الكاتب : فاتح عبطوش
كاتب جزائريّ صدر له: فحم فجمر ثم رماد
وكيف ستبرى الأقلام؟
يُقيّد الكاتب الكلام المنقح، ويمزج الحروف ويهذبها محولا إياها إلى صورة مرئية ونسخة منسقة تعبر عن مفاهيمه وتعابيره؛ فتنزل أسطره منازل الفن والإبداع، أو تهوي بين أعماق الإخفاق والخيبة، ويترجم الكاتب أسارير أفكاره ويركبها تركيبا شاملا، ثم يرتبها ترتيبا كاملا متقنا؛ ليحولها إلى رسم يتضمن الحروف، والمفردات، والفقرات.
الكتابة مظهر هام من مظاهر التّواصل، وشكل ذائع من أشكال التّعامل، وفنّ قديم تنوعت شواكله ومضامينه، وتطورت أساليبه وأنماطه بتصاعد أعماره، وباتّساع فسحاته على بقاع الأرض.
وكوننا نحتل رقعة من هذا العالم الشاسع، فنحن نتقاسم مع قاطنيه الحاجة لإظهار ماهيتنا، والعوز لإجلاء إبداعاتنا التي تمثلنا، وتعتبر الكتابة بأنواعها وأصنافها واحدة من هذه الحوائج الّتي تعبر عن مظهر وبيئة المجتمع، وتبرز فروقه ومميزاته عن باقي الشعوب والأمم.
وقد بُريت أقلام الكتابة في وطننا وهي تحاكي تحرك الزمن، وتنوعت أنامل أدبائِنا مع تعدد التأثيرات وتغير الأحداث، وخفقت حروف مثقفينا بجواهر الأعمال والمؤلفات، وأروع الكتب والسجلات، وتشهد مياديننا في أواخر الأعوام زحفا عارما نحو الأدب، وتدفقا مدرارًا تجاه التأليف، يقوده شبان وفتيان في ربيع دهورهم تلمس فيهم التطلع للتوهج والتجلي وتتوقع منهم السعي للاشتعال والبروز، وقد أهلت على باحات التدوين أقلام جديدة يافعة مهدت لها سبيلا في حياض الأدب، بالرغم من أنّ عالم الكتابة عالم صعب وكؤود، والخوض فيه شاق ومتعب، والكاتب الشّابّ غالبًا ما يلاقي من يستهتر قدراته، ويحتقر إمكاناته، وكثيرا ما يتم ذلك من خلال نظرة سطحية دون الاطلاع سواء على المستوى ولا على المحتوى.
وكثيرا ما يقابل الكاتب المبتدئ في مجتمعه بالتنمر والكره غير المبرّر، ربما يعتقدون أنّ مغمور الصيت الخافت النجم يُعادَل بالبهوت والضعف، ولو ترى نفس الشّخص المنبوذ يُكرّم في ملتقى ما خارج البلاد أو يبرز في إحدى القنوات ينقلب سبّابو الأمس إلى مهللي اليوم، ويتحول اللائمون إلى مصفقين، ويتبدل الكفر بهم إلى الإيمان بقدراتهم والتصديق بسعاتهم، متناسين النبال التي كانوا يدككون رؤوسها في سموم تعويذاتهم ثم يلقون بها إلى منابع الأماني ومنابت الرغبات.
ويأتي الشاب التواق للأدب الشوّاق للقلم لا يحمل سوى آماله وبعضا من نشوات كتاباته وأنفاس من خواطره ظانا بأنه سيركب مضمارا لا يُمهد سوى الصادقين المثقفين، ولا يطؤه إلا النزهاء المتعلمين ظانا أنه لن يصادفَ إلا أولئك الملقبين بزبدة المجتمع، المنبزين بمصلحي الجماعات، حتى يصادَف بانتهازي كاذب، وناشر تاجر، ومشابه لأديب لئيم، وناقد متعجرف، وناشئ متغطرس، وقارئ لا يعتز بالقراءة، فهذا يستغل الطامحين؛ فيدخر أموالا من كتابات يجمعها تحت مسمى الكتاب الجامع ثم ينسخها في ملفّ بلا تنقيح ولا تدقيق، بل قد لا يقرَأُ فحواها، ولا ينتبه إلى معناها، ثم ينشرها؛ فيتسبّب في ميلاد كتاب غير شرعيّ من أمّ تسمى الأدب، وأب مجهولة هويته، وذاك يأتيه باسم ناشر ولا يليق به سوى اسم البائع؛ فيأخذ أرباحه ولا يلتفت للباقي، وثالث مُحتقر يحط من قدر كتب الغير، وهو لم يلحظ سوى غلافها وعنوانها وربما ألوانها، ورابع يترفع عن القراءة لمن لم يُشيّد له اسمٌ برّاقٌ؛ فإن برز ولمع نجمه صار قهوته الصباحية التي يفتتح بها يومه، ومأدبة الظهيرة التي يستمد منها قوته، وخليلا لكتبه التي تؤنس وحدته، وزميل يطلب الدعم ولا يدعم فتراه يحب أن يُذكر ولا يَذكر ويُشكر ولا يَشكر وأن يَلوم ولا يُلام، وقارئ لا يهوى إلا تلك الكتب المستوردة من وراء ضاحيتنا الجغرافية، وإن ترجل من معياره وقبل بالقراءة لناشئ رقعته؛ فإنه يلح على نسخته الإلكترونية ظانا أنه سيفسد أمواله باقتنائه طبعة ورقية.
والسديد أن الموهبة لن تصلح لوحدها ومن الواجب إرفاقها بالعمل الدؤوب والتكوين السليم والممارسة المتواصلة، ومن اللازم مخالطة التجارب الجديدة والاحتكاك مع المجتمع، والاطلاع المستمر، والمطالعة غير المتقطعة، وإثراء الرصيد وتنويع المعارف… ولكن الترهيب الدائم والانتقاد اللاذع يجعل الشاب يتحجب أسفل ثيابه خوفا، ويتكمش داخل قوقعته وجلا، وكيف لكم يا من تُدعون بالمثقفين أن تشتكوا عندما تحترق أناملكم بمشعل النهايات؛ فتدعون إلى تسليمه إلى من يليكم ليتغذى على أنامل جديدة فيستمر توهجه فلا تستقبلون لكم أخلافًا ولا بدائلَ، حينها سيبدو لكم جليا نتاج الجرم وجزاء وأد أقلام فتية وهي تتشبث بسذاجة في أكناف أفكار ومفاهيم كنتم أنتم ممن زرعوها في ألبابهم بما قيدتم ثم لم تعملوا بها.
نراكم تتكلمون في الشاشات وبين مواقع الأنترنت عن احتضان الشاب الطموح وتوجيهه فهلّا وفيتم؟
وتلومونه على التسرع في النشر وتناسيتم الدور التي تغتنمهم ألا تخليتم عن نفاقكم؟
تجردونهم الثقة في إظهار ما في أجوافهم بتنمركم أما استحييتم؟
الحق في التعبير بالكلام والحق في التعبير بالقلم مرخص للجميع فبربكم ألن تتوقفوا عن التدمير؟
يكتب الشاب اليافع، وقد لا ترقى كتابته للمستوى المطلوب فقد يفتقر أحيانا للفكرة وقد تغيب عن منتوجه الحبكة أو ربما يعوز كتابه إلى كل شيء من هذا وذاك، بالرغم من ذلك فإن الكتابة ليست حكرا على أحد، فإن فتحنا الأبواب للناس جميعا ووفرنا لهم الجو المناسب سيكون الإقبال هائلا، فعلى السيئ أن يجتهد، وإلا فلن يمتد بقاؤه -ونعلم جيدا أن هذه الفئة هي الغالبة- وأما من أبرز مواهبه وأظهر حنكته وتمكنه فمن الواجب مرافقته حتى يستوي فكره وينضج أدبه، فلنا أن نتخيل تجلي عشرة أقلام شابة فخمة في كل عام، أي أنه بعد عشرة أعوام سيزخر بلدنا بمائة أديب مخضرم يحملون مأمورية رفع المشعل الذي أحرق أنامل الآنفين.