أكثر من ثلاثين سنة، وأنا أنصت إلى مختلف الخطابات الأدبية في ممكناتها الإبداعية، وفي تحوّلاتها، وأنصت إلى الخطاب النقدي في طاقاته العارفة، ورهاناته المغامرة في التحوّل، وهي تمرّ من تصحيح المسار إلى اقتراح البدائل. ولم يكن هذا الإنصات خارج الشمولية المعرفية، والكلّيات النسقية التي تشكلت، لتستوقفني المفاهيم التي هي معالم بحسب محمد مفتاح، إلاّ أنّ بعضها أُفرغ من حمولاته، لكثرة استعماله. ويمكنني أن أصفها بالمفاهيم الميّتة الأشبه بالأطراس الممسوحة؛ كمفهوم “الناقد” الذي كان شاملاً ومتجاوزاً الزمان والمكان، فقد كان في التراث العربي، وبقي مستقراً إلى الآن، كما كان في التراث العالمي، واختزل فيما بعد كل جهود المدارس النقدية.
وظل هذا المفهوم يصاحب كل الأنساق التي تشكلت في التاريخ التكويني للخطاب النقدي، في تحوّلاته من مركزية السياق إلى مركزية النسق، ثم مركزية النسق المفتوح والمتعدد، وظهور مفهوم “القارئ” الذي لا يمكنه أن يكون شاملاً، لأنه يحيلني على مرحلة نظريات القراءة والتأويل فقط.
ثم إنّ التحوّلات التي عرفها النقد في نهاية الألفية الثانية، وبداية الألفية الثالثة، تسير نحو المعرفة المركّبة التي تشمل التخصصات البينية، فظهر النقد المعرفي، والنقد الثقافي الذي لا يمكنه أن يعوّل على مهام “الناقد” المحدودة.
وقد مرّ النقد على حقب مفصلية؛ من مرحلة الحداثة، إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي زحزحت المركزيات، وعوّلت على التفكيك والتقويض، فلا يعقل أن يبقى مفهوم “الناقد” – مع كل هذه الرهانات – مُعوّلاً عليه، لذا سأتبنّى ما ذهب إليه الناقد البريطاني رونان ماكدونالد (Ronan- Mc Donald) في كتابه “موت الناقد”( )، وهو موت مجازي. ولم يعد النقد من مهام المتخصصين الأكاديميين فحسب. كما أنّ انصراف النقد إلى التخصصات البينية جدير بأن أنتبه إليه، وخاصة أنّ الخطاب توسّع ليشمل الخطابات اليومية كذلك.
ولكي أخرج من مأزق موت المفهوم، يمكنني تجديده، بخلق( ) وظائف جديدة له مع تحديدها، لهذا حددت له وظيفة جديدة، من خلال العنوان الأساس “الإنصات إلى مختلف الخطابات”، وسأوضح أهمية الإنصات في أوانه.
إنّ الناقد لم يعُد يملك رؤية محددة، بل رؤى متعددة ومتنوعة، تمليها عليه مختلف الخطابات، وهنا يمكنني أن أتحدث عن ديناميكية الناقد، بمشروعه المتكامل. فكيف له أن ينخرط في الخطاب؟ ولا شيء غير الخطاب؟ وكيف يحاول أن ينصت إليه من جهة ما أو من جهات كثيرة يمليها عليه هذا الخطاب بالذات؟ وكل جهة بالنسبة إليه تمثّل رؤية ما، ومفاهيم تمليها عليه تلك الرؤية، فيتبنى طرحاً متوائماً معها.
عندما أتوقف حتى أتأمل مختلف الوظائف التي أسنِدتْ إلى الناقد، عبر كل الأزمنة، أكتشف ذلك التحوّل المتواصل حتى وصل إلى هذا الموت المؤقت، فالناقد في المناخ العربي انتقل داخل وظائف متنوعة، حتى الناقد في التراث لم يكن ثابتاً، معوّلاً عليه من أجل أهداف محددة، بل كان متعدداً، أو متنوعاً يتملص كل مرة من مهامه التي حُددت له، فما بالنا بالناقد الحديث والمعاصر الذي وفدت عليه مختلف النظريات والمناهج التي تراكمت وتصادمت في بعض طروحاته؟ وبقي يراهن على معرفة مركّبة تحتاج إلى وعي بالصيرورات، ويغامر في فهم المعرفة الوافدة التي هاجرت من مناخ إلى مناخ آخر، حتى يتسنى له تقليم ما يستقبل، بحسب ما يحتاجه.
ولكي تتضح مهام الناقد أكثر، أقف عند مفهوم الإنصات. أنصتَ يُنصِتُ إنصاتاً، ورد في لسان العرب« يُنصِتْنَ لسَمْعٍ أي يسْكُتن لكي يسمعن. وفي التنزيل العزيز: وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا. قال ثعلب: معناه إذا قرأ الإمام، فاستمعوا إلى قراءته، ولا تتكلموا، والإنصات هو السكوت، والاستماع للحديث (..) وأنصت الرجل ينصت إنصاتاً إذا سكت سكوت مستمع (..) وأنصت الرجل للهو: مال. عن ابن الأعرابي »( ).
في هذه التحديدات أنتبه إلى عمليتين مهمتين في الإنصات هما: عملية السكوت، وعملية الاستماع اللتين تنتجان عملية الانتباه. لذا ورد في معجم المعاني الجامع« أنصت الشخص إلى معلّمه، أحسن الاستماع إليه، أصغى بانتباه »( ).
من خلال هذه المعاني اللغوية، ندرك أن الإصغاء نشاط وفاعلية ذاتية، فيها الاستماع والانتباه في آن واحد. والاستماع فيه السكوت، وهذا يعني الإصغاء. كل هذه المعاني جعلتني أختار كلمة الإنصات إلى الخطابات بدل النقد. ولو أقارن بينهما ستتضح بعض الأهداف التي جعلتني أنتقي الإنصات؛ فالنقد نشاط عقلي، وفاعلية تعمل من أجل وظائف محددة تغيرت وفق الحقبات، بينما الإنصات فهو نشاط عقلي، لأنّ فيه الانتباه، وفاعلية روحية، لأنّ المنصِت سينصت بحواسه هو، وبروحه الخاصة، وكأن الإنصات سيحوّل النقد إلى إبداع عندما ينخرط في حواس كل ذات ناقدة. وهذا قد ينقذ النقد من الصرامة المنهجية، ومن الإسقاطات التي قتلت الخطابات، وحوّلتها إلى تمارين تطبيقية دون روح ذوقية.
وعليّ أن أوضح أن لكل منصت عالمين: العالم الخارجي، والعالم الداخلي؛ فالعالم الخارجي يجعله يشترك مع العام؛ أي المُنصِتِين الآخرين في مجموعة من الخصائص، في إطار علاقات جامعة بينه وبين بقية المنصتين الذين ينتمون إلى زمان ومكان محدّدين، وهذا ما يمنحه الكينونة المعرفية المشتركة، أو العالم الداخلي الذي يمنح للمنصِت الخصوصية والتميّز والبصمة الفردية.
ويعبُر المنصت من المشترك المعرفي المُعمَّم الذي يحدد أوّليات التفكير النقدي لحقبة معيّنة، التي تمنحني تصور الانتماء، وتمرّ إلى عالمه الخاص الذي يمنحها الخصوصية، وهنا يتشكل الإنصات الخاص، ويكون المنصت في ديناميكية مع عالمه الخاص وبصمته القرائية.
أن أُنصتَ إلى الخطاب، يعني أن تستيقظ فيّ الحواس القرائية الملتقِطة للخطاب، وأتسلل إلى الأصوات الداخلية فيه، وأتكلم نيابة عنها، وأتكلم نيابة عن الذات التي أنتجت الخطاب، وأعيد تشكيل مقولها؛ فالمُنصِت والخطاب ركنان مهمّان غير بسيطيْن، ومن ثمّ، لا يمكنني أن أوسّع في العلاقة الديناميكية بينهما، قبل أن أحدد مفهوم الخطاب.
لقد تعددت تعريفات الخطاب، وتنوّعت مفاهيمه، بتعدد المرجعيات المعرفية التي اُستُند إليها، والمدارس اللسانية التي اُستُقي منها، ومختلف نظريات تحليل الخطاب المتشعبة، واتجاهات النقد المختلفة. لذلك عليّ أن أنتبه إلى هذه التشعبات التي قد تمنح الموضوع ضبابية أكثر من الإغناء الذي أتوخاه منه، فأحدد – إذن- المعنى اللغوي الذي سيوجّهني؛ ففي لسان العرب نجد« خطب فلان إلى فلان، فخطبه أو أخطبه أي أجابه. والخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان..»( ). ويذهب الخليل إلى أنّ« الخطب: سبب الأمر (الذي تقع فيه المخاطبة). والخطاب: مراجعة الكلام (تبادله بين اثنين أو أكثر). والخطبة مصطر الخطيب »( ).
تحيلني هذه المعاني اللغوية على أنّ الخطاب يحدث بين طرفين، والخطاب فيه مراجعة الكلام. واصطلاحاً يقول الجاحظ نقلاً عن عمرو بن عبيد:« أنّ إذا أوتيت تقرير حجة الله في عقول المكلّفين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحبة في الآذان، والمقبولة على الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة، كنتَ قد أوتيتَ فصل الخطاب »( ).
كأنّ هذا التحديد يقدّم شروط التخاطب التي تحقق التواصل الجيد بين متخاطبيْن، لذلك لا يمكن أن أغفل هذه التحديدات التي كان لها تأثير واضح في مفهوم الخطاب عند العقل النقدي العربي، والذي تأثر أيضاً بمفهوم الخطاب في العقل النقدي الغربي.
وقد ذهبت الدراسات اللسانية الغربية الحديثة إلى أنّ الخطاب هو “الوحدة اللغوية المكتملة” التي تتجاوز الجملة إلى أكثرها. ومن ثمّ، كان تحليل الخطاب عندهم يدرس العلاقات القائمة بين الوحدات اللغوية في أيّة لغة( ).
وتوسعت الجهود الغربية التي أغنت تحليل الخطاب، وخصوصاً مع جهود زليغ هاريس (Zellig Haris) الذي عرّف الخطاب بأنه يتجاوز الجملة؛ فهو« “ملفوظ طويل”، أو عبارة عن “متتالية من الجمل” تكوّن مجموعة منغلقة، يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجية التوزيعية، وبشكل يجعلنا نظل في مجال لساني محض »( ).
هكذا يتسع الخطاب، ويتجاوز الجملة. وقد كان لجهود إميل بنفينيست (Emile Benveniste ) بالغ الأثر في توجيه دراسات الخطاب من جهات متعددة، كأنْ يرى أنّ« الجملة ليست علامة، وإنما وحدة من وحدات الخطاب التي لا نستطيع اختزالها في تسلسل مكوّناتها، ولكن بما تُحمّل من وظيفة الإسناد؛ أي من جهة هي علاقة مع ما تحيل عليه، ومن جهة أخرى هي قول لمتكلّم »( ).
وإذا أردت التوسع في مفهوم الخطاب، وفهم مراحل تطوره، يمكنني العودة إلى معجم تحليل الخطاب لباتريك شارودو (Patrick Charaudeau)، ودومينيك مانغونو(Dominique Maingueneau) الذي فصّل في مراحل مفهوم الخطاب( ).
هكذا أكون قد حددت المبتغى، وعندما أربط بين عملية الإنصات وبين الخطاب، سأنظر إلى الخطاب من زاوية بول ريكور(Paul Ricoeur) الذي يرى أنّ« كل خطاب يُنتَج باعتباره حدثاً، إلاّ أنه ينقاد للفهم، باعتباره معنى »( ). ثم إنّ الخطاب، لا يُخاطِب من موقع محدد، بل يخاطبني من ذات لها خصوصياتها، وتنتمي إلى جماعة إنسانية، وإلى حقبة تاريخية.
إنّ الذات المنصتة هي القادرة على أن تملك قدرة المشي، وتكون مشاءة تنتقل من الإنصات إلى الخطاب، ثم الخروج منه، كما تنتقل من الرؤية البصرية للكتابة إلى الرؤية السمعية حتى تلتقط الأصوات المتحدِّثة.
ويتم التفاعل بين صاحب الخطاب والمنصِت إلى درجة أن يرى المنصِتُ صاحبَ الخطاب، ويستمع إليه دون أن يطلب فهماً نهائياً، في الوقت الذي يجب عليه أن يُجيد الإنصات، وهذا ما يمكنني أن أسمّيه مصاحبة الخطاب، والتي تتم عبر مراحل هي:
– الدخول إلى الخطاب، وقبول التشارك بين المنصت والخطاب، وكأنه اللقاء الأول، أو الالتقاط الأوّلي للإنصات.
– الاستعداد المعرفي والفكري لكلّ ما يستدعيه الخطاب، وتعمد الذات المنصتة إلى فرزه داخل ذخيرتها، لأنّ الخطاب يحتاج إلى تلك العُدّة وليس غيرها، مع الحرص على الإنصات إلى ذلك الخطاب، منه وإليه، حتى لا يقع تعنيفه، بعُدّة معرفية لا تلائمه؛ كعملية تطبيق المنهج بحذافيره كهدف، وليس كأدوات أعوّل عليها بكل ذكاء، فلا إنصات يتشابه مع آخر، لأنّ الخطابات مختلفة.
إنّ الإنصات هو عملية الالتصاق بالخطاب حسياً، لهذا أسميتها مصاحبة، والاقتراب من مداخله، ثم بؤره، وهو فعل لقاء مغامر، أنصتُ (أنا) بمعنى اشتغال الأذن الداخلية، أو الأذن الثالثة، لأنها أذُن لذات منصِتة مثقفة، وتتحرك داخل معرفة مركّبة لها حساسيتها الجمالية وخصوصياتها، حتى وهي تغامر. بهذا يكون الإنصات لقاء بين أذُن المنصِت وحواسه الداخلية المفتوحة، وبين عالمه المعرفي، وذوات الخطاب وأصواتها. إلاّ أنه لقاء بنشاط ديناميكي غير نهائي.
وكل إنصات هو مشروع مقاربة خاصة واستثنائية، لا تنشد النهائي، لأنه مؤجل دائماً، فلا يوجد إنصات ختامي، إذْ هو مغامرة دائمة؛ لا الذات المنصِتة ترتوي تمام الارتواء، ولا الخطاب يتنازل عن كل مفاتنه. فمع أن الإنصات نشاط ديناميكي، يتطلب التجاوب والمشاركة والتفاعل، فهو فعل متعدد، إلاّ أنه لا يحقق ما قاله الخطاب كما هو، لأنه مرتبط بالأذن والحس، وبذات صاحبه المتحوّلة، الذي قد يتجاوز مكانه وزمانه.
لتتشكل خصوصية الخطاب من مرجعياته المخاتلة، التي لا يمكنني القبض عليها، مهما بدا بريقها وحضورها، لأنها عندما تُعجَن ببنيته الكلّية النصية تصبح ظلالاً للمعنى، فهي مشروع المبدع الذي ركّبه في سرّيته، التي ربما لم يعها حتى المبدع نفسه، ويمثل ولادة لصوت الذات المبدعة، ولعوالمها الداخلية الرهيبة،« فكل عمل فني يبني أسطورته الخفية والمعلنة؛ أي يبني فنّيته ودلالاتها بدمار المرجع »( ).
هذه الطاقة المتسربة إلى الخطاب، وهي متعددة المناحي، لا بدّ أن تقابلها طاقات الناقد المنصِت؛ منها القدرة على “مَفْهَمة العالم”، ويعرف كيف يسائل الخطاب، ويتحاور معه وفق مراحل متتابعة، من مرحلة التعارف الأوّلي إلى مرحلة التعاطي معه، والدخول إلى مساربه. وهنا يتمّ اختبار الوعي، والإدراك عند الذات المنصِتة. إلى جانب الوعي باختلاف الخطابات، وتنوع الأجناس، إذ يمكن الإنصات إلى عوالم السرد، والذات المنصِتة تستحضر عوالم الشعر، لأنّ الوعي بالجنس الأدبي في الخطاب أهمّ مرحلة للمصاحبة الحقيقية بين الطرفين، حتى عندما يحدث التعابر الأجناسي والتفاعل، فعلى المنصِت أن يقدر على فهم السمات المهيمنة التي توجّه عملية الإنصات، إضافة إلى البُعد المعرفي، الذي لا بد أن تمتلكه الذات المنصتة، وهي تصاحب الخطاب؛ كمعرفة كل المناهج مع نسيانها في الآن نفسه، مثلما كان يفعل الشعراء القدامى، فهم يحفظون الأشعار، ثم ينسونها، حتى تتحوّل تلك الأشعار إلى رصيد لغوي وفنّي. فلماذا المعرفة ثم النسيان؟ لأنّ المناهج إذا حرصنا على تطبيقها بحذافيرها، فإنها تجرّنا إلى عملية إسقاطية لا جدوى منها، ثم إنّ المنهج يملي علينا الرؤية من جهة ما دون غيرها، فيتحول النقد إلى رؤية قاصرة تتحرك باتجاه واحد، وداخل مفاهيم صارمة، لذا فنسيان المناهج يولّد طاقات غير متناهية، وعُدّة خصبة. فعندما ينصت الناقد خارج المنهج، تكون عملية الإنصات منطلقة من الخطاب وعائدة إليه، ويستثمر ظلال تلك المناهج بطريقة ذكية تخدم الخطاب فقط، والخطاب لا غير.
عندما أقول البعد المعرفي في الذات المنصتة، قد يذهب التفكير إلى فهم الشمولية المعرفية لحركة النقد، واستيعاب المنعطفات الكبرى التي حوّلت الرؤى داخل تاريخ الأفكار، والوعي بالمفاهيم الرئيسة، واستيعاب العُدّة الاصطلاحية اللازمة.
ولا يمكن أن نفصل هذه العملية عن المناخ النقدي الذي ذهب إلى التخصصات البينية، لأنّ الزمن هو زمن المعرفة الشاملة خارج التخصص الأحادي، لذا وجب على هذه الذات أن تتثقف بالعلوم التي قد تخدم النقد؛ كالفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع…إلخ
ولا يمكن أن أغفل أيضاً طاقة الرؤية عند الذات المنصتة، فـ”الأنا أنصت” هي في الوقت نفسه “الأنا أرى”، فعندما تُنصت الذات وتنخرط في فهم الخطاب، وتمرّ على تلك المراحل التي ذكرناها سابقاً، تكون بهذا قد اختارت رؤيتها في مشروعها الإنصاتي. وعندما تُعوّل الرؤية على تبئير ما، فهذا يدل على استيعاب للجهة، والحركة داخل تلك الجهة تحتاج إلى وعي عارف، لأنّ الجهة تتطلب حركة داخل مفاهيم واضحة في شمولية الرؤية.
يسعى الخطاب الأدبي إلى التلبّس بالدهشة، والاحتفاظ بأسراره، وبلا محدودية دلالاته، وذلك عن طريق الفنيات والجماليات المختلفة، فتتشكل طبقات المعنى فيه، وتعمل الذات المنصتة كفاعل عبر مسار الدلالة، باشتغال إنصاتها مستندة إلى رؤيتها المتشكلة من حسها وخيالها وذوقها، ومن المرجعية الثقافية والمعرفية التي تستند إليها بكل مخزونها، حتى يتسنى لها استيعاب بعض طبقات المعنى، وتتمكن من بعض أسرارها في مغامرة تبئيرات الرؤية.
إنّ الإنصات إلى الخطاب نشاط ديناميكي رفيع، يشتغل في التجاوب والإجابة والاستجابة والتجاوز؛ فهو مبني على التعدد، لأنّ الإنصات حسّ، والحسّ مرتبط بالذات، والذات ذوات، كما أن الذات منقلبة ومفتوحة دائماً. وهو فعل متواصل وغير مستقر، لأنه يجعل الذات مستمرة في تجاوبها، وفي تمثّل وعيها بتحوّل؛ فكل إنصات هو استحضار للإنصاتات السابقة، وهو مغامرة لاكتشاف مسارب أخرى، يراهن عليها ذلك الإنصات، فهو فعل مستمر، يختار طرقه المتنوعة، ويرجئ نهائيته، لأنّ الذات المنصتة متحوِّلة الرؤية، حتى وإن كانت منتمية إلى زمان محدد ومكان معلوم.
إنّ ما يميّز الرؤية هو التعدد، لذا أطلقت صيغة الجمع “رؤى” نقدية في العنوان الرئيس، ثم إنّ الرؤية لا تعني الفهم حتماً، لأنه قد يكون عاهة عندما يتحوّل إلى سلطة، لذلك أطلقت صيغة “رؤى” بالجمع، ليتحوّل الفهم إلى أفهام، وتتكوثر الرؤى، كما تتكوثر الخطابات.
ورغم أنّ الرؤية النقدية رؤية فردية، لكنها قائمة على ذخيرة معرفية لمنظومة ما، تنتمي إليها تلك الذات المنصتة التي اختارت تلك الرؤية دون غيرها، في انتقائية واعية.
تتطلب الرؤية مكوّنات متجانسة، فلا يمكنها أن تتحرك داخل حقل معرفي ما، وهي تستند إلى جهاز مفاهيمي ليس منه؛ كأن تتحرك داخل حقل الثقافة، وتعوّل على مفاهيم خارجها، إلى جانب الشمولية والكلّية. فرغم أنني أستطيع تهشيم عناصر الرؤية إلى وحداتها، إلاّ أنها تتكامل فيما بينها، لذلك فهي رؤية جشطلتية ترى الكل ثم الجزء، بتبصّر معرفي.
وعندما تتجه الرؤية إلى الخطاب تؤمن بالتيه، وتتملص من المنهج، لأنها لا تبحث في الأجوبة عن الأسئلة، بقدر ما هناك شهوة الفهم غير النهائي، لأنّ ألَقَ السؤال يكمن في المغامرة في أسئلة جديدة. وهكذا تكون المعرفة التناسلية؛ فالإنصات هو محاولة الفهم وعدم الفهم في الوقت نفسه، لأنه عملية دائمة لا تتوقف عند التحاور مع خطابات كتومة، بل تتعداها إلى خلق آفاق أخرى، وتحاورات مختلفة.
ومن خصائص “الأنا أرى” التغيّر عبر الزمن، وعبر المرئي، ما تراه الذات المنصتة في زمان ما، وفي صورة ما، ليس نفسه ما تراه في زمن آخر؛ فهي رؤية متحوّلة، فما بالنا عندما تتجه إلى خطابات مختلفة؟ ثم إنّ هذه الذات هي الفرد، والشخص، والجسد، والنفس، من خلال كل هذا، وبهذا ترى، فالرؤية رهينة ذات خاصة بخلفياتها، وقناعاتها، والثقافة التي تنتمي إليها، وكل عالمها المعقد.
وللرؤية شروطها، فليست كل رؤية تمدّ النقد بطاقاتها، لذا يجب أن يتوفر فيها الوعي الجمالي الذي سيحرك ذوقها، وليس غيره. فكل رؤية يمكنها أن تستوقفني حتى أحدد المنحى الجمالي الذي تبنّته. وإلى جانب الذخيرة المتسعة، فالرؤية تستند إلى خلفيات معرفية مركّبة ومعقدة، وهي تختار مساربها التي يقدر المتتبع لها أن يفهم خبرتها الجمالية، مع عدم تجزيئية الرؤية، لأنها تتحرك داخل الشمولية المعرفية، حتى عندما تعْبُر إلى التفاصيل فهي تحدد الكلّية الرؤيوية. نضيف إلى هذا كله الوعي بالصيرورات الكبرى، أو اللحظات المفصلية في حركة النقد.
وأثناء مصاحبة الرؤية للخطاب، وتشكل التفاعل الجاد، تحتاج الرؤية إلى الصبر وتؤدة التبصر، لأنه لولا الصبر ما حدث الارتقاء في الإنصات الذي لا يتم دفعة واحدة، وإنما عبر مراحل حُدّدت سابقاً. وعليّ أن أنتبه إلى أن صبر الإنصات في الرؤية، قد يجعل الذات المنصتة ترفع رأسها أثناء الإنصات، وهي تستحضر معرفة ما، وقد تتذمر من كل ما أنصتْتُ إليه، فتنتج رؤية معاكسة، فالصبر يمنح الرؤية مهارات مصاحبة للخطاب.
ويجب على الذات المنصبة التي تملك رؤيتها، أن تملك معها روح المجازفة لتخطّي المعلوم، والانفصال عنه، لأنّ القبول التام بما تنصتُ إليه سيجعل الرؤية محنّطة، لهذا لا بد من الذهاب – بمصاحبة الخطاب – إلى عدائية تُغنيها، وتجعلها تثرى بأصوات أخرى مغايرة، حتى يتمّ فهم صوت الخطاب جيداً.
إلى جانب امتلاك الرؤية الوعي بالزمن، إذ لكل زمن رؤاه ونقده، فقد تنخرط هذه الرؤية في الحساسيات الجمالية لزمن ما، وقد تنفصل عنه، لأنها تجتهد في قدر مستقبلي، تصل إليه بنبوءة اجتهاد الوعي، حتى يقدر على استشراف المستقبل، وهنا تصبح الرؤية تملك الإنتاجية الغنية.
والإنصات هو فاعلية أيضاً، وهذا ما تسعى إليه اجتهادات القد التي حملت مشروع تجاوز الأزمة، وانفتاح الآفاق النقدية بنقد إبداعي خلاّق حتى يتمّ له ترميم اختلالات الرؤية النقدية؛ كالرؤية بعدسة محدبة، والرؤية بعدسة مقعرة إلخ…
لقد انتبهتُ – وأنا أنصتُ إلى تلك الخطابات – إلى ضرورة إعادة النظر في وظيفة الناقد، التي مُيِّعتْ، وأصبح المبدع نفسه يسخر منه، ويراه أشبه بقزم يحاول أن يقبض على خطابه، وهو يقف على أرض زلجة، فيقع أرضاً ويتحوّل إلى مهرّج يثير الضحك. والسؤال المهماز وراء كل هذا هو: كيف يصبح النقد فنّاً للإنصات؟
حاولتُ – وأنا أنجز هذا الكتاب – أن أحوّل الإنصات إلى فاعلية إنتاجية خارج صرامة المناهج، وأن أُصاحِب الخطابات مصاحبة تفاعل، لا مصاحبة استنطاق، فتخلصتُ من سلطتي، وتحوّلتُ إلى طرف فاعل، لأنّي آمنتُ بما قاله عبد الفتاح كيليطو:« من أجل أن تكون قارئاً، عليك في لحظة ما أن تتخلص من الأستاذ، وقبل الأستاذ، عليك أن تتخلص من المعلّم (..) صورة المعلّم كما نفهمها بالمعنى الرمزي الفرويدي »( ). وما هذا التخلص من نخبوية المنصِت إلاّ إعادة الاعتبار لفنّ التذوّق، والمصاحبة العارفة بالخطابات، لأنّ سلطة المنصِت لا بد أن تتحوّل إلى فاعلية ذكاء المصاحبة، لا القسرية، وتطبيق المناهج كمتعاليات تعنّف الخطابات أكثر ممّا تسعى إلى الإنصات إليها، وهذا ما أَدْخلَ النقدَ مأزقَ الإفلاس.
وحتى أتجاوز هذا الإفلاس، وأعيد للنقد أَلَقَه، عليّ أن أفكّر في مشروع تنظيري ينتبه إلى وظائف الناقد المنصِت، وكيف يتحوّل النقد إلى إبداع على إبداع، وهذا ما يفتح سبل نقد النقد الذي حرص عليه النقد الغربي، وفي كل مرة يقترح بدائله. وقد استوقفني آخر ما وصل إليه نقد النقد في أطروحة أحد تلامذة جيرار جينيت، وهو فلوريان بينانيس() الذي اقترح شعرية النقد الأدبي، وأجد ما طرحه قريباً من طرحي الذي يسعى إلى كيفية تحوّل النقد إلى فن الإنصات إلى الخطابات؛ ففي كتابه شعرية النقد الأدبي« يدافع هذا الكتاب عن النقد بوصفه جنساً من أجناس الأدب، فكما يتحدث عن شعرية الشعر، وشعرية الرواية، وشعرية القصة القصيرة، وشعرية المسرحية، من الضروري أن نتحدث، في رأي المؤلف، عن شعرية النقد الأدبي، وأن نعيد النظر في تلك التصنيفات المدرسية التي تفصل بين الأدب والنقد، وكأنّ النقد ليس أدباً، وتفصل بين الكاتب والناقد، وكأنّ الناقد لا علاقة له بالكتابة »( ).
وعندما يُقرّب بينانيس بين الأدب والنقد، فهو يبحث عن سبيل لكي يتحوّل النقد إلى طاقة إبداعية، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى جهود حثيثة، وإلى مشروع متكامل. وعندما أجرى الصحفي فرانك واجنر مع بينانيس حواراً يضيء فيه بعض القضايا المهمة التي طرحها في كتابه؛ كتصنيف عمليات ما وراء النص التي نكتب من خلالها نصاً على نص آخر، وقف عند نقطة مهمة هي كيف تجعل من الناقد أنموذجاً مقلوباً للمؤلف( ). ومثل هذه الجهود وأخرى يمكنها أن تفتح على الناقد مآلات تحوّله إلى طاقة جديدة، بها يستعيد مكانته، لأنه لا يمكن للخطاب أن يستغني عن النقد، لذا حاولتُ أن آخذ – في هذا الكتاب – النقد إلى فتّ للإنصات.
وحسبي أنّي غامرتُ فيما استعطتُ إليه سبيلا.
راوية يحياوي
تيزي وزو في جويلية 2020