إضاءات
المُلَاسَنَاتُ المَغْزَائِرِيَةُ..!
بقلم: منير مزليني
ما يدور هذه الأيام من ملاسنات بين بعض الكتاب المغاربة ونظرائهم من الجزائريين حول مسألة التطبيع بخلفية القضية الصحراوية، لأمر يدعو إلى القلق ومؤشر خطير يتجه صوب السقوط في معالم الوعي الحضاري والفكري، لاسيما وأن المثقف المفكر فيه أخذ موضع التابع لا المتبوع، والمراد به لا المريد. وهي ظاهرة سلبية تعود بنا إلى عصر الانحطاط وعهد المماليك والطوائف! أين احتشدت القصور والبلاطات الحكمية بأشباه المثقفين والمسترزقين والعملاء، فكان المفكر فيه والفقيه تابعا للسلطان أو الحاكم فيبرر لأخطاء هذا الأخير ويفتي لزلاته ويغطي هناته ويخلع عليه من زينة الصفات وحسن الخصلات ما ليس فيه! وليت العيب والخطر توقف عند هذا الحدّ، بل كان الأمر يمتد حدّ السقوط في مخططات الأعداء وشراك المتربصين بالأمة، والضرب على منوالهم فيما يحيكونه من تدابير لتفتيت هذه الأمة وفك شملها وكسر وحدتها حتى تضعف أكثر فتصبح لقمة سائغة وفريسة سهلة لأطماعهم المعهودة.
وكما يبدو جليا أن خطت الربيع العربي التي حيكت كخطة طريق لتقسيم العالم العربي أكثر مما هو مقسم وإعادة رسم خريطة سياسية أخرى تخدم مصالحهم الاستعمارية وتحقق مآربهم المادية من نهب للثروات واضعاف للطرف الأخر، لم تنجح بالشكل المراد أو أنها لم تحقق الوجه المطلوب، في كل الدول العربية ، ولاستكمال هذا المخطط، تم اللجوء إلى الخطة “ب ” لتحقيق الأهداف المسطرة، والمتمثلة في اثارة النزاعات الحدودية بين الدول الشقيقة والنبش في الجروح القديمة، بعد عدم نجاحها في تفجيرها من الداخل أو بالأصح فتح خريطة الألغام المزروعة سابقا على الحدود التي وضعها الاستعمار نفسه كسياسة للتفرقة والتشتيت، وفي الوقت نفسه ألغاما مؤقتة مبرمجة إلى حين.
وحين نقول هذا فنحن لا نأتي بالجديد، وهذا كلام درسناه في مادة التاريخ المعاصر ونحن في الصفوف الأولى من المرحة الدراسية، لكن المصيبة تكمن في أننا ننسى، وأن وعينا جمّد، و إرادتنا شلّت، فلم نعد نستوعب أو نعي ما يحدث حولنا أو بيننا إلى درجة أن الأمي الأعمى بات يرى أفضل وأحسن منا ومواقفه باتت أنبل وأشجع مما يقترحه المثقف والمفكر العربي. لقد كتبت ذات يوم مقالا بعنوان ” ونحن صغار كنا أقرب إلى الحقيقة ” لأننا كنا على الفطرة ، ولم تلوث الحيلة والأنانية والمطامع أفكارنا بعد ، فكنا نرى الأمور بوضوح ، ونفرق بين الخير والشر، وبين الصحيح والخطأ بناء على تلك القيم والمثل التي تعلمناها ونحن صغار وفي المراحل الأولى من التعليم، ومنها أن الوحدة قوة والتفرقة ضعف، وكنا نستغرب ونحن ندرس في مادة التاريخ أسباب سقوط الحضارة الاسلامية ، وسقوط الأندلس والتي ترجع في معظمها إلى أطماع الأمراء في الحكم، فكان أحدهم يقتل أخاه أو أباه كي يعتلي الحكم ، أو يتآمر مع الأعداء كي ينفصل عن الدولة الأم وغيرها, وغيرها، في حين أن الحل كان واضحا ولا يحتاج إلى عبقرية أو خطة محكمة. لكن الأنانية والطمع هما اللذان أسقطا الأمة ولازالا، في حين أن الشعوب العربية المسلة ظلت ولازالت دوما تحلم بالوحدة وبالدولة القوية الشاسعة من المحيط إلى الخليج. لكن هيهات، هيهات ! ففيما الأحلام بدأت تتلاشى، ظلت الأطماع والأنانية تشتد وتقوى وتتوسع!
وأنا أصيغ هذا الكلام، أحب أن أتوجه بالحديث لأولئك وهؤلاء بالقول:” بالله عليكم ، ألا تعلمون أن هذا ما يريده أعداؤنا بالضبط، وهو الدخول في ملاسنات ساذجة وجدال أجوف وخصام مفتعل، في حين أن المآرب فيه سياسوية، وأن العمالة السياسية واضحة ( تنفيذ مخططهم مقابل البقاء في الحكم أو الجلوس على الكرسي). وبدل الوقوف مع الشعوب ومطالبها، ونشر الوعي بينهم وتبصيرهم بواجباتهم وحقوقهم، أصبحتم متارس الحكام وأبواقها!.. أو بأقل تقدير أشباه مفكرين لا ترون أبعد من أنوفكم ! ” و إن كان هذا الكلام لا ينطبق على الكل والتعميم لا يجوز، ولا تقبل به الموضعية والمنطق، لكن الحال غير الحال، والمنطق غير المنطق، ونعلم أن مثقف اليوم بات في أزمة ، ووضع حرج لا يحسد عليه، أوجد نفسه فيه بين المطرقة والسندان، لكن هذا هو المحك الذي يجب أن يختبر فيه المثقف نفسه، والميدان الذي يجب الوقوف في ساحته، وهذه هي معركته الحقيقية ليفرض سلطته ويظهر إبداعه وعبقريته الفنية والفكرية، إن معركة المثقف الحقيقية لا تكون بين المثقف والمثقف حول المناصب والجوائز في أوقات الرخاء والسلام، بل بين المثقف والسياسي ، وكسر ما يضعه هذا الأخير من حواجز وينصبه من فخاخ وإغراءات لتكسر هيبة المثقف وتضليله عن رسالته الحقيقية في إيصال الكلمة الصادقة والجميلة وفك رموز الألغام والخدع التي يضعها السياسي، على أساس أن السياسة فن الكذب، لكن ليس على طريقة أجمل الشعر أكذبه، بل على طريقة السفسطائيين القدامى، بالقدرة على اقناع الأخرين بوجهة نظرهم حتى ولو كانت خاطئة أو مغالطة. إن جدلية المثقف والسياسي حتمية تاريخية لم ولن يخلو منها عصر ولا مصر، والتاريخ لا يرحم، فلو تراجع سقراط عن أفكاره أمام كأس السمّ لما كان ولا ظل، وكذلك فعل الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل و فولتير وجون جاك روسو ولوركا وغيرهم، وغيرهم .. إن المآرب النفعية والمصالح المادية تفنى وتبلى بفناء أصحابها، لكن الأفكار والمواقف تظل وتبقى شاهدة على أصحابها مخلدة إياهم في سجل الخالدين من عباقرة ومفكرين وفقهاء وفنانين ومناضلين، وغيرهم.. لقد أثبتت التجربة التاريخية أن سرّ القوة في الكلمة ، ولقد خسر الرئيس الجزائري السابق (عبد العزيز بوتفليقة) حكمه لما خسر لسانه، بل إن القوة العالمية المهيمنة اليوم تكمن في قوة الكلمة / الخطاب في شتى صوره الاعلامية و السينمائية والأدبية والفنية فضلا عن الخطاب السياسي المباشر نفسه.
ونحن وفي هذا السياق لا نطلب من المثقف العربي أكثر من لا يكون عميلا أو جلادا في يد السياسي الفاسد. وأن لا يسمح لنفسه بامتهان مهام الخونة الفاسدين الذين يبيعون أنفسهم لأعداء الأمة والبشرية جمعاء. وأن يجتهدوا ليكونوا بمنأى عن فساد الساسة والسياسة بقدر ما يستطيعون، وأن يبلغوا رسالتهم الابداعية وأفكاره النيرة بشتى الأشكال الابداعية، وكما قالي لي أحد الأصدقاء الفنانين ” يكفي أن تأخذ الأزهار لون السواد ، حتى تصل الرسالة “. إن أنبل رسالة يوصلها المفكر والأديب أو المثقف على العموم هو نشر السلام والمحبة والأخوة بين الناس، والانتصار للحق ونشر النور بدل الظلام ، وكما كنت أقول دوما ” الأبداع ثورة تولد من “لا” وتموت بـ ” نعم ” ثورة على القبح من حيث هو جمال، وثورة على الجهل من حيث هو معرفة، وثورة على الاستبداد من حيث هو تحرر ” ، فلنكن جميعا مبدعينا داعين الجمال والمعرفة والحرية . ورغم أننا نعلم أن المهمة صعبة والحمل ثقيل، خصوص في زمن التطبيع والانبطاح المخزي الذي تمر به الأمة، وأن الطبقة المثقفة سوف تنقسم إلى ثلاثة أقسام كعادتها بين متصد ممانع، ومنبطح مطبع، وثالث مرفوع لا صوت له! كما نعلم أن العالم بات في يد عصابة أصحاب رؤوس الأموال الضخمة التي تضغط على الدول والشعوب الضعيفة بالانصياع والخضوع بقوة السلاح والاعلام والتكنولوجيا، أين بات فيه العالم كرة صغيرة بين أصابعهم يتلاعبون بها كيفما شاءوا ومتى أرادوا!
قد يقول قائل،” إذا كان الأمر كذلك فإن هؤلاء مغلوب على أمرهم ولا إرادة لهم أمام هذه القوة المهيمنة، ولابد من الخضوع للقوة لانقاض ما يمكن انقاضه وعدم الزج بشعوبهم للهلاك المحتوم ” .. لكن هذا منطق الضعفاء والعملاء، وهو المنطق نفسه الذي أوصلنا إلى هذه النتائج السلبية المخزية، فإذا كانت شعوب العالم الغربي نفسه ترفض هذه الهيمنة وسيطرة أصحاب رؤوس الأموال الضخمة ، وهم ما هم عليه من فكر مادي ووجودي إلحادي فكيف ونحن نِؤمن بالقضاء والقدر وأن الله هو المسير والمهيمن وما نحن فيه من ذل وهوان، ما هو إلا نتيجة لخضوعنا واستسلامنا للضعف والهوان والتخلف. إن العالم اليوم يخرج مرة أخرى من هيمنة القطبة الواحدة ويتجه نحو تعددية قطبية قد تكون رباعية أو أكثر، يمثلها كل من الصين والروس والهند ودول أخرى تسعى لتوسع هذه الدائرة ، وما نحن فيه من صراع اقتصادي وتكنولوجي وبيولوجي ما هو إلا حرب عالمية ثالثة أو كما يراها آخرون رابعة ممن يعتبرون الحرب الباردة حربا عالمية ثالثة. وها هي الفرصة تأتي لأيدينا مرة أخرى . وهنا يأتي دور المثقف الواعي الذي لابد أن يفرض منطقه وحجته ويعمل على توعية شعبه على ما يحدث ويستقرئ ما يمكن أن يحدث لنفكر في مخرج من هذا السقوط المذل على جميع الأصعدة وفي كافة المجالات. ولنعد للعمل على اتحادنا فإن لم نقوى عليه عربيا، فنبدأ بتحقيق حلمنا في وحدة المغرب العربي الكبير والذي يجمعنا أكثر مما يفرقنا ، ولكنه ليس بالتأكيد ” طبق الكسكسي ” الذي يتغنى به (المتفيقهون)، بل تاريخنا النضالي المشترك الواحد ضد عدو الأمس واليوم، ولغتنا الواحدة الصامدة القوية، وديننا الواحد الحنيف خصوصا ونحن على مذهب جامع واحد ( المالكي)، هذه الروابط الثلاث هي الحبل المتين الواحد الذي إن اجتمع لن تسطيع قطعه أي قوة مهما بلغت شدتها، ولا أي فكر مظلل مهما بلغ مكره ودهاؤه. وأعود لأقول مرة أخرى : ” إن المثقف إن لم يكن جزء من الحل، فهو جزء من المشكلة !” .
الخميس : 31/12/2020