رؤية |
عن ميكنة الكتابة وبرمجة المزاجية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب / المؤسسة وصناعة الإبداع
نجيب محفوظ أنموذجا
مختار عيسى
لا يبدو غريبا الحديث عن المبدع بوصفه أحد تجليات الشخصية المتوهجة، أو الذوات التي تتأبط جمرها ، وتعيش حالة من الاغتراب النوعي الذي قد يفصلها ـ حينا ـ عن التعايش مع مجاوراتها من ذوات ليست أقل قيمة إنسانيا ، وإن كانت ـ مع بعض الاطمئنان إلى هذا الرأي الشخصي ـ أقل فاعلية ظاهريا في الحياة ، باعتبارها ، أي هذه الذوات المجاورة للذات المبدعة ، تلعب أدوارا هامشية نوعا ما ، وربما كان بعضها مجرد أدوات أو ( تروس ) في آلة الكون الضخمة ، بعيداـ قطعا ـ عن أي تصور عنصري يحط من شأن هذه الذوات الهامشية .
لكن يبدو غريبا ـ حتما ـ ذلك الحديث الذي تتداوله الأوساط الأدبية في تناسلاتها الحوارية ، أو إسهاماتها النقدية عن حال مائزة استأثر بها بنسبة بالغة السطوع أديب العرب الراحل الكبير نجيب محفوظ ، حتى كادت ـ وبلغة التجاريين ـ تصبح ماركة مسجلة باسمه ، وعلامة على سوق أدبية خاصة هو سيدها بلا منازع.
ما أعنيه هو ذلك الانضباط الصارم الذي أخضع له أديبنا الراحل عمره الأدبي،وربما الحياتي ، لدرجة يمكن معها القول إنه رغم توهجه الذاتي كمبدع ، لاخلاف على إبداعه وقدراته الفنية والأدبية بما تفرضه هذه القدرات من الاغتراب الذي أشرنا إليه، أصبح أنموذجا لحالة التباس توصيفي ، حين ضرب مثلا لخروج الأديب من عزلته وأبراجه العاجيةـ على حد ما يشي به هذا الوصف المكرور والمتكلس ـ فاختلط بالناس، وتحدث إليهم واستمع ، كتب عنهم ، وعاش أحلامهم، وإحباطاتهم فيما طالت كتاباته ـ على الضفة الأخرى ـ المجتمع النخبوى وصراعاته ومقولاته ، الزائف منها والأصيل ، ومع ذلك ظل محتفظا بردائه البلاستيكي الشفاف ـ نوعا ما ـ يحيط به اسمه وشخصيته ؛ فلا يكاد يذوب وسط طبقته الشعبية التي ظهرت في كثير من رواياته وسيناريوهاته ، أو يمتزج بالتيارات الفكرية المصرية أو العالمية لدرجة يمكن معها أن تلصقه بإحدى الأيديولوجيات أو حتى التوجهات والبرامج الحزبية رغم توفر بعض الميول إلى هنا أو إلى هناك .
حقق محفوظ إذن المعادلة الصعبة التي فشل كثيرون في الوصول إلى اتزان ما بين طرفيها يتيح لهم حركة آمنة في المجتمع والحياة ، بصرف النظر عما تعرض له الكاتب من محاولة اعتداء ؛ فذلك فعل خارج السياق المجتمعي بكل تأكيد ؛ فقد تمكن الكاتب الكبير من صيانة اتزانه الشخصي في مواجهة الأحداث الوطنية والقومية، ولم يسقط في هوة الانسحاب الطوعي أو الكرهي بعد الانكسارات التي منيت بها البنية الاجتماعية والسياسية والعسكرية المصرية كما فعل بعض الكتاب والفنانين الذين افترسهم تنين الإحباط مثل صلاح جاهين ، ود جمال حمدان ـ على حد تعبير الشاعر الراحل محمد يوسف في دراسة له عن كاتب هذه السطورـ بل واصل محفوظ مشواره الأدبي بكل الثقة والصرامة معا ، حتى كاد البعض وربما كان الحق إلى جانبهم ـ يسخرون من صرامته بقسوة حين تساءلوا عن علاقة الإبداع بهذه الآلية الميكانيكية التي تردد أن الكاتب يعتمدها في استقباله واستدباره فعل الكتابة ؛ فقد تهكم أحدهم بالقول إن محفوظ الذي كان يلزم نفسه بمواعيد محددة لممارسة فعل الكتابة ، إن انتهى وقت هذا الفعل لديه وفي عقله جملة أو فكرة ، توقف عن كتابتها مؤجلا إياها لموعد العمل عند افتتاح مصنع الكتابة في اليوم التالي .
لايخفى مافي هذه السخرية الحارقة من إشارة إلى أن الكاتب لم يكن يمارس الكتابة باعتبارها كما زائدا يمكن الارتكان إليه أو إزاحته حسب مزاجية الكاتب كما هو شائع لدينا جميعا ـ أو لدى معظمنا على الأقل ـ لكنها عملية مبرمجة وواجب ومسؤولية ووظيفة لابد أن تؤدى وفق آلياتها في وقت ومكان محددين ، أي أن الكتابة تحولت ـ هكذا ـ إلى فعل أتوماتيكي ، ويكفي أن يضغط الكاتب زري البدء والإيقاف ليتحكم في كم الإنتاج ونوعه كما يحدث مثلا عند إنتاج المنظفات أو علب الكريمات أو الجبن ، الأمر الذي يثير الدهشة ويزرعها في كل رأس ؛ إذ كيف مع هذه ( الأتمتة ) تمكن محفوظ من استبطان شخوص أعماله ، والتعبير ـ بمهارة فائقة ـ عن دواخلهم النفسية ، فضلا عن الحيوز الزمكانية التي تتحرك فيها هذه الشخوص ، وأن يقدم لنا ، كما في كثير من أعماله ، وفي مقدمتهاـ وفق هذه الأطر الاستبطانية التحليلية النفسية ـ الثلاثية والحرافيش شخصيات من لحم ودم ومشاعر ، لا كائنات خرافية أوشخصيات كارتونية كما تتجلى لدى كثير من الروائيين أصحاب الرؤى المعلبة والأفكار سابقة التجهيز، والتي يمكن أن تكون هي الأقرب إلى هذه ( الأتمتة ) رغم مجافاة هؤلاء الروائيين لهذه الصرامة، وهذا التنظيم الكتابي كما شاع عن محفوظ وصرح به أكثر من مرة ، وأكده مقربون .
ولعل سؤالا ملحا يشخص في مواجهة الذات المبدعة وهي تتأمل الأنموذج المحفوظي في هذه المنظومة ، مفاده ـ أي هذا السؤال ـ هو هل هذه ( الأتمتة ) كانت ضرورة ليتحول الكاتب كما هو الشأن في الحالة المحفوظية إلى مؤسسة إبداعية تنتج هذا الكم من الروايات والقصص والسيناريوهات وفق مستوى إنتاجي لايتمكن القائمون على تقويمه ـ مع الإنصاف ـ من تقديم مرحلة من مراحله على أختها من حيث الكم والنوع ؛ فمن المسلم به تباين مراحل الكتابة عند أي كاتب ، بينما الأمر لدى محفوظ يأخذ شكلا آخر ، فهو قد كتب الرواية التاريخية ، أو ما اصطلح على وضعه تحت هذه اللافتة ، أو تلك الاجتماعية الواقعية ـ إلى حد ما ـ والروايات الفلسفية الباحثة في سر الوجود وعلاقة الإنسان بالغيبي ، لم يهتز قلمه ولم تتراجع إمكاناته في مرحلة من المراحل ، وظل محافظا على هذا الوهج طوال الرحلة الكتابية الممتدة من 1932 حيث كانت ” مصر القديمة ” إلى ” أحلام فترة النقاهة سنة 2005 ، مرورا بـ” همس الجنون ” و ” عبث الأقدار” و”رادوبيس” التي فاز عنها بجائزة قوت القلوب سنة 1943، ثم “كفاح طيبة ” عام 1944 والتي منحته وزارة المعارف المصرية جائزتها عنها في العام نفسه ، ثم” القاهرة الجديدة” 1945 تلتها ” خان الخليلي ” التي أحرز بها جائزة مجمع اللغة العربية عام 1946، إلى آخر المشوار الطويل مع الأدب والجوائز ومنها جائزة ” نوبل ” التي توجته أديبا عالميا عام 1988 عن ” أولا حارتنا ” وروايات أخرى ، رغم ما يعتري هذه الجائزة من تدخلات تخضع التقييم لشرطي السياسة والموقف من الصراع مع الصهيونية العالمية ، فضلا عن النظرة العنصرية الواضحة ، وسبقتها جائزتا الدولة في مصر : التشجيعية في 1957، والتقديرية في 1968 ، ووسام الجمهورية من الدرجة الأولى 1969 ، ثم قلادة النيل ، ثم جائزة مبارك 1999.
ما قدمه محفوظ إنجاز مؤسسي بكل تأكيد ، لكن هذه المؤسسة ، شأنها شأن غيرها من المؤسسات الاجتماعية أو الفكرية ـ بافتراض وجود مثل هذه المؤسسات في عالمنا الثالث ـ ظلت محدودة التأثير في الجماعة الإنسانية رغم غزارة الإنتاج، وقد يفتح هذا مجالا لدراسات أراها مطلوبة للوقوف على أسباب هذا الخلل في التفاعل المجتمعي مع هذه المؤسسات بما يطرح أسئلة على المستويات الثقافية والسياسية ،بل والأمنية كذلك ، ويوقفنا أيضا ـ شئنا أم أبينا ـ على قوانين ( السوق الثقافية ) وآليات التسليع التي تتعامل مع المنتج الإبداعي وفق قوانين العرض والطلب ، والاعتماد على الحملات الإعلامية الترويجية ، رغم أن محفوظ ـ على سبيل المثال ـ قد أفاد من هذه التسليعية الإنتاجية عبر علاقة أدبه بالسينما ـ إذا جاز توصيفها كإحدى الآليات الترويجية خصوصا في هذا العالم الثالث الذي يصرون المنتمون إليه ولا أدري لماذا ؟!
إن بعض المقولات التي تجذرت داخل التربية الثقافية العربية بل والأجنبية معا ، قد تجد نفسها في اختبار مصيري بعد أن حاولت نماذج إبداعية ومبدعون عالميون مثل ماركيز ، ومحليون عالميون مثل محفوظ، اقتلاعها من جذورها لتعلق في هواء وتتأرجح على ماء ، ومن هذه المقولات : العلاقة بين الأدب والإبداع من جهة ، والمعاناة الاجتماعية ولوازمها من فقر وضنك وشظف العيش من جهة أخرى ، حتى خلنا أن الفقر هو المولّد الحقيقي للإبداع ، وحاول ماركيز إثبات أن هذه المقولة تحمل من جينات الكذب ما يعجز كل علماء الهندسة الوراثية عن تنحيته ، وقد ناقش الكاتب الكولومبي الكبير هذه المقولة الزائفة أكثر من مرة وأكد أن الفقر عبء على الكتابة والإبداع لامحفز عليهما .
ومن المقولات كذلك .. ذلك الربط ، وهو مايعنينا في الحالة المحفوظية، بين ماسمي بحالات الإلهام والوحي ـ على اختلاف درجاته ـ والكتابة ؛ فقد أثبت المتن المحفوظي أن الأدب والكتابة عملية إنتاجية صناعية مبرمجة ، تخضع لآليات الإنتاج الصناعي من تنظيم مواعيد فتح وإغلاق المصنع ، وتجهيز الخامات ، ودراسة الجدوى ، وتنوع البضائع ، والبحث عن سوق ، ومباعة بعضهم يستند إلي ( فاترينات ) ملونة وآخرون جائلون يجوبون الأزقة ، فضلا عن ثقافة الإعلان والترويج بكل شروطها الرأسمالية.
كما لفتت التجربة إلى أن الكاتب ـ كما أكد ماركيز ومحفوظ ـ يستطيع بدء الإنتاج وقتما شاء دون الوقوع في مايردده عامة الأدباء الذين يركنون ـ في قناعة شبه مؤكدة ـ إلى ضرورة توافر ظروف محددة، وطقوس معينة للجلوس إلى مكاتبهم لممارسة الفعل النبيل ، فعل الكتابة ، ورغم ميلي الشخصي إلى التشكيك في هذه الاصطناعية المحفوظية ، فإن التجربة ذاتها تثير عددا من الأسئلة حول هذه القضية دون أن يدعي أحدنا أن لديه اليقين الصارم بإجابة حاسمة على السؤال الصعب .. سؤال الكتابة .