عندما كُنتُ صغيرةً أوهموني أنّ الحياة جميلة، حتّى أنّي كنتُ متحمّسةً لأكبر وأتخلّص من فترة الطّفولة، أخبروني بأنّها ستعلّمني دروسًا لا نتعلّمها في المدرسة، أقنعوني بأنّ الصّمت أحسن من الكلام، كانوا يقولون لي: إنّ الصّمت حكمة. أقنعوني بأنّ الهدوء أحسن من الضجيج ، أوهموني بأنّ الأقوياء لا يبكون، وأنّ البكاء للضّعفاء فقط. أوهموني بأنّ الصّراخ ليس من شيم الأبرياء، وأنّ صوت المرأة ذنب وعورة، أخبروني بأنّ الأزهار تنمو في فصل الرّبيع فقط، وأن الشّتاء تمطر في الأيّام التشرينية بغزارة، وأن السّقوط للأوراق فقط، ويكون في الأيّام الخريفية. أخبروني وأوهموني بأنني لا أشبه أحدًا، ولا أحد يشبهني، وأنّني مختلفة… كنت أتكلم وحدي عندما يكون الجميع صامتًا، وكنت وحدي أصرخ بأعلى صوت بداخلي عندما يكون الكلّ ساكتًا، وحدي فقط عندما كُنتُ أرغب في البكاء أتأمل السّماء؛ فعشقت هذه الأخيرة، وجعلت زرقتها لونيَ المفضّل، وحدي من كنت أعشق وأترقّب طلوع الشّمس وغروبها، حرارتها وبرودتها، زرقة السّماء ورقّتها، تقلّباتها وهدوءَها، نجومها وقمرها، سوادها وحزن ليلها، نموّ الأوراق وسقوطها، اخضرارها واصفرارها… حاربوني لأنني رسمت حزن أمّي وهي ضاحكة، لأنّني كتبت عن وجع أبي ووجعي ووجع عائلتي، حاربوني لأنني صوّرت واقعي البائس وأنا ضاحكة، أرغموني على الصّمت والتّمسّك بمبادئ بلديتي “عين السّبت ” وصون أعرافها وتقاليدها…
أجبروني على شرب قهوتي الصباحية مع العائلة، وأن لا أسكن في غرفتي بمفردي، وأن أتخلّى عن أقرب صديق لي؛ لأنهم لا يعلمون بأنه أخي وسندي الّذي لم تلده أمّي، أجبروني على أن ألبس مثلهم وأكون أنثى فارغة، هدفي فقط أن أتعلّم أشغال المنزل ثم الزّواج ورعاية الأطفال في جهل وأميّة. أجبروني على عدم الكتابة ولا القراءة، ولا تقديس نفسي ومشاعري …
عصيتهم وعصيت مبادئهم وحياتهم، قاومت فكرهم وصورت لهم معنى الحياة، صنعت من حطامهم وضعفهم وتشددهم وجهلهم قنبلة موقوتة ضد الرّجعية، جعلت أناملي تغرّد بحروفي، ورسمت لبناتهم وأولادهم أحلامًا ورديّة، كيف لا وإنّي قدوتهم؟
لكني اليوم بكيت بتفجع وبحسرة؛ لأني عرفت أن سعادتهم حزينة، وأن طفولتي وشبابي لو رويتهما لكانت روايةً بائسةً حزينة.
#عبير_بودور