سرقاتٌ أمينة
عبد الرزاق بوكبة
[1]
من عادتي أن أقتطع مبلغًا صغيرًا، بداية كلّ شهرٍ، وأدسَّه في كتابٍ من الكتب، فقد تضطرّني إليه الطّوارئُ. ولئن كنتُ متسامحًا مع اليد، التي تمتدّ إلى النّقود التي في جيبي، أو تلك التي تقع منّي في الفراش، فلست كذلك مع اليد، التي تمتدّ إلى هذا المبلغ الخاصّ.
[2]
قبل شهرين، تفقّدت المبلغَ الخاصَّ، فلم أجد ثلثَه. وهو ما دعاني إلى أن أدعو المجلس الأسريَّ إلى الاجتماع فورًا: يدُ من هذه التي تجرّأت على أن تمتدّ إلى الكتاب؟ ولأنّنا لا نلجأ إلى القَسَمِ في البيت، احترامًا للثّقة بيننا، فقد انتهى الاجتماع إلى اتهام شخص واحد هو: أنا.
ــــــــــــــــــــ
شريط الذاكرة
ــــــــــــــــــــــ
كنتُ تلميذًا ضمن النّظام الدّاخلي، في مدينة برج بوعريريج، وكان يُخصّص لنا وقت في المساء لا يتعدّى ساعتين للمراجعة، لا يبقى منه شيء للمطالعة خارج المقرّر، فكنت أراجع دروسي المقرّرة، في الوقت المخصّص لذلك، ثم أطالع في مرحاض المرقد، بعد أن ينام زملائي. إذ لم يكن يُسمح بأن يبقى المرقد مضاءً إلا نصف ساعة بعد الدّخول، ثم تكون الرّؤوسُ جميعُها تحت الغطاء وجوبًا.
استثمرت ثقة أمينة المكتبة، في الفصل الأخير من المرحلة الثّانوية، 1996، وادّعيت أنّني أضعتُ آخرَ كتابٍ استعرته. أذكر أنّه كان الأعمالَ الكاملةَ لنزار قبّاني، إذ كنت في بداياتي الشّعرية، وكنت أرى فيه نموذجًا يُحتذى ومثالًا. لكن هل كان لي ما أردت؟ استدعاني المراقب العامّ للثّانوية، وقال لي في صرامة سوداء: إمّا أن تعيد الكتاب، وإمّا ستُحرم من المشاركة في امتحان الباكالوريا البيضاء.
كنتُ أظنّ أنّه يمزح، لكنّني تأكدت من أنّه الجِدُّ. ففكرتُ في إعادة الكتاب فعلًا، ثمّ تراجعتُ خوفًا من أن تهتزّ صورتي، إن أنا أعدته، بعد أن ادّعيت ضياعَه، فأصررت على أنه ضاع، وأبديت استعدادي لأن أعوّضه بكتابٍ آخرَ مهمٍّ مثله، فوافق المراقب على ذلك. لكن من أين لي بالمال. أنا التلميذ الدّاخلي، الذي كانت أمُّه تبيع بيضَها وبعضَ دجاجاتها، لتضمن له مصروفَه؟
قصدتُ جامع القرية بنيّةٍ مختلفةٍ، هي أن أختار عنوانًا من مكتبته. كانت لحظةً حرجة جدًّا، احتقرت فيها نفسي، إذ وجدتني أسرق في المكان الذي كنت أصلّي فيه، وأحفظ القرآن العظيم. فهل يصحّ أن أعود إليه مرّة أخرى، وأرفع يديَّ سائلًا ربّي شيئاً ما؟ هل من الذّوق أن أستعين بمن سرقت بيتَه؟
دخلت مثقوبًا بخوفي، ثمّ زادت الثّقوب، حين زَرْيَطَ البابُ. هل أصلّي تحيّة المسجد أم لا؟ لا بدّ أن أكون شفّافًا، فأصنّفَ نفسي. أصلّي إذا لم أجئ سارقًا، أمّا إذا صلّيت ثمّ سرقت، فسأكون عابثًا. والصّلاة ليست عبثًا/ بيت الربّ ليس عبثًا/ ربي ليس عبثًا. فالزمْ حدودَك يا عبد الرّزّاق.
التزمتُ ركنًا من الجامع، وانكمشت على نفسي، لأجدني أبكي بحرارةٍ. ثم فجأةً توقّفتُ عن البكاء/ وقفتُ وسط الجامع الذي كان خاليًا إلا منّي، وابتسمتُ في وجه الله: هل تسمح لي بأن أختار كتابًا بنيّة الاستعارة، لا بنيّة السّرقة، على أن أشتري نسخةً منه، وأعيدها متى وفّقتني لذلك؟
في تلك اللحظة، سقط من رفّ المكتبة كتاب “الأمالي” لأبي علي القالي.
ـــــــــــــــــــــ
كهرباء اللحظة
ـــــــــــــــــــــ
[3]
أعيتني الكتابة، فَأَرَحْتُني بالاستجابة لغفوتي، وأنا مستعدّ لأن “أكره” كلَّ من تطرقُ عليّ غرفتي.
[4]
ـ من؟
ـ علياء
ـ ماذا تريدين؟
ـ أردّ لك أمانةً أخذتُها منك، قبل شهرين. كنتَ وضعتها في الكتاب، وكان لا بدّ، يومَها، أن أساعد بها صديقتي “م”. أضاعت ساعتها، وأمُّها من النّوع الذي لا يشفق عندما يضرب.
ـ رائع. ولكن من أين عوّضت المبلغ؟
ـ من الكتاب.