صراعات الإنسان المستقبلية ستكون لغوية
د/ ليلى غضبان– جامعة الجلفة-
يتناول المقال تطور الإنسان في أول سمة له، وهي كونه حيوانا ناطقا، وهي الصفة الرئيسة التي تميّزه عن بقية الأجناس والأنواع في الكرة الأرضية. فعملية تغير الحياة الاجتماعية- ومنها اللغوية- تسير بشكل دائري تنتهي حيث بـدأت، وهذه الحركة منتظمة تشبه نمو الكائن الحي؛ أي أن عملية التغير تتجه صعوداً وهبوطاً، بحيث تبدأ من نقطة معينة في دورة تقود المجتمع إلى نقطة مشابهة للتي بدأ منها، ويمكن تناول ثلاث نظريات:
* النظرية الدائرية العامة لابن خلدون: يرى أن الثقافة لأي مجتمع تمر في دائرة تبدأ بالميلاد، وتسير نحو النضج والكمال، ثم تتجه نحو الشيخوخة لتعود مرة أخرى إلى التقدم والرقي.وقد حاول ابن خلدون أن يتتبع المجتمع بالدراسة والتحليل من نشأته حتى فساده. ويرى أن التاريخ البشري يسير وفق خطة معينة، فحوادثه مرتبطة ببعضها البعض، وأن المجتمع البشري شأنه شأن الفرد الذي يمر بمراحل منذ ولادته وحتى وفاته وكذلك يحدث للدول.وأن مسيرة المجتمع تغيرية دائرية تبدأ وتنتهي في النقطة التي كانت قد بدأت منها، وأن هذه الظاهرة خارجة عن إرادة الإنسانوقد توصل من خلال دراسته للمجتمع إلى (قانون الأطوار الثلاثة) وهي: 1- طور النشأة والتكوين ، وفيه يتولى المؤسسون مقاليد الأمور-. 2طور النضج والاكتمال، وفيه يتولى المقلدون مقاليد الأمور 3- طور الهرم والشيخوخةوفيه يتولى الهادمون مقاليد الأمور.
* النظرية الدائرية الجزئية لشبنجلر:تعتني بدراسة ظاهرة اجتماعية جزئية معينة في المجتمع لإثبات أنها تسير في اتجاه دائري ومنتهية إلى النقطة التي بدأت منها؛ كبداية ملكية الأرض الزراعية للقبيلة ثم إلى ملكية الدولة للأراضي الزراعية ومشاريع الإنتاج،وقد اهتم العالم الألماني “شبنجلر” ممثل هذا الاتجاه بتكوين الثقافة وأنواعها وتطورها؛ ونظريته في التغير الدوري الجزئي مبنية على أن الثقافة خاصية للمجتمعات؛ أي أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تميزه، وبالتالي فإن عملية التغير لا تكون واحدة في المجتمعات؛ وإنما لكل مجتمع نمطه الخاص في التغير وفق ثقافته. ويشبه تطور الثقافة بمراحل العمر، وأحياناً بفصول السنةوقسم شبنجلر الثقافات واهتم بتحديد أعمارها فيقسمها إلى ثماني ثقافات أساسية هي: 1- المصرية. 2- بلاد الرافدين. 3- الهندية. 4- الصينية. 5- الكلاسيكية (الأبولنية). 6-العربية. 7- ثقافات المايا8- الثقافات الغربية،وأن لكل حضارة كبرى خصائصها ومميزاتها إلا أنها تتفق في تاريخ التطور العام وهي تتجه نحو الفناء،ومن هنا نستطيع أن ندرك سر عنوان كتابه (تدهور الغرب) وما أثاره هذا الكتاب من عواطف وانفعالات لدى الشعوب الغربية .
* النظرية الدائرية اللولبية لفيكو:يرى ممثلها وهو العالم الإيطالي “فيكو” أن التقدم الاجتماعي يسير في شكل دائري، معاد في إطار لولبي أو حلزوني (الارتداد المغاير ) ؛بحيث كل دورة تعلو الدورة السابقة وتكون أنضج منها ثقافياً. وهكذا فهو يرى أن التقدم ليس خطياً صاعداً وإنما يتكرر باستمرار في دورات ثلاث، ليست في مستوى واحد،وهكذا فهو يرى بأن هناك ارتفاع تدريجي للثقافة الإنسانية. أي أن الجماعات الإنسانية ترتد إلى حالتها الأولى (النكوص) ولكن بصورة مغايرة وأفضل نسبياً مع بداية الدورة من جديد،واهتم ” فيكو ” بدراسة فقه اللغة لما للغة من أهمية في الكشف عن تطور النظم والمؤسسات الاجتماعية.
أحد الأسماء المهمة في عالم اللغويات هو نعوم تشومسكي، الملقب بأب علم اللسانيات الحديث، وهو أيضًا فيلسوف وعالم إدراكي وعالم بالمنطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسيوهو يؤيد نظرية الانقطاع ويعتقد أن تحورًا جينيًا عرضيًا حدث مرة في الفترة الممتدة بين 50 ألف إلى 100 ألف عام مع ظهور الرسومات على الصخور وجدران الكهوف أدى إلى ظهور القدرة اللغوية التي تحوّلت لاحقًا إلى موروث جيني بشري، وهو ما يعني أن الملكة اللغوية موجودة بالفطرة لدى الإنسان الحالي، وأن هناك جهازًا غير منظور يشغل اللغة في الدماغويعتقد تشومسكي أيضًا بأن هناك لغة عالمية واحدة مشتركة، وأن كل اللغات تتشابه، لأن قواعدها واحدة في النهاية، ولكن فيها لهجات متنوعة ومختلفة، لكونها لغة بيولوجية في الأساس. وكان أحد الأمثلة التي أعطاها لتسهيل فهم نظريته قوله إن كائنًا فضائيًا لو زار الأرض لوجد سكان الكوكب يتحدثون لغة واحدة، ولكن بلهجات مختلفة، وهي التي يسميها اللغة العالمية، ومن هنا تنبثق فرضية أن اللغة في بدايتها ، كانت لغة إنسانيه–كونية- واحدة ثم تنامت، لكنها ستعود لغة كونية واحدة، وهذا يعني دخول اللغات في صراع مستقبلي للبقاء.
علم اللغة الكوني علم جديد يدرس جميع اللغات في آن واحد بمقارنة النظام النحوي، و العلاقة الجينية بينها و بين اللغات الأخرى.تماعتماد علم اللغة الكوني في مؤتمر في نوفمبر ( لندن 2003 )، و ظهر هذا العلم بعد ظاهرة كوليرا اللغات ” موت اللغات “؛ حيث يوجد الآن تقريبا 600 لغة من أصل 1000 لغة فقط مع توقف إنجاب اللغات.كيف يكون اعوجاج و موت اللغات؟ هل تعلم أن اللغات لها دورة حياة كما للبشر و النبات و الحيوان، فهي تولد و تمر بمراحل النمو المختلفة، و لها مرحلة صبا و مرحلة شباب، و مرحلة شيخوخة و اعوجاج، و من ثم الموت. و لكن هل سألت نفسك يوما كيف للغة أن تموت؟كل لغة قبل موتها تدخل مرحلة اعوجاج فعلى سبيل المثال اللغة الإنجليزية لغة عظيمة لكن كلماتها فيها بعض الخلل مما يصيبها بالاعوجاج، و كل لغة تحتوي على صوت ” أوه” و هو ما يسمى بالصوت الناسف هي لغة معوجة.مثال: كلمة talkبالإنجليزية تحتوي على صوت “أوه ” “O” و هذا الصوت قد نسف حرف الــ L في الكلمة . و كذلك الحال في كلمة cord فحرف الــ O نسف حرف الــ r في الكلمة.و هذا يدل على أن اللغة الإنجليزية مع مرور الوقت ستنتهي و تتلاشى، أي أنها لن تصبح لغة تحدث و سيكتفى بجعلها لغة خاصة للبرمجة و تكنولوجيا المعلومات.و لو نظرنا إلى حال اللغة الصينية فنجد أنها لغة معوقة لأنها فقدت ضمائرها و أزمنتها، فلو أردنا أن نتحدث بصيغة الماضي و جب علينا أن نستخدم ظرف الزمان “أمس” و لو أردنا أن نتحدث بصيغة الحاضر استخدمنا “الآن”، و الظرف “غدا ” للمستقبلمثال: أنا أشرب العصير أمس ، للتحدث بصيغة الماضي.و أيضا إذا وجد في أي لغة حرفي القاف و الجيم متجاوران ، فهذا يدل على أن اللغة ستموت. إن أول من أشار إلى هذا الكشف العلمي الفريد هو عالم اللسانيات “ديفيد كريستال” في كتابه الماتع “موت اللغة” الذى يلقي بظلال الضوءعلى ظاهرة “اندثار اللغات وموتها” ناعتا القضية ب”كوليرا اللغات”، و طالب الباحثين والمهتمين بضرورة البحث عن “اللغة الأم” التي انبثقت منها كافة لغات الأرض قاطبة، فضلا عن إسهامات اللغوي الفذ “جرينبرج” في كتابه الرائع “اللسانيات الوراثية”. فالدليل العلمي الدامغ هو المحك الفيصل في مثل هذه المعتركات اللغوية الضارية حامية الوطيس.
كان علماء اللغة يعتقدون أنّ المكان المخصّص لتفاعل اللغة داخل الدّماغ هو الجزء الأيسر من الدماغ، وبقي هذا الاعتقاد سائدًا من الناحية النظرية إلى أن تم اختراع جهاز التصوير الطبي بالرنين المغناطيسي الماسح للدماغ، لتوضيح التغييرات الباثولوجية في الأنسجة الحية الذي يستخدمه أطباء الأعصاب، واستطاع من خلاله علماء اللغة وبعد تكبير حجم الدماغ إلى 35 مليون مرة، رصد حركة اللغة في الدماغ لأول مرة في التاريخ ورؤية تفاعل الكلمة بداخله قبل خروجها على اللسان ومن الفم، فثبّتوا حقيقة اعتقادهم بحركتها في الجزء الأيسر من الدماغ، ورصدوا كيف تخرج نبضة من قعر الدماغ وهو المكان الذي يُخزّن مفهوم الكلمات، وتنطلق هذه النبضة لتصل إلى منطقة ما خلف الأذن اليسرى من الدّماغ، وهو المكان الذي تخزّن فيه الكلمات، لتلتقي بنبضة أخرى تتحد معها وتسيران سويّا لتخرجا الكلمة من اللسان والفم. ومثالا على ذلك نقول، لو أخذنا كلمة كتاب، الكتاب ككلمة مخزنة في جزء الدماغ الأيسر خلف الأذن، ولكن معرفتك بهذا الكتاب، ما نوعه، من هو كاتبه، المواضيع التي يطرحها إن قرأته، وكل معلومة وصلتك من قبل عن هذا الكتاب تخزّن في قعر الدماغ في جزئه الأيسر. وهذا المثال هنا ينطبق على كلمة كتاب في كل اللغات إلاّ اللغة العربية. وأطلق الدكتور سعيد الشربيني كتوصيف للنبضة الخارجة أولا من قعر الدماغ اسم السّائق، بينما النبضة التي تخرج من الجزء الأيسر للدماغ خلف الأذن اسم السيّارة، وشبّه التقاءَهما بركوب السائق لسيارته وانطلاقه للخروج عن طريق اللسان والفم. وأضاف إننا أصبحنا نرى هذا بالعين مضيفا أن عملية تكبير الدماغ إلى هذا الحجم تُريك رحلة النبضة السائق كأنها رحلة لطائرة بالفضاء تحتاج لوقت كي تصل إلى النبضة السيارة. وهذا الرصد الدقيق ساعد علماء اللغة على كيفية تلقين الدارس للّغة كل الإشارات الصوتية لأي لغة كانت وإدخالها بشكل صحيح إلى مكانها في الجزء المخصص لها من الدماغ بحيث يستطيع الدارس تعلم أي لغة بنطق حروفها بشكل صحيح تماما، فتصبح أحمد هي أحمد وليس أهمد أو أخمد لصعوبة لفظ حرف الحاء عند غير العرب، أو لصعوبة نطق حروف أخرى في لغات أخرى لغير المتكلمين بها.
فاذا كان ألبرت أينشتاين قال: (لا أعلم بأي سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكن سلاح الرابعة سيكون العصي و الحجارة)؛هذا يعني أن الإنسان سيقتنع بعدم جدوى الأسلحة (الكيميائية/ البيولوجية/ الفيزيائية/ الاقتصادية…) المدمرة للجنس البشري، وسيعتمد أبسطها وأخفها ضررا، ليحافظ على بقائه. ومنه فإن أهمإبداعاتالإنسان المستقبلية هي اللغة الكونية الواحدة التي ستوحد البشر، وسوف تكون صراعاته المستقبلية في جوهرها صراعات لغوية.