انتقل اليوم الكاتب الروائي والمترجم مرزاق بقطاش إلى الرفيق الأعلى بعد ما قدم للساحة الثقافية الجزائرية والعربية منتوجا ضخما في مجالات مختلفة وزاخرة من الأبداع
وُلد مرزاق بقطاش في الجزائر العاصمة عام 1945. وبدأ مشواره الصحفي عام 1962، ولا يزال يكتب في عدد من الصّحف والجرائد العربية والفرنسية، منها: الوطن والشعب والمجاهد وغيرها. عمل أيضًا في وكالة الأنباء الجزائرية، كان عضوًا في المجلس الأعلى للإعلام، وعضوًا في المجلس الأعلى للّغة العربية، وعضوًا في المجلس الأعلى للتّربية، وممثلاً للصّحافة المكتوبة وعضوًا في المجلس الاستشاري الوطني الذّي أسّسه الرّئيس السابق محمد بوضياف عام 1992، وتخلى عن عضويته لهذا المجلس بعد تعرضه للاغتيال سنة 1993 حيث كان على قائمة الموت بين أسماء عديدة من المثقفين والمفكّرين والفنانين والعقلاء وغيرهم الذّين تمّ اغتيالهم من أمثال طاهر جاووت، وعز الدّين مجوبي والشاب حسني وغيرهم.
تعرضه لمحاولة اغتيال
في عام 1993، تعرض بقطاش لمحاولة اغتيال، وأصيب برصاصة في رأسه، ونجا منها بأعجوبة. في 7 يونيو 1994، اسم آخر يسقط من على لائحة الموت، حيث فقد زميله، وصديقه شركيت فرحات، الذّي كان رئيس تحرير في جريدة المجاهد آنذاك، ماذا يحتفظ اليوم من تلك الفترة الدّموية السّوداء التّي عاشتها الجزائر، وعاشها بامتياز.
بقطاش واللغة العربية
يعتبر مرزاق بقطاش مدافع قويّ للّغة العربية، ويحبّ استعمال الكنايات والاستعارات والمجازات، ويحلو له اللّعب مع الكلمة الجميلة ومسايرتها كلعبه بنوطات البيانو، في هذا المقام، تذكرت مقولة لجول رونارد يقول فيها: “كلمة جميلة أحسن بكثير من كتاب ضعيف”، وعن علاقته وارتباطه بالكلمة، يقول:
أعماله
في المجال الرّوائي، كتب بقطاش الكثير من الرّوايات والقصص سواء باللّغة العربية أو الفرنسية، ومن بين مؤلفاته[2]:
- طيور الظهيرة
- رقصة في الهواء الطلق
- جراد البحر
- عزوز دحمان
- بقايا قرصان
- دار الزّليج
- دم الغزال
- مومس البحر
- الرطب واليابس
- جاحظيات
- وداعاً بسمة
- أغنية البعث والموت
- الفيرا
شهادات
مرزاق بقطاش كاتب ظل على بعد مسافات، من الأضواء والحضور شبه اليومي الذي يصر عليه الكثير من الكُتاب، كما ظل بعيدا عن الضجيج وعن مآدب الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات، ونادرا ما يسجل حضوره في مناسبة أدبية أو ثقافية. يفضل أن يشتغل في صمت، وأن ينشر أعماله بكثير من الهدوء.
يقول عنه الناقد والأكاديمي مخلوف عامر: «إنه الكاتب الذي واكب تحولات الجزائر وعرفها، وأبى إلا أن يجرد قلمه ليستخلص من المؤقت الزائل ما يمكث في الأرض، وهو لم يتنصَّل يوما من كتاباته في السياسة والفكر أو يتنكَّر للواقع، بل إن ذلك كله يقع في صلب أعماله».
كما قال عنه الأستاذ سعيد بوطاجين: «بقطاش نموذج فعلي للمثقف، للأخلاق والتواضع واحترام الذات والكرامة البشرية. إنه مرجع حقيقي، سواء اتفقنا معه في طريقته السردية أو لم نتفق، لكنه سيظل دائما قيمة لا يمكن تجاوزها في المشهد الأدبي والثقافي في الجزائر». مضيفا بأن له معرفة موسوعية لافتة، متشعبة ودقيقة وممنهجة وعقلانية، لكنه لا يحب الظهور كثيرا، وقد يعود ذلك إلى السياق الثقافي العام الذي يشهده البلد، وإلى هذا الخلط الكبير في ظل انهيار القيم الفنية والجمالية وهيمنة الزيف والجماعات الضاغطة التي مسخت الثقافة والكتابة وأصبحت المبتدأ والخبر.
من جهته الكاتب والباحث محمد مفلاح، يؤكد على أن بقطاش: «يُعد من المثقفين المتصوفة الذين آمنوا بالكلمة الصادقة وخدموها بإخلاص وتحملوا مشاقها بصبر كبير». أما القاص والناقد مصطفى فاسي، فيقول عن صاحب «طيور في الظهيرة»، بأنه: «يؤمن بأن الكتابة الإبداعية ينبغي أن تنبع من حياة الأديب وتجربته ومن محيطه الذي يعرفه جيدا وقد جاءت أعماله معبرة عن هذا الإطار».
«كراس الثقافة» في عدده لهذا اليوم، يحتفي بالكاتب والأديب مرزاق بقطاش، من خلال هذا الملف التكريمي، الذي يتحدث فيه كتاب وأدباء في شهاداتهم، عن الكاتب بقطاش، عن سيرته الأدبية ومسيرته وتجربته في الكتابة والإبداع، وهذا في سياقات متعددة، تشمل: بقطاش الأديب، القاص، الروائي، الصحفي، المترجم، وكاتب السيناريو، وكاتب المسرح، وعاشق اللغة العربية والمنتصر والمنحاز لها، من خلال إصراره الدائم على الكتابة والإبداع بها رغم إجادته وإتقانه لعدة لغات.
- مصطفى فاسي/ قاص وناقد
ظل يطور تجربته بهدوء بعيدا عن التجريب والمغامرة فنضج أدبه على نار هادئة
أول لقاء لي مع «بقطاش مرزاق» كان ذات يوم من سنة 1969 عن طريق قصته «عندما يجوع البشر»، الحائزة على جائزة رضا حوحو، وتعرفت عليه شخصيا بعد ذلك، ثم تكررت اللقاءات من خلال القراءة على الخصوص، لأن اللقاءات الفعلية كانت قليلة نسبيا بفعل اختلاف وظيفة كل منا، أنا بالجامعة التي التحقت بها سنة 1973 وبقطاش بالصحافة والإعلام. ولكنني ظللت أتابع وأقرأ ما ينشره في مجال القصة على الخصوص، وهو آنذاك من الكُتاب الشباب الذين يأتون على رأس جيل السبعينيات، إلى أن قرأت له سنة 1976 رواية، «طيور في الظهيرة»، وهو أول كِتاب نشره على ما أعرف حتى قبل أن ينشر مجموعته القصصية الأولى بعنوان «جراد البحر»، سنة 1978.
وقد كانت هذه الرواية ناضجة مثلما كانت قصته الأولى، وقدم لها الطاهر وطار الذي أعجب بها، وقال عنها إنها ولدت قوية تعبر عن قوة صاحبها، الفنية، أو بالأصح عن أصالة ملكته، أو موهبته، أو عبقريته، وأن التجربة ستجعل بقطاش أحد الكُتاب الجزائريين المحترمين. كما قال عن بقطاش أيضا إنه كالمحارب، اللفظة بالنسبة إليه عيار ناري، مستقل بذاته، هدفه المعنى الواضح كما هو، والصورة الفنية كما هي، حتى أن الإنسان وهو يمضي في القراءة لا يتمالك من القول، إن التعبير باللغة العربية في الجزائر لم يعد مغامرة خطيرة، كما يلاحظ وطار بحق أن بقطاش هو الوحيد من بين كُتاب هذه المرحلة الذي ينتمي إلى المدينة، فهو مولود بالعاصمة، ولذلك يكتب عنها بمعرفة.
وظل الرجل يواصل الكتابة، ومع الممارسة تنضج التجربة، وقد جمع بين الإبداع قصةً، فنشر عبر مسيرته مجموعات قصصية جادة وجميلة تعبر عن تجربة ناضجة ابتداء من أول قصة له. وروايةً بحيث بلغت نصوصه في هذا المجال عدة روايات، كما كتب مسلسلات للإذاعة والتلفزة قُدمت في الجزائر وخارجها، وقام بترجمة عدة أعمال أدبية منها في مجال الرواية لرشيد بوجدرة وفي القصة ترجم مجموعة «التفاحة الحمراء»، المختارة بذوق رفيع من عدة كُتاب عالميين، وهو خريج قسم الترجمة، اختصاص العربية والفرنسية والإنجليزية، وفي علمي أنه كتب بعض إبداعاته باللغتين الفرنسية والانجليزية أيضا، إلا أن إبداعه بالعربية التي أحبها أكثر من غيرها قد طغى على الباقي. وظل إلى جانب ذلك كله ينشر المقالات الثقافية والأدبية في الجزائر وبعض البلدان العربية في المشرق، هذه المقالات التي تنم عن إطلاع واسع على الثقافة العربية والعالمية قديما وحديثا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك الذي فـقـد البحر
قصة بقلم: مرزاق بقطاش
أومأت إليه برأسي أن نعم دون أن أنزل من السيارة. لم يقل كلمة واحدة، بل قام بتؤدة من المقعد الحجري في الحديقة العمومية الواسعة. تعود طيلة عقود أن يستريح في نفس المكان لبعض الوقت مع أصحابه من أهل البحر. ودعوته إلى أن يركب إلى جانبي. كان وحيدا على غير عادته في ذلك الأصيل. عندما يصعد من الميناء، يتناول بعض الشاي ويدخن عددا من السجائر دون أن يطيل الكلام مع رفاقه. كل من يريد مقابلته يتعين عليه أن يبحث عنه في ثلاثة أماكن: في عرض البحر، أو في هذه الحديقة، أو في المقهى العتيق المطل على أميرالية البحر. البحارة من أمثاله يحبون احتساء القهوة والشاي والثرثرة، ثم ينصرفون إلى أعمالهم، أو هم يعودون إلى ديارهم. الطيور التي تأوي إلى أشجار هذه الحديقة كل أصيل تثير الآن عجيجا متقطعا قبل أن تنام وتعاود الارتحال في الصباح الباكر من اليوم التالي. هناك تشابه كبير بينها وبين أهل البحر في هذه الحياة. هم أيضا يفعلون نفس الشيء، ولكن دونما صخب أو عجيج. تلك عادة عمي الحسين منذ عام 1922، أي منذ يفاعته. ولعله ورث عادات البحارة الأوائل، أولئك الذين كانت أميرالية البحر تزدهي بهم. يتجمعون فيها قبل أن يكون لهذه الحديقة وجود. وينتظر الواحد منهم هذه السفينة أو تلك قبل الارتحال صوب البحر العريض للتجارة أو للدفاع عن الجزائر المحروسة أو لخدمة حجاج بيت الله الحرام. كانوا يقومون بذلك على متون السفن الشراعية، في مبدإ الأمر، ثم السفن البخارية التي حلت محلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
لم يتوقف عمي الحسين عن الإبحار بالرغم من أنه تجاوز السبعين عاما. عندما لا يجد سفينة أجنبية يرتحل على متنها، يفضل أن يخرج على متن قاربه المشدود إلى الأميرالية. غايته هي السفن الأوربية الراسية خارج الميناء لكي يتبادل مع بحارتها بعض السلع أو السجائر، أو لكي ينقلهم من تلك السفن إلى رصيف المرسى. وهو في العادة يقدم لهم بعض ما يحتاجونه من معلومات عن الجزائر المحروسة. ثم يبحرون فرادى أو جماعات في تضاعيف المدينة على هواهم. أهل البحر لا ينافسونه في هذه التجارة المربحة لأنه يتكلم عددا من لغات أهل البحر، وينطق بالإنجليزية مثل الإنجليز والأمريكيين، ولا يجد أية صعوبة في التفاهم مع البحارة الذين عاشرهم أكثر من خمسين عاما في مختلف موانئ الدنيا. وكثيرا ما يعود بعد هذه الصفقات السريعة بعدد من السراويل والقمصان والقبعات الأمريكية ومختلف أنواع السجائر والأجبان. بل إنه يعود أحيانا محملا بعلب الكافيار. قبل بضع سنوات، عاد إلى الدار بمطرح مبطن بالريش أعجب أمه كثيرا، ومنذ ذلك الحين وهي تنام عليه. هو نفس المطرح الذي ارتحلت عليه إلى العالم الآخر في تلك العشية.
لم ينزل إلى المرسى في هذا اليوم. عرفت بعد ذلك من صديقه الحميم، عبد الرحمن أنه وقف في الصباح قبالة الأميرالية يتأمل حركة البحر وعمال الأرصفة، ويسترق النظر بين الحين والآخر إلى قاربه المربوط في قلب الأميرالية. قلبه لم يحدثه بالخروج صوب السفن الراسية في خليج الجزائر. ظل سحابة نهاره ينتظر من يقول له إن والدته على وشك الرحيل أو هي ارتحلت نهائيا. غادر الدار في الصباح الباكر بعد أن ألقى نظرة عليها، وحين لاحظ أنها غائبة عن الوعي، لم يتناول قهوة، لا، ولا هو دخن سيجارته الأولى. وضع قبعته على رأسه وانطلق صوب أميرالية البحر ماشيا على غير عادته.
تزوج عمي مرتين بعد أن شارف الستين عاما، وطلق في المرتين كلتيهما. كيف لإنسان مثله أن يستقر، ولو لبعض الوقت، في مكان واحد وقد أمضى حياته كلها وهو يقفز من سفينة إلى أخرى، ويجوب بحار الدنيا؟ قال لي مرة أنا لست قوقعة بحرية تسكن صخرة ولا تبارحها إلى الأبد! من ليفربول إلى هوستون إلى ميناء سان بيدرو في كاليفورنيا، إلى يوكوهاما في اليابان، إلى جزر هاواي في المحيط الهادي، إلى ولنجتون في أقصى الكرة الأرضية! ويعود في كل مرة محملا ببعض الحاجات التي يوزعها على أفراد العائلة أو يهديها لبعض أصحابه. وتـنـتـهره والدته في كل مرة: يدك مثقوبة، يا الحسين!. لا يكاد يجني فرنكا حتى يبذره في الحانات أو في جهة أخرى. ميزته الأولى والأخيرة هي أنه يحب سمكا معينا هو كلب البحر. يعود من أرباض المرسى وقد تعتعه السكر، ويأمرني، وهو يدس بعض الدراهم في جيبي: اذهب بسرعة إلى سوق “جامع اليهود”، وجئني بقطع من كلب البحر! ويعمل هو بنفسه على تنقية السمك، ثم يطبخه بطريقة لا يعرفها إلا هو، مكثرا من الطماطم والفلفل الحار، ويدخن عددا من السجائر وهو ينصت إلى الإذاعات البريطانية والأمريكية متابعا أخبار الدنيا، وأخبار الحروب بوجه خاص.
مضى عليه أسبوع كامل دون أن يفتح الرادبو. راديو والدته هو الذي يشغل باله. يتابع أخباره وهو بعيد عنه. وفي المساء، يهبط من غرفته الواقعة في سطح الدار، وينظر إليها نظرة فيها الكثير من الحيرة والتساؤلات، ثم يمضي الليل بطوله وهو ينفث دخان سجائره الأمريكية. هل كان ينتظر أن تدب الحياة فيها من جديد وتعود إليها عافيتها المعروفة عنها؟ يقول لي بنبرة من الحنان: لقد عملت أكثر مما يلزم في حياتها هذه. زوجت أبناءها وبناتها، ونقلت الكثير من الحجارة والرمل لكي تبني هذه الدار. وكانت شديدة الشفقة بالرغم من خشونتها في التعامل مع بعض الناس!
عندما شارفنا الدار، توقف بضع ثوان في الطريق، ثم قال بصوت عذب لم أعهده فيه: أتدري، يا ابن أخي؟ أمي مثل البحر العريض تماما. وها أنذا أفتقد هذا البحر إلى الأبد!
لم تفصح عيناه عن شيء في تلك اللحظات اللهم سوى عما يشبه الضياع. هو ضياع في عرض البحر المحيط هذه المرة. بل هو أشد وطأة من ذلك الذي عرفه عام 1953 مع صاحبه عبد الرحمن وبعض البحارة الأوربيين الذين كانوا معه. بين يدي الآن صورته وقد نجا من الموت بالقرب من جزر الآزور في المحيط الأطلسي. في تلك الصائفة اصطدمت السفينة التي يعمل على متنها بجبل ثلجي عائم انزلق من “غرونلاند” في الشمال. عينان مشعتان، ووقفة تتحدى كل شيء، بما في ذلك الموت. أما الآن، فقد حل رماد الحيرة محل ذلك البريق.
عمي الحسين أصغر الإخوة، وليس له من موئل آخر سوى الدار التي بنتها والدته قبل أكثر من خمسين عاما. يعود إليها بعد أن يضرب طولا وعرضا في محيطات الدنيا. وأعجب ما فيه هو أنه ظل يخاطب والدته باللغة الأمازيغية. لم ينس هذه اللغة بالرغم من أنه أتقن عددا من لغات البحر. في كلامه مع والدته حب عميق. يعرف كيف يختار كلماته، كيف يهادنها إن اشتدت عليه. ينأى عنها بضع دقائق، ثم يعود إليها متوددا وكأنه ما يزال في صباه الأول. وتفهمه هي، تعرف حركاته وسكناته وما يجول في خاطره، لأنها لم تلده فحسب، بل عايشته في جميع حالاته النفسية، بما فيها تلك التي يجد فيها نفسه تحت وطأة السكر الشديد. حياته كلها تتلخص في خط منكسر ينطلق من الدار إلى البحر والعكس. فهو إما على متن سفينة تشق عباب المحيط، أو في بعض الحانات التي يختلف إليها بالقرب من أميرالية الميناء، أو في أحد موانئ الدنيا. وفيما عدا ذلك لا ينصت إلى غناء ولا إلى موسيقى. قالت لي عمتي ذات يوم إنه كان في شبابه الأول يحب غناء السيدة “طيطمة”، مطربة الفن الحوزي الأندلسي.
حين دخلنا الدار، وقعت عيناه على جمع من الجارات اللواتي بلغهن خبر موت والدته. لم يدخل إلى الغرفة التي سجيت فيها. لم يجرؤ على ذلك وهو الذي تجرأ على الأمواج والطوافين وضربات الشمس في المحيط الهندي وعلى الجبال الصقيعية بين مضيق بيهرينغ وشواطىء اسكندنافيا والنرويج وغرولاند، بل، وعلى فصيل الإعدام الذي نجا منه في اللحظة الأخيرة عام 1940. جلس على طرف الحاجز الإسمنتي الذي يفصل ما بين صحن الدار والحديقة الصغيرة. أولى ظهره لغرفة والدته، وامتنع عن الصعود إلى السطح حيث توجد غرفته. لم يشعل سيجارة، بل نظر صوب نقطة ما من مدخل الدار، وأمضى بضع دقائق على هذا النحو. ثم ها هو ينفجر باكيا. اقتربت منه عمتي، وكانت أصغر منه سنا، وقالت له: أنا هنا يا خويا الحسين! وإذا به يتوقف عن البكاء. لم يبال بالنسوة اللواتي رحن يحدقن فيه، إذ ما أقل ما وقعت أعينهن عليه بفعل غيباته الطويلة المتكررة في البحر.
قلت في نفسي وأنا أجلس بالقرب منه عند بداية السلالم المفضية إلى السطح: لعله يتمنى الآن أن لو استقبلته والدته ببعض الصفعات على قفاه. وكدت أضحك لولا أنه نظر إلي وطلب مني أن أجيئه بفنجان قهوة. استذكرت ما روته لي جدتي. قالت لي إنها هبطت نحو المرسى ذات يوم من عام 1922، لتستقبله بصفعات على وجهه وقفاه بعد أن غامر لأول مرة في البحر، وانطلق على متن سفينة أمريكية نحو الإسكندرية. استلمته من قائد السفينة التي عاد على متنها وهي تدرك في قرارة نفسها أن البحر سيكون عالمه إلى آخر أيامه. أما هو فإنه استلذ ضرباتها تلك. وعندما كبر، امتنعت عن الوقوف في وجهه كلما حمل كيسه الخشن من الكتان ونزل صوب الميناء. واكتفت بتوجيه اللوم له، وبانتزاع النقود التي في جيبه حتى لا يبذرها في حانة من الحانات.
المرة الأولى التي رأيت فيها عمي يبكي كانت عندما عاد من إفريقيا الشرقية. كان على متن سفينة سويدية مبحرة إلى إندونيسيا، وأصيب بمرض الزحار. نقل من زنجبار إلى عبدان في إيران، ومنها إلى أثينا، فمرسيليا، فالجزائر العاصمة. جسده تداعى كلية بفعل المرض. شق عليه أن يموت بعيدا عن والدته وعن بلده. بكى بكاءً حارا لم تفهم معناه إلا والدته على الرغم من أنها شارفت المائة عام. أما أنا فقد استغربت أن ينفجر بمثل ذلك البكاء لأنني تعودت أن أرى فيه إنسانا قوي الشكيمة، لا يتواضع لأحد في هذه الدنيا حتى وإن تعين عليه أن يواجه فصيل الإعدام بعد أن ضرب محافظ شرطة فرنسي في ميناء عنابة عام 1940.
عندما انتصف الليل، هبط من السطح نزولا عند رغبة عمتي، ودخل غرفة والدته. خشيت هي عليه أن ينفجر باكيا، لذلك لم تتركه وحده. نظر إلى جثمان والدته المسجى، وحدق مليا في صدرها، وخرج وهو يفرك يديه. تلك هي عادته، وهي عادة ورثها عن والدته منذ الصغر عندما كانت ترى شيئا يزعجها. سمعته عندئذ يقول وهو يعاود صعود السلالم: الله يرحمك يا أمى! الله يرحمك، أيها البحر العريض!.