خيوط بوكبة ينسجها عبد الرزاق بوكبة
ثورة شهرزاد
بقلم :عبد الرزاق بوكبة
إلى روح خوان غويتيسولو
[1]
من طقوسي أن أحتفل باكتشاف مسلسلٍ مبدعٍ، في فضائيةٍ من الفضائيات. وهذا ما فعلته علياء ونجمة، عشيةَ اكتشفتا مسلسل “ألف ليلة وليلة”، في صيغته الكرتونية، على قناة “سي. آن” العربية. وقد زاد تعلّقهما به، بعد أن شرحتُ لهما سياقات الحكاية.
[2]
حملهما شغفُهما بالمسلسل، على أن تدعوا جارَهما “رياض”، إلى أن يشاركهما المتعة. وإلى إخراج الصّغيرة مريم، حتى لا تشوّش على سفرهم في الخيال.
ــــــــــــــــــــــ
شريط الذّاكرة
ـــــــــــــــــــــ
اكتشفتُ كتاب “ألف ليلة وليلة”، صدفةً، نهاية ثمانينيات القرن العشرين. في قريةٍ موغلةٍ في العزلة والحكايات، التي كانت تمنح الجدّةَ سلطةً خاصّةً، وتتوّجها سيّدةً على الليل والأسماع. أي أنّ كتاب الحكاية الأوّلَ “ألف ليلة وليلة”، دخل عالمي وأنا مدجّج بروح الحكاية أصلًا.
كانت قرية “أولاد جحيش”، عام 1967 قد قرّرت أن تبني جامعَها، مستقلّةً عن قريةٍ مجاورةٍ كانت تملك جامعًا. وقد تكفّل بمصاريف البناء والتأثيث، عمالُ القرية المهاجرون في فرنسا. ولا أدري، إلى غاية اليوم، من الذي أرسل، الكتب التي شكّلت مكتبة الجامع. مصاحفُ وكتبٌ ليس موضعَها، في العادة، مكتباتُ الجوامع. كتاب “الأمالي” لأبي عليٍّ القالي، وكتاب “كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفع، وكتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربّه، وكتاب/ كتب “ألف ليلة وليلة”.
كان عمري اثني عشر عامًا، حين شرعت في التهام هذه المكتبة. إذ كنت أترك الأشغال كلّها وأهرب إليها. وهو ما كان سببًا في أن أحظى بوجباتٍ دسمةٍ من الضّرب والتّعنيف، من طرف الجدّ والأب. إذ كانا يرفضان أن أترك الحقل أو المرعى، وأنزوي لأقرأ كتبًا أكبرَ من سنّي. تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ القرويين كانوا يُعاملون هذه الكتب على أنّها مقدّسة، ويُقسمون عليها عند النّزاعات. فهم لا يقرؤون ولا يكتبون، ويرون أنّ كلّ مكتوبٍ هو قرآن عظيم.
لم أزل، إلى غاية اليوم، أتذكّر تلك الرّهبةَ، التي كنت أشعر بها، وأنا أفتح البابَ الخشبيَّ للجامع، فيحدث صوتًا يحفر في تربة الرّوح. أذكر أصابعي وهي تزرقّ من البرد، عاكفًا على القراءة في الجامع المعزول. أسمع صوتَ الجوع، مفضّلًا إكمال الكتاب، على العودة إلى البيت لأنال لقمةً.
نسيتُ لحظاتٍ كثيرةً حدثت في حياتي. لكنّني لم أنسَ أوّلَ مرّةٍ اكتشفتُ فيها جسدي/ أوّلَ مرّةٍ التحقتُ فيها بالإذاعة/ أوّلَ مرّةٍ لمستُ فيها كتاباً منشوراً/ أوّلَ مرّةٍ واجهتُ فيها “ألف ليلة وليلة”، في مكتبة الجامع.
نظرتُ إليه/ نظر إلي. ابتسمتُ له/ ابتسم لي. مددتُ إليه يدي/ مدّ إليّ يدَه. نسيتُ نفسي/ نسيتُ بردَ الأصابع/ نسيتُ الخوف من جدّي وأبي/ نسيتُ لغتي الفصيحة الصّارمة، التي تعلّمتُ أنّ الخطأ فيها، هو خطأ في حقّ كتاب الله. وكانت المرّةَ الأولى، التي أتذوّقُ فيها عسلَ الخطأ، وأكتشف أنّ هناك لغةً خاصّةً بالأرض، مثلما هناك لغة خاصّة بالسّماء.
لم يكن مسموحًا بإخراج الكتب من الجامع، لكنّني أخرجتُ “ألف ليلة وليلة”. لإحساسي بأنّه كتاب الهواء الطلق، ولا يُقرأ بين الجدران المغلقة. فقرأته في الغابة والوادي والسّهل والتلّة والجبل. تمامًا مثلما كان يُسافر السّندباد فيه بلا ملل. لقد صادقتُ كائناته واتخذتُ منها عائلةً جديدةً.
عدتُ، قبل مدّةٍ، إلى القرية. فلم أجد الجامع القديم، لقد هدموه وأقاموا، مكانه، مسجدًا جديدًا. سألتُ عن أمّي المكتبة، فقيل لي إنّها أزيلت، بحجّة أنّها كانت تضمّ كتبًا لا علاقة لها بالدّين. فتّشت في المكتبة الجديدة، فلم أجد غير سيّد قطب يُحرّم الخروج على حكايته. شعرتُ بالاختناق، فانطلقت إلى الخلاءات، التي قرأتُ فيها “ألف ليلة وليلة”، وأطلقتُ صرخةً ردّدتها الأمكنة: شهرزااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااد.
ــــــــــــــــــــــــ
كهرباء اللّحظة
ـــــــــــــــــــــ
[3]
ما بال صراخ الطّفل رياض مهيمنًا في الصّالون؟ ما باله مقيّدًا فوق الكرسي؟ ما بال علياء تحمل سيفًا خشبيًّا؟ ما بال نجمة تضع قماشةً على عينيه؟
أنا: ما هذا؟
علياء: قرّرنا أن يكون هو شهريار، وأكونَ أنا شهرزاد. وظهر لي أن أقطع رأسَه بالسّيف، حتى أستطيع أن أحكي من غير خوف.