بعنوان: حُبْسَةُ الكاتب، حقيقةٌ أم فخّ؟!
_ نرى من كُتَّابِنا الشَّباب اليومَ ثُلَّةً كبيرةً تُكابِدُ مرضًا عابرًا يُسمَّى في قاموسِهم: « حُبْسَة الكاتب» ولنفهمَها لا بدَّ من العودة إلى الجذر اللّغويّ للكلمة، وهو «حَ. بَ. سَ» وفي معجم المَعاني: حبس يحبسُ حبسًا؛ فهو حابس، والمفعول: محبوس، وهو المَنْعُ والإمساك والسَّجن، وهذا يعني أنّ المُراد باسم هذا المرض: فترةٌ تُسجن فيها روح الأديب، فيعجز قلمه عن صَوْغِ المعاني، ونفثِ الحروف.
والسّؤال المطروح: هل هذه الظّاهرة حقيقةٌ أم فخّ، وإن وُجِدت حقًّا ما مدى صِدق حضورها في الأدب والأديب؟!
بما أنّ كثيرًا من الكُتَّاب اليومَ يُعانون من هذا المرض؛ فهو حقًّا موجود، وبالعودة إلى تاريخه نجدُ أنّه امتدادٌ لعهدٍ مضى، حتّى عند كبار الشُّعراء، أولئك المشهودُ لهم بالضّلاعة، ومثالُ ذلك «الفرزدق» الّذي قال:
” يأتي عليّ حين من الدّهر لخلع ضرس أهون عليّ من قول بيت”…
وقد قالَ أحدُ الخُلفاء حينَ وَطِئ شَعْفَةَ المنبر في أوّل خطبة يقولها في المُخاطَبين: “أيّها النّاس” ثمّ تَعْتَع؛ فأعادها ثلاث مرّات، وتلعثمَ، ثمّ قال: “أيّها النّاس؛ أنتم في حاجة إلى خليفة فاعل، أحوج منكم إلى خليفة قائل… ”
فإن كانت حُبسة الكاتب موجودةً حقًّا؛ يمكن أن نعتبرَها مرضًا يُصيبُ الأديب على مستوى طَبْعِه، والطَّبعُ القريحة، والقريحة لغةً أوّلُ ما يُستَخرجُ من ماء البِئر، ومن هذا المعنى اللّغويّ نَخْلَصُ إلى أنّ القريحة عند الكاتب تُستنبطُ تلقائيًّا بشكلٍ عفويّ وسهل، فإن فَدُمَ الأديب عن ذلك؛ قلنا إنّه مصابٌ بـ: «حُبسة الكاتب»
وكما يعتلُّ البَدنُ قد تعتلُّ القرائح، وتُعالج القريحةُ كما تُعالجُ الأبدان، وقبلَ ذلك لا بُدّ أن يُشخِّصَ الطّبيبُ الدّاء ليجد الدّواء؛ ليكون على بيّنة…
إنّ إهمال المُطالعة النّافعة أوّل سبب للإصابة بهذا المرض، لأنَّ الكُتبَ وما بينَ دفّتيها كالفيتامينات عند الأمّ، تدرُّ الرّصيدَ كما يُدَرُّ الحليب، ولا يتحقّق النّفع إلّا بحسن اختيار الكتب، قد تتغذّى الأمّ بغذاءٍ لا يُسمن ولا يغني من صحّة؛ فتُنتج حليبًا غير نفّاع، وقد يُخدع الكاتب بكون الكتابة موهبةً وهبةً من الله؛ فيهمل المُطالعة والتّزوّد بجميل اللّفظ، وحُسن الأسلوب، وروعة المجاز، إذ ينسى أنَّ القلم بلا حبرٍ لا يكتب؛ ليضعفَ بذلك رصيدهُ المعجميّ، ويرتخيَ حبلُ ربطِ أفكاره، ويفقدَ براعتَه السَّرديَّة والوصفيَّة.
وقد يُهمل الكاتب كذلك الكتابة، ويهجرها هجرًا طويلًا، ليتوه كلّما حاول العودة إليها، فالمُهاجر من وطنه إن غاب غيابًا مُمتدًّا عنه؛ نسِيَ شوارعه وطرقاته، لا بُدّ أن يُمارس الكاتب شغفه بشكل شبه يوميّ، كي لا يشعُرَ بالغُربة لاحقًا، ويقعَ في فخّ الحُبسة، ويُواصل الهجر أكثر فأكثر، وقد انتابه الخَوْفُ وأصابهُ الهَوْفُ ونسيَ كيف يكونُ دفء الكتابةِ!
وقد أعْرَبَ «ألِكسَندر ماكول سميث» في إحدى المُقابلات الصّحفيّة على أنّه لطالما أُصيبَ بالحُبسة، وأنّه لطالما كرهها أيضًا، وشعرَ حِيالها بشيء من الذُّعر، وأردفَ:« إنّها من المرجّح أن تكونَ أقربَ إلى عرضٍ من أعراضِ الاكتئاب، أو فقدان ما يُثير الاهتمام، ممّا يؤدّي إلى العجز على قول شيء ما»
هذا يعني أنَّ المُصابَ بالحُبسة لا بدّ له أن يتعامل معها تعامُلَ مريض الاكتئاب مع دائه، ويسعى لابتداعِ مُغريات ومُحرّكات للإبداع، كي يستطيع بذلك تهييجَ وتأجيج موهبته وخياله، ليستطيعَ نسجَ العِبارات مجدّدًا…
كذا من أهمّ الأسباب الّتي قد تؤدّي إلى الحُبسة ارتصاصُ الأفكار المُبَعزقة غير المُرتّبة، الّتي تُصيب الكاتب بالخوف حيالها، إذ يجد أنّ رصيده كبير في حين أنّه مُستضعفٌ في ربطه عاجزٌ عن الإنتاج، وإنَّ حلَّ هذا هو أخذُ مأذونيَّة من الكتابة، والتّوجّه لخلوةٍ بالنّفس، يُسمّيها الكثير:« فترة نقاهة» يُمارس فيها الكاتبُ سلوته بعيدًا عن التَّأليف والابتداع، ويُنظّم فيها أفكاره؛ ليخرجُ إلى دوامهِ بعد ذلك وقد رَصَفهًا رصفًا كافيًا ليعتقه من أسره…
نهايةً، إنّ ما يُمكن التّوجُه به لشباب اليوم الّذينَ يتْأقُهم الطّموحُ أتْقًا، أولئك الرّاغبين في إضافةِ لمسةٍ جارفةٍ للأدبِ العربيّ قبل أن تكونَ جميلةً أنيقةً؛ فالأدبُ في حاجة لمن يسمو به قوّةً ولفظًا وقيمةً، أن انهجوا نهجَ كبارِ الأدباء، ولا تكونوا ممّن يَنسون فضلَ كِبارهم وهم صِغارُهم، لا يأتون بالجديد المحض الخالص، وإن سعيتم للتّجديد لا بُدّ أن يكون منهمُ المنطلق، وإنَّ العقل لا يبلغُ إلّا بالقراءة النَّافعة، كالجسدِ لا يستحكم إلّا بالغذاء النّافع.
كتبت: خولة رزيق.