في الضفّة الأخرى من الحياة كنت في حالة سكر حد الهذيان. رغم أني لم أشرب شيئا. إلا بعض زيت الزيتون الذي تحتفظ به أمي كدواء. لأني أمضيت ليلة حالكة ومضنية، أو ربما أشدّ ليلة مرت بي في حياتي مذ خبرت المرض… لم أكن نائما ولم أكن في تمام يقظتي، كنت أحاول أن أميّز بين نفسي وبين سريري عدة مرات دون جدوى. كل الذي أذكره أني تركت هاتفي مغلقا كي لا يزعجني أحد في الصباح من أصدقاء العمل. لأني قررت أن أتغيب هذا السبت وأستريح قليلا من وطأة الأرق الذي استحوذ على جفوني عدة أيام إلى درجة السكر والهذيان. ولا حتى أصدقائي الافتراضيين في عالم الفايسبوك الذي صرت أمقته كثيرا مؤخرا. من كثرة الأقنعة التي صارت تتسلل إليه لتثير الفتن بين الأصدقاء. ولكن هناك العديد من أصدقاء العالم الأزرق طيبون جدا ويستحقون المحبة، ومن أجلهم فقط أتراجع دوما عن حذف صفحتي المشؤومة والتي لم تعد تصلح لشيء كأنها أرض قاحلة لا تنبت غير الشوك والألم لكل الأحبة الذين أعرف جيدا صدق محبتهم. ولكني أعرف نفسي جيدا أيضا، فحينما تصيبني نزلة برد حادة مثل هذه أصبح خارج نطاق الحياة، ولا أستطيع أن أتواصل مع الناس إطلاقا، بل وأطّل من على نافذة الموت حتى أكاد أرى العالم الآخر بأم عيني. ولن أخفيكم سرّا أني أكثر من مرة رأيت العالم الآخر بأم عيني فعلا! ولم يكن مجرد حلم أبدا. ولكني بقدرة قادر كنت دائما أعود إلى الحياة من جديد كأني لم أمرض في حياتي يوما. فأعود إلى مشاكساتي ومشاكلي التي لا تنتهي.
قلت بأني كنت في حالة سكر حد الثمالة من وطأة الحمّى والأرق الذي أصابني عدة أيام بلياليها. أمضيت ليلتي ما بين النوم واليقظة تماما عند الحد الفاصل ما بين الحياة والموت، فرأيت فيما يرى النائم في غفوته أني قد صرت نحلة.. نحلة جميلة جدا مزهوة بنفسها. ورحت أحوم بين زهور حديقتنا التي لا أذكر يوما أنها كانت موجودة. ولكني قد صرت نحلة ولا بد لي من حديقة جميلة كي أتلذذ برحيق زهورها وعطر ورودها. فكيف لي أن أصنع العسل دون رحيق مختوم. هل قلت العسل.. آه تذكرت لقد ناولتني أمي بعض العسل أيضا من ذاك الذي كانت تحتفظ به كدواء طبعا مع زيت الزيتون. آه يا أمي الحنون كيف كنت سأفعل دونك يا أحلى امرأة عرفتها منذ نشأتي، كيف ستكون حياتي من دونك وأنا ما زلت في حضنك طفلا يحبو. مهما ادعيت أني كبرت سأظّل ذلك الطفل المشاكس الذي يعود إليك كل مساء ليقبل جبينك ويستأذنك في كل شيء حتى حينما يريد أن يستحم، مسكينة أنت يا أمي كم تعانين لأجلي دون أن تقولي يوما أف، ودون أن تضجري. قلت أني قد صرت نحلة وسأصنع الكثير من العسل لأجلك يا أمي.
دخلت بالفعل إلى الحديقة ورأيت أزهارا كثيرة وبألوان مختلفة وأشكال متنوعة وكلها كانت جميلة جدا حد الاشتهاء. وبما أني ولأول مرة يحدث معي أن تحولت إلى نحلة، نحلة حقيقية بحجمها الطبيعي وشغفها بالحياة، ولم أر في حياتي قط هذا الجمال الأخاذ وهاته الألوان الفاتنة. رحت أمتص رحيق الزهور بكل نهم وأنتقل من زهرة إلى أخرى. سابحا في الفضاء الفسيح وأنا أغني ( أنا زينة وحدي في البساتين ) . تبا لماذا زينة لماذا لست صديقها الجميل نحول. ولكن ذكور النحل لا تصنع العسل ولا تجمع الرحيق، لذلك كان لا بد أن أتنازل عن بعض ذكورتي وأقبل بأن أصبح نحلة من أجل صنع العسل ولكن كيف لي أن أقبل بذلك؟ مستحيل أن أتنازل عن رجولتي مهما كلفني الأمر. قررت أن أكون ـ نحول أو بشار ـ واستبدلت أغنية زينة بأغنية بشار ( يا قلبي المشتاق نم في ندى الأوراق ) بشار يجب أن تدير ظهرك للأمس ويجب أن تواجه الغد بعزم وثقة. هكذا استعدت ثقتي بنفسي ورحت ألقي بنفسي بين الزهور بكل عزم وشغف. وقد كنت كلما شربت رحيق زهرة ذبلت تلك الزهرة وتساقطت أوراقها وازداد مقابل ذلك حجمي ونهمي أكثر. إلى درجة أني لم أعد قادرا على الطيران وصار حجمي أكبر من تلك النحلة التي رأيتها كما يرى النائم حلما في غفوته. يا الله! لقد صرت وحشا بشعا وشرسا جدا، وقررت أن أمتص كل زهرة ألمحها في طريقي ليس فقط في حديقتنا التي لا أذكر أبدا أن كانت يوما في بيتنا. ولكن كل الزهور التي يمكن أن تنبتها الأرض. قررت أن أستريح قليلا وألقيت بجسمي الضخم على الأرض وقررت أن أغوص في سبات عميق. لولا أني سمعت ذبذبة مزعجة أقضّت مضجعي وكأنها ذبابة. ربما تحاول أن تشرك نفسها معي في حلمي الجميل وتقاسمني رحيق الزهور العذب. ربما فعلا هي ذبابة لأني أذكر جيدا أني أغلقت هاتفي كي لا يرن أو يهتز في الصباح فيوقظني من نومتي الهادئة. تبا راح أزيز الذبابة يزداد قربا وإزعاجا، بل وكثرت الأصوات وأنا مستلق على ظهري لا أستطيع الوقوف من التخمة. فجأة لمحت نحلة تقترب مني ثم أخرى وأخرى وتحوّل أزيز الذباب إلى طنين ثم دوي مفزع وهجمت عليّ أسراب من النحل لا أدري من أين أتت وهي تصرخ ملء طنينها أقتلوا الذبابة اللعينة…