إضاءات
رحلة فيلسوف..! ( الجزء الأول)
بقلم: منير مزليني
وُجهت دعوة للمفكر العربي الكبير ” محمد عابد الجابري ” من قبل النادي الثقافي لسلطنة عماني لأجل القاء محاضرة بعنوان ” تجديد الفكر العربي” ، وأراد الفيلسوف أن يأخذ بالقاعدة الرياضة القائلة أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، ولذا قرر قطع تذكرة خط (عربي/ عربي) حتى تكون المسافة أقصر وأقرب، إلا أنه وهو يستعد لركوب الطائرة أُخبر بأنه لا يستطيع ذلك، لكونه لا يملك تأشير الدولة العربية التي سوف يعبر منها إلى محطة الأخيرة عمان، وبعد مدّ وجزر، حُولت رحلته من الرباط إلى لندن ومنها إلى عمان. ففهم الفيلسوف أنه حتى نتواصل عربا فيما بيننا لابد أن نمر عبر لندن أو باريس ! كما أدرك بأن المسألة لا تتوقف عند الحدّ الجغرافي، بل إنها تمتد إلى الجانب الفكري والحضاري، فلكي نتواصل ونتعرف على حضارتنا وتراثنا لابد من المرور عبر لندن أو باريس أو غيرها من الدول الغربية المهيمنة والمتقدمة. ليكت
شف في الأخير (أن الخط المستقيم ليس هو الخط الذي يربطنا!) على حدّ قوله. ثم يضيف بالرغم من أن هذا الخط التواصلي عبر الغرب منكسر وطويل إلا أنه أسرع وأضمن ، فيما أن الخط المستقيم ( العربي / عربي ) طريقه طويلة وقديمة بوسائلها وتفكيرها.
وقد استغل هذه الحادثة العابرة في محاضرته كمتكئ أو كمثال رمزي حي ليسقطه على واقعنا الفكري العربي، فيقول :” منذ النهضة العربية الحديثة والفكر العربي يحاول أن يجمع بين الطريقين، أو أن يجد طريقا ثالثا يجمع فيه بين الطريق المعاصر (الحداثة) وهو بالنسبة لنا طريق طويل ومنكسر، وطريق الأصل أو الأصالة بالنسبة لنا هو طرق مستقيم ولكنه قديم وآثاره قد غمرته رمال عصور الانحطاط التي عشناها “. ثم يسترسل الفيلسوف في تحليل موضوع محاضرته بطريقة نقدية بناءة محاولا من خلالها مراعاة جميع التوازنات الفكرية والحض
ارية المترابطة والمتداخلة . فيعرض في البداية الطرح الفكري السلفي والذي يمثل الأصالة والتراث ويبين ما له وما عليه من اشكالات، فيقول بأن هذا التيار قد أدى ما عليه في الماضي من واجب الدفاع، بالوقوف في وجه الغزو الأجنبي والمستعمر الغاشم كالحصن المنيع والحفاظ على كيانه الحضاري بالتحصن داخل التراث، إلا أنه وجد صعوبة في جانب المستقبل، فالرجوع إلى نموذج عهد النبوة والصحابة فذلك هو (المستقبل الماضي) الذي لم يستطع تحقيقه السلف الذي لحق تلك الحقبة الزمنية إلى غاية اليوم.. لكن هذا المستقبل الماضي ورغم أنه كان حافزا محركا ومحققا لأمال في السابق، إلا أنه بعد الاكتساح الغربي والحضارة الغربية للعالم لم يعد العالم عالمنا وتغيرت قوانينه وسننه وأصبحنا أمام حضارة أخرى وواقع آخر يختلف جذريا عما كنا فيه بل ومناقضا له، وبالتالي بات المستقبل الماضي الذي نحن نفكر فيه كخط مستقيم لا يتطابق مع المستقبل الآتي، لأننا أمام حضارة أخرى تكتسحنا ثقافيا وفكريا وتكنولوجيا. وباختصار شديد فإن الفكرة المراد التعبير عنها هنا، هي أن الاشكالية التي تواجه التيار السلفي هو المستقبل الآتي، بعد أن بات النموذج الذي يتبنونه (المستقبل الماضي) يتعارض ولا يتطابق مع (المستقبل الآتي) الذي يختلف عنه اختلافا جذريا.
ثم يعرض للتيار الثاني، وهو التيار المعاصر أو الحداثي، ويرى بأنه ورغم تبنيه النموذج الغربي الكاسح والمهيمن إن أنه لا بد أن لا ننسى بأن الغرب هو في الوقت نفسه إلى جانب كونه النموذج الناجح فهو العدو المحدق والمستغل في آن واحد، وبالتالي الاشكالية التي يواجهها هؤلاء الحداثيون تكمن في التوفيق بين المعادلتين المتعارضين، بين النموذج الناجح والعدو الكاسح. فالغرب كما يقول الفيلسوف وإن تبنيت نموذجه فهو يبقى دوما مستغلا وتحكمه المصالح ( العدو المحدق) .
وبالتالي يبقى الحل الثالث والذي هو منوط بالفريق الثالث (الوسط)، وفي الوقت نفسه هو ما يواجهه المفكر العربي اليوم في واقعنا المعاصر، والمتمثل في البحث عن حل لهذه المعادلة أو الاشكالية للنهوض بفكرنا العربي المعاصر وابتكار مخرج فكري يخرجنا من هذا الواقع المتخلف إلى مصاف الحضارة والرقي.
وفي هذا الشأن، يستبعد فيلسوفنا الجابري فكرة أو السؤال الذي يطرحه البعض والمتمثل في ماذا نأخذ، وماذا نترك ؟ ويرى بأن هذا السؤال نظري، لا موضوع له. مبررا ذلك بقوله أنه لم يعد لنا مجال لأن نختار، فنحن غارقون فيما يفد إلينا، سواء على المستوى الثقافي أو المستوى الحضاري، ونحن مضطرون للتعامل مع العصر بوسائله في جميع الميادين. ويختم محاضرته على هذا النحو من النهاية الدراماتيكية المفتوحة أو ربما على هذا الحلّ المحتوم أو المفروض والذي لا مهرب منه، كما أراد أن يقول.
ويبدو أن حادثة الطائرة أثرت على مزاج وتفكير فيلسوفنا سلبا وملأته طاقة سلبية إلى درجة أن فقد الأمل في أن يكون هناك حلّ عربي لبناء حضارة متطورة تضاهي الحضارة الغربية وفقا الشروط والمعطيات العربية. أو بالأحرى أن هذه الحادثة كشفت عن قصدية الفيلسوف ووضحت رؤيته الفلسفية تجاه العقل والثقافة العربية المكونة له.
الأمر الذي يجعلنا نتسأل بالقول: هل فشل المفكر محمد عابد الجابري في إيجاد الحلّ؟ أم أنه يقترح علينا أن نأخذ بالنموذج الغربي المفروض كحتمية تاريخية أو لازمة حضارية، لا مهربا لنا منها؟!. وبالتالي يقول كما قال الفيلسوف الأمريكي / الياباني (فوكو ياما) “بنهاية التاريخ” أي أن النموذج الغربي الحالي هو النموذج الأمثل والنهائي الذي يجب أن تأخذ به جميع المجتمعات، ولا خيار لها أمام هذه الضرورة أو الحتمية التاريخية.
لكنه حتى ولو كان واقعا ما يقول، فإنه ليس حتما محتوما ولا قدرا دائما، فكل ليديه القابلية للتغيير والتطور إذا ما درس الأمر وعرفت الأسباب وعولجت وفق الشروط المطلوبة ووفرت لها الظروف والعوامل اللازمة لتحقيق الرقي والتطور دون فقد الهوية أو الخروج عن الأصل. كما يقترح الأغلبية لأن التقليد يبقى تقليد مهما أو كيفما كان المقلَد. والحكم على العقل العربي بأنه عقل بياني وعرفاني غير برهاني فهذا يحتاج إلى تمحيص وتحليل وإعادة نظر، وفي اعتقادي هي رحلة كل مفكر عربي وفيلسوف يفكر في كيفية النهوض بالأمة والعمل على تطويرها وتقدمها.
كما أن القول بأن النموذج الغربي الحالي هو النموذج الأمثل والنهائي ، فهذا كلام ينفي العقل ذاته ويقتله، وأن نظام القطبية هذا سوف يزول ويتغير كحتمية تاريخية، وهذا ما يؤكده العديد من المفكرين والمستشرفين الغربيين أنفسهم ، فنهم من يرى بأن العالم سوف يعرف تغييرا كبيرا بعد الجائحة ، وأنه سوف تظهر هناك نماذج حضارية وفكرية وثقافية أخرى تتوزع بين الثقافات الغربي والشرقية متمثلة في الصين والهند وروسيا كأساس.
الخميس: 18/02/2021