إضاءات إعلامنا الثقافي.. !؟ بقلم: منير مزليني
لا أحد يشك في أن عصرنا الحالي هو عصر إعلام بامتياز، لما عرفه هذا الأخير من تطور هام وخطير واتساع شامل ومحيط، استطاع بموجبه بسط نفوذه في كافة أرجاء العالم، وبالتالي بات من يمتلك ويحرك هذه الشبكة التواصلية الاعلامية يتحكم في توجيه الرأي العام وفي صناعة القرار، وذلك من خلال بث جملة من الأفكار الموجه أو شن حرب نفسية ضاغطة. ومن بين هذه الأنواع الاعلامية الفاعلة والضاغطة، يأت الاعلام الثقافي على رأس القائمة و الذي ساهم ويساهم بفاعلية كبيرة في نشر مفهوم (العولمة)، وترسيخ مبادئها وأفكارها، في صورة ثقافة عالمية مهيمنة تعمل على بث وزرع القيم والأفكار الغربية الموجه وغير المشتركة، وفرضها على شعوب العالم المستضعفة و على بقية الثقافات و الحضارات الأخرى المختلفة و المخالفة، تحت شعار رفعه الرئيس الأمريكي الأسبق (جورج بوش الابن) قبيل أحداث 11 سبتمبر 2011 : “من ليس معنا فهو ضدنا”. أين وجدت جميع شعوب العالم المستضعفة نفسها ترزح تحت نير قوة استعمارية حديثة ترفع شعار النظام العالمي الجديد أو العولمة. ومن يقف خارج هذا السياج أكيد سوف تلدغه الأفاعي وتنهشه الكلاب تحت غطاء إعلامي موجه ينعته بالخارج عن الحق والدكتاتور المارق وغيرها. وما حدث للرئيس العراقي “صدام حسين” ، و الزعيم الليبي “معمر القذافي” أكبر شاهد على القرن في هذا الشأن . فما حال إعلامنا الثقافي يا ترى في ظل هذه العولمة والهيمنة الثقافية ؟ وهل هو مدرك لدوره وأهميته ؟ وفي أي كفة هو متأرجح ؟ أرسلت في الأيام القليلة السابقة إلى الصحافة مقالا بعنوان “الأمن الثقافي” أتحدث فيه عن أهمية الاعلام وكيف باستطاعته أن يكون حصنا دفاعيا منيعا أمام الثقافة المهيمنة التي تريد محو الثقافات المحلية وبسط نفوذها وفرض قيمها الأخلاقية والاجتماعية على بقية شعوب العالم . إلا أنه وللأسف الشديد لم يحظى بالقبول أو ربما بالاطلاع ، واحسن ردّ تلقيته، هو أن أختصر في عدد كلماته لظروف النشر. وكأنهم يدفعون لمن ينشر لديهم، كما تفعل الجرائد والمجلات المحترفة ! رغم أني لا أعد نفسي غريبا على النشر في الصحف والمنابر الثقافية على الأقل في فترة التسعينيات والعشرية التي تليها وإن كففت عن ذلك في العشرية الأخيرة. ورغم ذلك أنا لست هنا لأتحدث عن شخصي، وإنما لأقدم مثالا خبرته بنفسي، علّه يفتح كوة ولو صغيرة في جدار الصمت الخرب المحيط بحياتنا الاعلامية والثقافية منها بالخصوص. وقبل الخوض في هذا المسار أريد أن أشير إلى أن مسألة التعميم هنا غير واردة ولا يهمنا الأشخاص بذواتهم كما يهموننا بصفاتهم، وإذ نحن نتحدث على الاعلام فإننا نخاطب بذلك الشخص المعنوي فيهم لا الشخص الطبيعي، وأكيد أن أهل الاختصاص يفهمون هذا الكلام. وإن أردنا أن نتحدث عن اعلامنا ـ اعلامنا الثقافي بالخصوص ـ وأن نشرّح وضعه ونوفي الموضوع حقه فلا بد من تخصيص كتاب بأجزاء عديدة، تبدأ من كلمة الصحافة نفسها، هل هي بكسر الصاد أم بفتحها ؟ لتنتهي عند ،هل مازالت على قيد الحياة أم وافتنا المنية ؟! . ولذلك فسنكتفي بجملة من النقاط والاشارات السريعة التي أراها تمس جوهر الموضوع ولها التأثير المباشر في هذا الأمر. أولا: موقع ومكانة الاعلام والصحافة في نظامنا الرسمي ؟ وما موقعها من نظرية السلطة الرابعة ؟ لا يختلف اثنان في الإجابة على هذه الأسئلة، ولن يجد فيها أحد الحرج من القول ـ وعلى رأسهم أصحاب القطاع أنفسهم ـ بأن الاعلام عندنا ريعي يرزح تحت قبضة السلطة الحاكمة والتي تعمل جاهدة على أن يكون على رأس هذه المؤسسات الاعلامية إما عاملين لديها أو عملاء لها بشكل أو بآخر، نادرا ما تجدهم يكتبون أو أن لهم أعمدة خاصة، في أغلبهم تجار واشهاريون، وهذا ديدن كل الأنظمة في جميع الدول المتخلفة. ولو أنها بدأت تعرف انفراجا طفيفا في الأيام الأخيرة على المستوى التشريعي تحاول من خلاله أن تضفي شيئا من الحرية للصحافة. إلا أنني أرى بأن الصحافة هي قبل كل شيء ثقافة ونشاط فكري تتربى عليه الأجيال وتتعلمه حتى يجري في فكرها مجرى الدم من عروقها. ثانيا : إن كان هذا هو حال الاعلام عموما، فما هو حال القسم أو الشق الثقافي فيه؟ أكيد أن حال القسم الثقافي في الصحافة أو الاعلام من حال وضع وصورة الثقافة نفسها في المجتمع ، ولا يخفى على أحد مدلول الثقافة لدينا، فهي إن لم تكن للتسلية والترفيه فهي للتطبيع والتطبيل. أو أنها تطرح على الطاولات الرسمية كمقبلات لا أهمية لها أمام الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التعليمي أو الرياضي وغيرها، فيما أن الثقافة لدى الدول المتقدمة الكبرى والمهيمنة هي كل ذلك. وما الفارق بين زعمائنا وزعمائهم إلا في الثقافة التي يحملها أو يمثلها هذا وذاك. وجميعنا لاحظ أن القسم الثقافي في كل جرائدنا و اعلامنا عموما من سقط المتاع ، هو آخر ما يهتم به وأول ما يفكر في إزاحته أو التضحية به متى ضاقت الدنيا بهم أو تطلبت الحاجة ذاك. وأن أضعف الموظفين أو أقلهم حظا يوظفون بالقسم الثقافي ـ مع احترامي للأشخاص ـ ، ولذا لا تستغرب إذا لم يعرف القسم استقرارا أو كانت به رداءة أو شابك منه أي نقصان. ثالثا : الجهل به وعدم الوعي بأهميته .. التباهي بالألقاب وجهل الأسباب ! بعض الوظائف والمهن لدينا باتت ألقابا للتباهي لا رسالة أو خدمة يقدمها المرء لمجتمعه ومواطنيه، فبات كل الآباء يردون أن يصبح أبناءهم أطباء للتباهي الاجتماعي أكثر من حبهم للمهنة وأداء رسالتها النبيلة والخطيرة . وعلّ لقب “صحفي” بات من بين هذه الألقاب الوهمية التي يتباها بها أغلب المنتسبين لهذه المهنة النبيلة ، فانعكست هذه الفكرة في ما يقدمونه أو يشرفون عليه من مادة اعلامية ، فنجدهم في الحصص الثقافية مثلا يعرضون أنفسهم أكثر من الضيف أو المادة المعروضة ، فيتكلم المقدم أكثر من الضيف، ويقاطعه في الكلام، وينسى بأنه منشط أو مقدم فيتحول إلى مبارز أو معارض، أما في الصحافة المكتوبة فتجده لا يتقيد بالرسالة الاعلامية أو الثقافية القائمة على حرية الرأي وتعدد الأفكار، فتجده يقومها وينشطها بحسب ثقافته وميوله ومعارفه أو حاجياته ضاربا عرض الحائط بالرسالة والمبادئ والقيم التي تعلمها في المعاهد وتشهد عليها شهادته الصماء، فيمارس على المثقف أو المتلقي دكتاتورية إعلامية جاهلة لا تقل عن تسلط السياسي في السلطة أو المنصب. فيحدّ الصفحة أو المنبرة في حدود قدرته الفكرية، ويلونها بلون ذائقته المعرفية، ويشملها في حدود معارفه ومحيطه. و(مزية) يقدمها لك الاعلامي متى غطّ لك نشاطا أو أجرى معك حوارا. الأمر الذي يولد بالضرورة هذه الرداءة ويبعد الاعلام عن رسالته النبيلة ومهمة الخطيرة. في الحقيقة الأسباب والظواهر لا تنتهي، ولكني ألخصها في الجهل بأهمية المهنة وفي غياب ثقافة إعلامية تبرز هذه الأهمية وترسخها، وكما يقال “المثل الناس أعداء لما جهلوا” .. أو” يفعل الجهل بصاحبه ما لا يفعله العدو بعدوه”. مع تحفظاتي الكبيرة واحترامي الشديد للمخلصين و النزهاء من الاعلاميين المحترفين وأعمالهم تقدمهم دون ذكر اسمائهم. وبالعودة إلى ما قلناه في بداية هذا المقال عن أهمية الاعلام ، ودوره في حماية وتوعية المجتمع وتنويره بالأفكار الرصينة وتهذيب ذوقه بالفنون الجميلة الراقية. وما آل إليه حال إعلامنا ،وإعلامنا الثقافي بالخصوص، لأمر من الخطورة بمكان يجب تداركه والعمل على اصلاحه بجعله ثقافة اجتماعية وسلوكا حضاريا قبل أن تكون مهنة للتكسب والعيش أو لقبا للتباهي والطيش.