ثقافة الاختزال
بقلم : د. نضـــال الصـــالح سوريا
على نحو يكاد يكون استثناء من هذا الكوكب المترامي الأطراف، تبدو ثقافة الاختزال مكوّناً مركزيّاً من مكوّنات العقل العربيّ.. المولَع، كما يبدو، بتثمير هذه الثقافة وتعزيز حضورها بدلاً من نفيها، أو تأكيد نقيضها، وربّما مساءلتها، لكأنّ ما تحيل عليه، أو تشير إليه، هو الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من أيّ جانب. وغالباً ما يجهر ذلك المكوّن بنفسه في حقل الثقافة نفسها التي تترنّح، يوماً بعد آخر، تحت وطأة اختلاطات كثيرة تزداد فتكاً بالحقيقة، وتذرّرها، وتجعل ما يعني الإبداع، من نقد أو إعلام أو حضور في وسائل الاتصال الثقافي المختلفة، نهباً لإرادات فردية، تمكّنت، ولمّا تزل، من إيهام مستقبِل (بكسر الباء) المنجَز الثقافي بأنّ ما يتم تصديره إليه عبر ذلك النقد أو الإعلام أو الحضور، أو من هذه كلّها معاً، هو الأكثر بهاء، أو إبداعاً، أو تعبيراً عن الواقع حقّاً في لوحة الفسيفساء الخالبة في تاريخ الإبداع في سورية، أو في راهنه، أو في كليهما بآن. وليس أدلّ على حضور ذلك المكوّن، أي ثقافة الاختزال، من أنّ خطابنا النقدي، داخل المؤسسة الجامعية وخارجها، لمّا يزل يعيد القول في أسماء وتجارب إبداعية بعينها، ومن أنّ تلك الأسماء والتجارب حازت وحدها، ولمّا تزل تحوز، الصدارة في مختلف وسائل الإعلام الثقافي، المكتوبة والمسموعة والمرئية، ومن أنّها، وحدها أيضاً، لمّا تزل تختصر الطيف الإبداعيّ في هذا الجزء أو ذاك من الجغرافية الإبداعية العربية، لكأنّها ذلك الطيف كلّه، أو الشاهد الوحيد عليه. وإذا كان من البدهيّ أن يكون ثمّة أسماء أو تجارب تعني علامات مميزة من سواها من المبدعين والإبداع في أيّ من أجزاء هذه الجغرافية وتاريخها، فإنّه ممّا ليس بدهياً، بل ممّا لا يمكن التسليم به، أنّ تلك الأسماء والتجارب هي وحدها الجديرة بالحفاوة والمتابعة والتقدير، وبأنّه لا يمكن لعجلة الزمن أن تمرّ عليها، كما لا يمكن لتحوّلات العمر، والذاكرة، والقدرة على الإبداع، أن تنال من موقع الصدارة، الذي كانت بلغته، ربّما على غفلة من الحقيقة أحياناً، وربّما، أحياناً أخرى، بفعل رافعة ايديولوجية، أو إعلامية، أو مهارة في التسويق، أو بفعل شرط تاريخيّ محكوم باعتبارات خارج نصّية، أو نتاج إرادات سابقة على النصّ نفسه. ولعلّ من أشدّ أشكال وطأة هذه الثقافة على الحقيقة نفي الطاقات الإبداعية الجديدة، أو تهميشها، أو الاكتفاء بإفساح المجال لمن يُحسن منها الاعتكاف في مقام هذه الإقطاعية الثقافية أو تلك، أو الولاء المطلق والأعمى لهذه الإمارة الثقافية أو تلك، الأمر الذي قد يفسر تلك الاختلاطات في أدائنا الثقافي، والتي منها تتابع أسماء بعينها على مختلف منابرنا الثقافية، في المهرجانات، والندوات، والأمسيات، وعبر وسائل الاتصال الثقافي المختلفة أيضاً، كما قد يفسر استئثار حفنة من المشتغلين بالثقافة بصناعة القرار الثقافي، أو تقافز بعض الكتّاب والمثقفين بين غير حقل معرفي، أو جنس أدبيّ، أو مغامرة في الفنّ، كتابة ومشاركة وفصلاً في القول، على الرغم من أنّ معارف الأغلب الأعمّ من أولئك في هذا الحقل، أو الجنس، أو المغامرة، يمكن ألا تتجاوز معارف بدويّ في مكان ناء باللغة الصينية، أو الأوردية، أو السلافية القديمة. ويبدو أنّ خلاص الثقافة من حال، أو حالات، كهذه لم يعد ممكناً من دون إعادة الاعتبار لمعنى الثقافة، وقيمها، ووظائفها.. اعتبار يرغم أولئك الذين لمّا يزالوا يصرّون على أنّ كلاً منهم فريد عصره ويتيمة دهره على فريد عصره ويتيمة دهره على الإقرار ببدهية منبثقة من أعمق أعماق التاريخ.. بدهيّة أنّ الأمّة ولّادة بالإبداع والمبدعين دائماً.