السابع الميلادي ميّالين لروايات الفتن والملاحم وفضائل الأعمال، حتى ظهر يزيد بن أبي حبيب النوبي (ت 128هـ/746م) وهو من شيوخ الليث، فكان “أولَ من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام ومسائلهما..، [وقد] كانوا-قبل ذلك- يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب في الخير”؛ حسب ابن يونس في تاريخه.
وفي المقابل، قد تؤدي منازعات البيئة الفقهية إلى عزل المذهب والإجهاز عليه في مهده؛ كما وقع بين الحنابلة -متحالفةً مع الظاهرية- والطبري، رغم أنه كان -بشهادة الإمام المحدّث ابن خزيمة- مظلوما في هذا الخلاف. وفي ذلك يقول الذهبي: “وقد وقع [خلاف] بين ابن جرير وبين ابن أبي داود، وكان كلٌّ منهما لا ينصف الآخر، وكانت الحنابلة حزبَ أبي بكر بن أبي داود، فكثّروا وشغبوا على ابن جرير، وناله أذى ولزم بيته”. وبحسبة بسيطة؛ يمكن معرفة أن الطبري عانى العزلة 13 عاما متصلة على الأقل، فقد توفي غريمُه الذي أطبق عليه الحصارَ الإمامُ أبو بكر بن داود (297هـ/910م)، وعاش الطبري حتى (310هـ/923م)، ومدة عزله هذه تمثّل قرابة ثلث فترة نشاطه العلمي!!
وقد تسوء العلاقة بين فقيه ما وبقية الفقهاء ومع الجمهور بسبب هجومه عليهم، وحدّة أسلوبه في الرد؛ فتنقطع صلته ببقية الفقهاء وعموم الجمهور ويُخضع للحصار الجائر، وفي ظل الهجوم المتبادل والتعصب المذهبي لا يمكن لمذهب الصمود وتحقيق القبول الاجتماعي الضامن للانتشار والتجدد. وابن حزم أوضح نموذج على ذلك؛ فابن بسام الشَّنْتَرِيني (ت 542هـ/1147م) يصف لنا -في ‘الذخيرة‘- حاله في مواجهة خصومه، فيقول: “فلم يك يلطّف صَدْعَه (= تصريحه) بما عنده بتعريضٍ..، بل يصك به معارضه صَكَّ الجندل (= الصخر).. فينفِّر عنه القلوبَ..، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالؤوا على بغضه، وردّوا قوله وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم مْن فتنته، ونهوْا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فطفق الملوك يُقْصونه.. عن بلادهم”!!
لم تخل مسيرة المذاهب المندثرة من أثر حسابات السياسة وأمزجة السلاطين المتقلبة تجاه العلاقة بين الأمراء والعلماء؛ فقد طارد العباسيون سفيان الثوري إلى درجة لم يتمكن معها من التحديث، ويروي الخطيب البغدادي طرفا من ذلك فيقول: “بعث [الخليفة العباسي] أبو جعفر المنصور الخشّابين -حين خرج إلى مكة (حاجًّا سنة 158هـ/775م)- فقال: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، قال: فجاءه النجّارون ونصبوا الخشب، ونودي [عليه]: سفيان”! ثم نجا من الموت بسبب موت المنصور المفاجئ بمكة!!
أما الأوزاعي؛ فقد هرب من دمشق عند دخول العباسيين إليها، وعند لقائه بأميرهم عبد الله بن علي العباسي واجهه -كما سبق القول- بجرأة في قتله بني أمية وأخذ أموالهم، واضطر بعد ذلك للسكن في بيروت مرابطا حتى مات. وقد يكون هذا أيضا سببا آخر في عدم اهتمامه بنشر العلم طلبا للعزلة.
وقد أدى ظهور شخصية علمية مكينة لدى السلطة الأموية في الأندلس كيحيى بن يحيى الليثي المالكي (ت 234هـ/849م) إلى انحسار مذهب الأوزاعي هناك؛ لأن السلطة كانت تعيّن القضاة بمشورة الليثي، فأقبل الناس -تحدوهم في الغالب المصالح- على فقه الإمام مالك يأخذون به؛ كما يقول الذهبي. ثم وصل الأمر لاحقا إلى ما لخّصه القاضي عياض بقوله إن الأمير الحَكَم المستنصر (ت 366هـ/977م) كتب رسالة جاء فيها أن “كلّ مَن زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رِينَ (= طُبِع) على قلبه، وزُيِّن له سوء عمله”!!
وبهذا النفوذ المذهبي لدى السلطة؛ فسّر ابنُ عقيل الحنبلي تقدمَ المذهبيْن الحنفي والشافعي على نظيرهما الحنبلي؛ فقال -فيما نقله عنه ابن الجوزي في ‘مناقب أحمد بن حنبل‘- إن “هذا المذهب (= الحنبلي) إنما ظلمه أصحابه؛ لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحد فيهم تولى القضاء وغيرَه من الولايات، فكانت الولاية سبباً في تدريسه واشتغاله بالعلم؛ فأما أصحاب أحمد فإنه قلَّ فيهم مَن يَعْلم بطرف من العلم إلا ويُخْرِجه ذلك إلى التعبد والتزهد”!!
مؤثرات ظرفية
وهذا الميل الحكومي لصالح مذهب معين؛ هو ذاته الذي عانى منه المذهب الظاهري في الأندلس ممثلا في مشروع ابن حزم الذي توفي وحيدا ممنوعا من الخلطة بالناس بأمر من أمير إشبيلية المعتضد بن عباد (ت 461هـ/1069م)! فعلاوة على خصوماته مع الفقهاء؛ كان ابن حزم يميل إلى بني أمية ميلا شديدا فأزعج ذلك ملوك الطوائف، كما يقول الشنتريني مُبْرِزاً العامل السياسي في محنته: “وكان مما يزيد في شنآنه تشيُّعُه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم، وانحرافه عمن سواهم من قريش”.
كما أن تحولات السياسة والموازين النسبية لمراكز السلطة تفرض أثرها على المدن والعمران بها؛ فوجود عاصمة دولة ما بإقليم معين يمنحه استقرارا وقوة وازدهارا ينعكس بالترسخ على المذهب السائد فيه، كما وجدنا في المذاهب التي واكبت نشأتُها قيامَ الدولة العباسية وقوتها، كالحنفية بالعراق والمالكية بالحجاز.
وفي المقابل؛ فإن مذهب الأوزاعي -وهو أساسا مذهب أهل الشام- صادفت نشأتُه نهايةَ الدولة الأموية التي كان مركزها دمشق، فانحسر العمران والنشاط العلمي عنه مع تحوّله إلى العراق، وهو ما أدى إلى ما رصده ابن خلدون من انقطاع سنَد التعلم عن إقليم ما “باختلال عمرانه وتناقص الدّول فيه، وما يحدث عن ذلك من نقص الصّنائع وفقدانها”.
ويرى ابن خلدون أن قوة مذهب أبي حنيفة ترجع إلى أن “مذهبه أخصّ بالعراق ودار السّلام (= بغداد)، وكان تلاميذه صحابةَ الخلفاء من بني العبّاس”. وفي المقابل؛ يشرح ضعفَ مذهب مالك في العراق بقول “وبعد موت [أبي بكر] الأبهَري (إمام المالكية بالعراق ت 375هـ/986م) وكبار أصحابه لتَلاحقهم، وخروج القضاء عنهم إلى غيرهم من مذهب الشافعي وأبي حنيفة؛ ضعُف مذهب مالك بالعراق، وقَلَّ طلبُه لاتباع الناسِ أهلَ الرئاسةِ والظهور”.
وبهذه العلة ذاتها يفسّر ابن حزم انتشارَ مذهب مالك وأبي حنيفة في قُطْريْهما؛ فيقول -فيما رواه عنه تلميذه الحميدي في ‘جذوة المقتبِس‘- إنهما “مذهبان انتشرا في بدْء أمرهما بالرياسة والسلطان”، مضيفا: “والناس سِراعٌ إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به”!! ويشير الحميدي كذلك لأثر الإمام سحنون المالكي (ت 240/855م) على أهل القيروان والمغرب عند ولايته القضاء، وقد كان للمذهب الحنفي فيهما وجود حينها فحدّت ولايته للقضاء من تعاظمه.
كما واجه مذهب الأوزاعي وغيره في الأندلس منافسةً قويةً من مذهب مالك حسمتها السلطة لصالح الأخير؛ وعن نتائج ذلك يحدثنا القاضي عياض المالكي قائلا: “فالتزم الناس بها (= الأندلس) هذا المذهب، وحَمَوْهُ بالسيف عن غيره جملة، وأدخل بها قوم من الرحالين والغرباء شيئاً من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود، فلم يُمَكَّنوا من نشره فمات لموتهم على اختلاف أزمانهم، إلا من تديَّن به في نفسه ممن لا يُؤْبَهُ لقوله”!!
ويبدو أيضا أن ظروف الجغرافيا ومسارات رحلات طلب العلم قد تؤثر في المتعلمين من نقلة المذاهب؛ فقد انتشر مذهب مالك في المغرب والأندلس لأن رحلة الأندلسيين كانت تنتهي بالمدينة النبوية، وبالضرورة فهم ليسوا بحاجة للمرور بالشام حيث مذهب الأوزاعي. كما أن البلدان المتشابهة اجتماعيا تقتبس مذاهب بعضها؛ فالبداوة -بتعبير ابن خلدون- عامل مشترك بين الحجاز ومذهبه المالكي وبيئة الأندلس والمغرب، مما ساعد على انتشاره فيهما وسيادته على حساب المذهب الأوزاعي، رغم سبْق الأخير إلى الوجود بالأندلس وبين مستوطنيها من الشاميين الأوائل!!