المجلات الثقافية … الأزمة والخروج
مختار عيسى
كثيرة هي المؤرقات التي تحول دون ظفر المثقف العربي بمساحة من الرضا عن مجمل حراكه على امتداد رقعة الوطن الكبير، الذي لا نزال نراهن – رغم تبديات محبطة بين الحين والآخر – على أن يظل كبيرا، محققا مراد الشعوب التي تتطلع إلى غد أكثر إشراقا وأمنا. وصار نفلا أن نشير إلى أن أرقا مقيما يشخص لكل من يتصدى لمناقشة أزمة الثقافة العربية، إذا ما ضيقنا الحدود، واختصرنا المسافات، واختزلنا هذه الثقافة فيما درجت عليه «الانتلجنسيا» العربية من حصرها على المشتغلين بالأدب والفكر بصورة عامة، وأحيانا قصرها على من يتعاطون الآداب والعلوم الإنسانية في إطار الإنتاج الإبداعي والنقدي شعرا وقصة ودراما مسرحية أو سينمائية. هذا الأرق ذو الأذرع المتعددة يكاد يذري الفعل الثقافي العربي في اللامكان، ويحول مجاهيد عدة يبذلها مخلصون إلى الهباء؛ فالقطيعة تكاد تطل برؤوسها بين منتج الثقافة ومستهلكها، حتى
أوشكت أعداد المتلقين أن تقارب اللاوجود، فأعظم ندوة، أو لقاء يقال إنه جماهيري – رغم استثناءات قليلة – لا يتجاوز عدد الحاضرين فيه أصابع اليدين في أكثر تقدير، ومن ثم فإن رسالة يحاول المثقفون إيصالها لا تصل، وتأثيرا يرجونه لا يتحقق، وصار عصيا على أصحاب الأقلام المخلصة، والضمائر اليقظة، أن يصلوا إلى مراداتهم مما يسطرون، ويحققوا مآربهم في النهوض بأوطانهم إلى حيث تطال أحلامهم أمداءها. ولأن الأزمة متع
ددة الأسباب، مختلفة المبررات، فإن مخارج محتملة
تتطلب الوقوف عند كل سبب منها، بغية الوصول إلى طريق آمنة تتيح للسالك عبورا سهلا إلى الضفة الأخرى من النهر، حيث الحضور الأجلى لعلاقة مرتجاة بين طرفيها: المبدع والمتلقي.
من البدهي أن وسائط عدة فيما يعول عليها في تحقيق اتصال ناجح بين المبدع والمتلقي، تلعب من جهة أخرى – ربما لعوامل ذاتية تكمن في عناصر الوسيط نفسه، وربما لعوامل ضغط خارجية تتحكم في حركته، دورا سلبيا في تحقيق الانفصال بين طرفي العلاقة، ومن هذه الوسائط الصحيفة والمجلة الثقافية.
والراصد لحركة الثقافة العربية منذ القرن الماضي يذكر – دون كثير عناء – عددا من المجلات الثقافية ذات التأثير محدودا كان أم كبيرا في هذه الحركة، ومنها على سبيل التمثيل أبوللو، الرسالة، الهلال، الكاتب المصري، الكاتب، المجلة، إبداع، الدوحة، الآداب البيروتية، القاهرة، أدب ونقد، الشعر، حوار، مواقف، الكرمل، العربي، الكويت، نزوى، البيان، البحرين الثقافية، الرافد، دبي الثقافية، كلمات، المدى الأقلام، الطليعة.. وغيرها الكثير.
وبصرف النظر عن الدوافع وراء إصدار هذه المجلات، وبعضها صادر عن مؤسسات رسمية، والآخر يتبناه أفراد، أو أحزاب، فإن مراجعة عامة لهذه المجلات تفتح أبوابا عدة للولوج إلى المشهد الثقافي العربي الذي شهد قفزات نوعية عبر بعضها، كما شهد تراجعات على مستويي الرؤية والأداة في بعضها الآخر، ويمكن الإشارة إلى أن بعضا من هذه المجلات فيما لعب دورا مهما في تقديم المشهد الثقافي العربي إلى العرب، عجز عجزا جليا عن إيصال جوانب – ولو محدودة – من هذا المشهد إلى الآخر، الذي لا يزال الأدب العربي – باستثناءات محدودة – مجهولا لديه، الأمر الذي يجعلنا في حاجة إلى التأكيد على ضرورة انفتاح هذه المجلات، أو بعضها، على الآخر، ليس بمنطق الإحساس الدوني الذي ينشر مترجمات لهذا الآخر – مهما تباينت مستوياتها- محتفيا بها، جاعلا مفرداتها أيقونات يكفي أن تعلقها المجلة على صفحاتها وأغلفتها لتحجز لها مكانا في المشهد المعاصر. بعض المجلات العربية دكاكين خاصة لأصحابها، أو للمشرفين عليها لا يتورعون عن حكرها على فئة محدودة، يعيدون تدوير نفاياتها الثقافية، ويكررون ما تنتجه اعتمادا على أسمائهم المنجمنة بفعل عوامل لا ثقافية، وبعضها يكاد يصبح أداة في يد المهيمنين عليها لقمع، وإقصاء من عداهم ممن يتبنون ثقافة مخالفة، وقد يرى راءٍ أن ذلك حقا لهم، فمن البدهي – حسب تصور هذا الرائي، أن يدافع كل ذي موقف عن موقفه، لكن أول أحرف الأبجدية الثقافية فيما أتبنى تكون بإتاحة الفرص المتكافئة – إلى حد ما – لأصحاب الرؤى المتباينة، إذا ما أردنا أن نحقق قدرا مناسبا من الموضوعية أراه لازما حتميا لتأكيد إنسانية الإنسان وهي غاية كل إبداع، ومرتجى كل فعل ثقافي حق، تنغلق كل مجلة على ذاتها وعلى كتابها، الذين قد لا يجدون جديدا دائما يقدمونه إلى متابعيهم، فيلجأون إلى إعادة الإنتاج، والتدوير، فنرانا ندور في الحلقة ذاتها دون محاولة اختراق واحدة، أو سعي للمروق من أسر الرؤى المتحوصلة، والتشرنق الإبداعي، الذي لا يستجيب – حتما ـ للمتغير الثقافي العام، فلا نزال ندور في فلك الموضوعات ذاتها، والكتاب أنفسهم، والمحاور عينها وتكاد تستنسخ الندوات والمؤتمرات، والتوصيات فلا يكاد يظفر القارئ بجديد، اللهم خارج أطر هذه الدكاكين التي أصبحت في حاجة ملحة لإعادة ترتيب أرففها، وتجديد بضائعها، خصوصا بعدما أصبح للوسائط المتعددة في عالم التقنيات الإلكترونية ووسائل الإنتاج الرقمي والشاشات العملاقة حضورها شبه الدائم الأمر الذي يستوجب على القائمين على أمر هذه المجلات إعادة التوجيه، والإفادة من المنجز التكنولوجي الذي يتيح تغييرا نوعيا في أشكال الطباعة وتقنيات الصورة، والإخراج الفني، بما يشكل عوامل جذب – وإن كانت تخضع لمنطق تجاري محض – لقارئ يجب العمل على استدخاله ساحة التلقي التي تشكو – منذ زمن ليس بالهين – قلة، إن لم تكن ندرة تكاد تنطق بالعجز التام عن تحقيق التواصل بين المبدع ومتلقيه. يمكن الحديث إذن عن تواطؤات نخبوية تكاد تحول الفعل الثقافي إلى «مونودرامات» ومونولوجات ذاتية، فلا يسمع هؤلاء إلا أنفسهم، ولا يقرؤون إلا لذواتهم، بل إنهم أحيانا لا يقرأ كل منهم للآخر في المجلة ذاتها، ويكتفي كل منهم بمطالعة موضوعه واسمه مطبوعا، وصورته المتعالية، ويظن أنه قد أدى ما عليه، وأن على الآخرين السعي للوصول إليه، هنا تتكلس الرؤى، وتتجير التوجهات، وتتحجر التحاليل، فلا نتقدم خطوة واحدة للأمام، رغم مطبوعات تتوالى، وإصدارات تتابع، ومؤتمرات تعقد، وندوات تقام. ولأن ثمة ارتيابا دائما يعاني منه الساسة إزاء كل فعل ثقافي تأكيدا للمقولة الغوبلزية المعلومة «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» فإن هؤلاء الساسة لا يتورعون عن أفعال إن لم تكن في صورة العداء المباشر للمثقفين ومجلاتهم وأنشطتهم عامة، فإنها تتخذ أساليب استخباراتية داخل هذه المجلات من وضع الرقباء الذين يكونون غالبا – أبعد عن موضوع ما يراقبون، أو معوقات إدارية تحول دون انتظام بعض هذه المطبوعات ووصولها إلى قارئها في مواعيد محددة، أو تشابكات مصلحية مع إدارات هذه المجلات في صور إقصائية لمن لا ترضى عنهم السلطات، أو ترتاب – كالعادة- في توجهاتهم، أو في إعلاءات وتستطيعات نجمناتية لأرباع وأخماس الكتاب ممن يترجمون آراء الساسة في صور يظنونها إبداعية، وهكذا، ووفق تبادل المنفعة بين المجلة وجماعة ا لمنتفعين، الذين يدورون في فلكها، وتعتمدهم لتسويد صفحاتها كل عدد، فإن التواطؤ النخبوي – البعيد غالبا عن التوافق الأدبي أوالتقارب الإبداعي، كما كان الحال مثلا في مجلة «أبوللو» وجماعتها الشعرية ونهجها في القصيدة المعاصرة، أقول إن التواطؤ هذا يشكل مع الارتياب السلطوي بأساليب وألاعيب أبرز عوامل التكلسات التي تعانيها كثير من المجلات الثقافية العربية والتي تأتي في أغلبها على صورة «الكشكول» الذي يجمع فريق الكتاب وكتاباتهم المستنسخة كل عدد، دون دفع في اتجاه التجديد، أو مروق من حظيرة المألوفية، ومن ثم فإن الانصراف حادث، والانقطاع متحقق، والبوار قائم، والصورة ترضي أصحابها فقط، والمرايا تكذب على وجوه الناظرين.
أتصور أن مجلة ما لو أنها مدت جناحيها على أقصيهما واحتضنت التيارات الجديدة وشباب المبدعين العرب بتوجهاتهم وكتاباتهم المغايرة بحق، وحاولت في كل عدد أن تتخلص من سياسة ملء الفراغات وتعبئة الصناديق المعدة سلفا والمجهزة على أقيسة خاصة بمجموعة كتاب لا يتبدلون، أتصور أن مجلة ما لو أنها صممت على أن يكون بعض كتاب عدد من أعدادها يختلفون عن كتاب أي عدد آخر، أو أنها ولو مرة في العام تخلصت من نفاياتها الثقافية والفكرية، وأفسحت المجال للجديد من الكتاب والكتابات دون ازدراء أو استعلاء أو إيهام للقارئ بصورة أو بأخرى بأن هذا العدد المحلوم به أقل قيمة، أو أخفض رأسا من أعدادها الأخرى… أتصور أنه لو حدث ذلك لكسبنا مساحات شاسعة من الانتشار، وقدمنا للمتلقين فرصا أفضل للتعامل مع مجلتهم بعيدا عن التكلسات، والتخاشيب، وتكارير الموضوعات، واستنساخات الكتاب، وبالتالي فإن وقوفا على جوهر الحراك الثقافي الحق لا بد أن يستبين، وانحيازا لمستقبل أفضل لعلاقة المبدع – المتلقي لا بد أن تشخص ملامحه في مرآة لا تعتاد الكذب على الذات، ولا تتمترس وراء آلية مقيتة تكاد تحول الفعل الثقافي إلى ما يشبه ماكينات إنتاج قطع الصابون.