مـــس مــــن الحـــزن : بقلم سميرة بولمية : الجزائر
(( ابتعدت السماء و الأرض عن سجدة كفي .. فلم أعد أسمع برازخ الصلصـال وجان الماء وعنقاء الأخبار و بوابات البحار يذكرون اسمي . .. وكانت أفعى الليل أسرع إلى من أحصنته التي نامت فوق هضبة همي .. لم أكن أعلم أن سفينة ظهره ستميل على سور ظهري .. وصدره سيأخذ شكل الكمان الذي لم يعد يغني .. كل الأزمنة البعيدة صارت قريبة مني ومن كسور نبضي .. و أحلامنا صارت أجمل و هي في زهـوة البياض الناصع !! .. لـم أعـد أذكر كـم مـرة قلت : ” وسع كرسيه السموات و الأرض ..” وكم مرة قالوا لي قولـي : ” و لا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ” .. وكم مرة أقسمت أنني لن أبعثر أفنان كتابه بزوابع نحيبي حتى لا أزعج هداهد سكينته .. وصافات مأمنه .. وصفاء خاتمته .. تذكرت أنه حين غلبتني سيوف الأوجاع سقطت من شجرة يدي تفاحة الرجاء فسترت سافلة هوة صرختي بقميصه المعطر بشذى عرق عجلات قطار الرحيل !!.. ))
ما أن عصفت سافيات التحاسير بمرفأ حمائمي حتى تأججت خناجر اليهماء في مغارة جرحي فتجلجل صخر الآه حين لاح ليل الصفاد يزحف كالرقطاء السامة نحو أقبية روحي المسيجة بعوسج الغسق .. غيرت الستائر المبرقشة بألوان الطيف فيبست أوتار كمجة الضوء في حلق شبابيك مدينتي وعصرت جلائف الصبر في حسرة القفار فيبست دردارة الفرح في أجفان التشارين ..
أحرقت نول المدى وقارب الطمأنينة و الندى فتغيرت نظرتي العتيقة لهودج الدهر و لمحراب المطر و لهالة الهناء و لنبوءة الزهر .. كسرت مفتاح قلعة الكلام .. وخبأت أجنحة الشمس التي كانت معلقة على حبال الأمنيات وكل لوحات الحرير المــطرزة بهسيس الفراشات .. طويت السقـف الوردي و الشفق اللازوردي و جبين بساط السمر ومفرش السحر.. أغلقت سرداب الحجايا وأطفـأت قنديل ألف ليلة وليلة وشغفي الى ” حواس ” ” بول إيلوار ” و مخابىء ” ريتسوس ” وتصور ” جاك بريفير ” و ” نزوة ” ” لوركا ” .. و وشوشة أرجوحة الغزلان ! ..
كنت بحاجة إلى سماع بعض التراتيل المنبعثة من حنجرة الأسى كي أرى جيدا وجه عرائس أحزاني وهي متزملة بعباءات الحداد .. تكلمت كثيرا مع طبول الفزع ومع لطمة الجزع و مع أقفال الحسرة و مع مقابض أبواب الظلام ومع الصور المعلقة على حبال جدران الذاكرة ومع أوتار ربابة أصابعي المرتعشة ومع جمجمة الليل الباردة ، وحين شاع النبأ تجعدت مزامير صوتي فصمتت طويلا أمام وجوه الأقارب المقفرة و أسئلة الجيران الموحشة و ثرثرة عجائز الحائنة مع مجامر الفجيعة ، و توقعت أنني حين سأعجن خرافات الدخان مع لهيب ألسنة النيران سأفلت من لسعة الرمضاء ! فظنت أغلال الغمى أن خيمة أوجاعي لن تسع كل أوجاع خيام أيلول !!..
في فناء الردى قتل فرسي الأبيض وشنقت فراشات فرحتي بخيط الحرقة الرفيع فتحولت إلى فارسة بلا ترس و لا سيف ولا قوس ولا حصن رمتني النائبة برشق فأغرقتني في غدير من دماء ، و نفضت سبايا الأسى ملح مناديلها في منبع صفائي الذي كان يروي عطش الفقارة المتينة ويشد عزيمتها إلى فقرة جبل كبرياء البقاء .. وأغارت أساطيل البلاء الملتوية القرون على سكينة مدني فذقت مرارة الريح في حساء غربتي .. وذاقت أشرعة ماخرتي طعم المنفى في متاهات الضياع .. و ذاقت سنونوات السهاد من صحن وليمة الدفلى.. و ذاقت الدجنة من صديد عضات أنياب دياميس الغصة .. وذاقت الذبيحة من حنظل الاحتضار في نفق الفراق !!..
خرجت شحارير جرحي من مخدعها كي تغرف من جرن جنوني فغرقت في ساقية دموعي على مرأى بجعات مهجة الروح التي اندثرت في دياجي التيهاء !! ..
نزعت حزام الماء وتاج حديقة البهاء ، و عقد التوليب ، و قرط الياقوت الأحمر ، و فرو السرو و قفازات الصنوبر ، وقبعة النخيل ، وجزمة الأهاليل ، ونظارات الزمزريق ، فماتت في مروج ضفائري المخملية أسراب السلام ، و تغريدة الزهري الناعمة ، و تكبيرة الحنين السماوية ، و دردشة الوديان وصغار أريس ونانيس وتنهيدة أوشام اليرناء ، و انكسرت ركب الخيول في مجرى أنهار دمي و إنهار مجد مرآتي وخاب وميض خيالي ولم يعد حذاء القمر يلمع في مجالس الأراجيز وانكمشت صحيفة محبرة بوحي و شحبت ناصية الأعذار !!..
لم أعد تلك الأميرة الصغيرة المتوجة بإكليل مرصع بقطع من حجر الزركون ، المولعة برسم تفاصيل يومياتها بفرشاة الفيروزج واليشب و الزبرجد.. و تعبت ميليا و توليا ومريهان من الكذب على ناطور بساتين الجوري و لارين و روفان و الأقحوان حتى تنام تهاويل الربيع و قطيع جيران المرابيع فوق جليد حجرتي .. أما غاردينيا البشائر فلم تعد تنتظرني قرب غدير الآمال .. ونسيت شموع الفنار الكبير وعدها له فلم تعد تصعد إلى أعالي جبال محنتي لتسهر مع جذوات الأشجان الهاجدة في مواقد وحدتي ..
هجرتني أزجال التين في مواسم الحنين ، وقافية الزهر في قصائد الزيزفون ، وشهد الصبر في حكمة الزيتون ، وضيع نجم الدهشة طريقه إلى سرادقات كمنجات اللهفة ، وذبل عبق ساكورا في منمنمة البهاء وغيرت أشعار الشتاء رايات دواوينها على مرأى راية أشعاري المدفونة في أغوار جفر البكاء الحالك ..
تنكر لي درج برج الأيام فلم يعد يسأل عن أحصنة خطواتي العنيدة .. ولم تعد حارسات مشاعل البلجة تعرفني من رائحة الميموزة الكئيبة .. ولم يعد الضوء يلتفت ليصافح شجرة أمنياتي .. و نسيني النسيم في زحمة الأشجان فلم يعد يداعب إبرسيم أناملي ورموش كنارة نظراتي .. ولم تعد أجنحته الندية تلاحق أجنحة غيمة خيالي .. وتوقف الرمان عن تقشير لؤلؤه المسجور في أكف أسراري.. وأخفى الجلنارعن مسامعي معزوفاته الأرجوانية .. ولم تعد غابة الذكريات مفروشة بحرير الأمان و بمرجان الصفاء ، و ترهلت إيمائية صهيل سوابح العلياء فلم تعد تغري حمحمة مهرتي !!..
عشت أسيرة رحلات مراكبه ، تارة قبرة تطارد جرأة جلول أسفاره .. تارة أخرى جندية تتبع آثار بطولاته و فتوحاته .. غمرني بكنوز أفكاره .. وبسنابل أخباره .. وبضياء مروج أوراقه .. و بمواويل صندل حضوره وكباره .. وكان سراجه ينير لي محراب صلاة صريف القلم .. وكانت ساحة مدرسته نايات عاشق اعتصم بصفصافة منتصف الشباب .. بابها آية أعادت أوتاد الأرض إلى حضارة السماء .. و نوافذها ترنيمة خرجت من بذور الماء و من شهقة شعلة الشعر و من قسم أوتار النور ومن سحر الدروب .. قلبها يشبه فانوس الجدود .. وصوتها مزيجا بين إرث المعابد والمنابر و الجذور .. و قبتها تشبه وطني قبل أن تخدشه كلاليب صبارة اللصوص .. ومقعدي من صدف بحر الصدق مزبرج بألماس الأساطير و مقعده جزيرة لها شكل فنجان قهوة أمي .. وكانت أحاديث العشيات من الياسمين المطعم بعقيق المزاهر .. كانت ” الست ” السرداب الذي يحتمي فيه حصادنا من جعجعة طواحين اللاجدوى و عجعجة ” الزحام القاحل ” ، و “الأطلال ” تقلب صفحات سيرة الزمن الجميل .. تأخذنا صوب كل الجهات التي أفلتت من فخاخ دسائس الجير و الكلس ومكائد الوحل وسذاجة الفخار ، فأنسى غليل السياط وهشاشة الجسور و خبث الأقنعة و قسوة اللجام .. وكنا نرتاح في كهف الرجل الأزرق .. وحده عود ” عثمان بالي ” كان يسرقنا من صحراء الخيبة إلى صحراء الله الشاسعة وكنت أمسكه من كل ثقوب حرائق ” تازولت ” كلما لاح له شبح سجان ليل ” لمبيز “الرهيب .. و كانت ” كسارة البندق ” تفهم سر الزرة على خاصرة منفاه .. كان يدلني على موطن بصيرة ” تشايكوفسكي ” الذي عرف كيف يستعمل الأوطاد و البلاسم وحروف الأخضران و هزيم الرعد و معارج توفاق الهلال و ترياقات الذهب و البلور و العاج ليترجم ألواح الموت و الحياة !! .. وكنا متفقين على تسمية ” كارمينا بورانا ” بالأشعار التي كتبت بالحبر المقدس و ” كارل أورف ” بمخ ” ميونيخ ” .. كان واسع الخاطر مثل الساج .. وكلما التقى بعاصفة الحلاج امتطى صهوة سحابة حداء الإبل وهو يردد : (( أيها الناس ، اسمعوا مني واحدة .. اقتلوني ياثقاتي .. ان في قتلي حياتي .. ومماتي في حياتي .. وحياتي في مماتي .. )) وكلما اشتاق تاج قلبي إلى فيروز الماضي أعارني سيف ” مظفر النواب ” : (( ياهذا البدوي ، الممعت بالهجرات .. تزود للقاء الربع الخالي بقطرة ماء !! ..)) .. كنت أشرب الحكمة من طاسة حلمه .. و كانت غيوم حبري تشرب إكسير الحياة من ضرع مغارة مقلتيه ، و كم كان يشبه أوجاع ثقوب قارب الحياة بأوجاع ” عمار بلحسن ” : (( وحيدا في مواجهة البحر الأسود من الظلمات ، أشعلت الضوء وذاكرة القلب وقمت لأكتب في مهالك الليل نص الجسد )) .. ، و كنت لا أقوى على الإقتراب من لهيب نسوره وهي تتذكر نبوءة عمي ” الطاهر “.. سيعود الشهداء في منتصف الجرح القادم .. و لا يبقى في الوادي غير حصى الأولاد .. ومن شدة حبه للولي الطاهر الذي عاد إلى مقامه الزكي تركها مكتوبة على كف دفتره : (( .. لا يقدر فضيلة التسامح إلا من كان ضحيّة الحقد ، ولا يعرف قدسية الحياة إلا من أفلت من أظافر الموت .. ولا يعرف قيمة الآخر إلا من يقضي الليل البارد خلف شجرة البلوط ، يتربص بهذا الآخر ليقتله ، وهو يعلم علم اليقين أنّ هذا الآخر يتربص به هو كذلك على مشارف قرية أو مدينة ليرد له الجميل ! كم يبدو الأمر عبثيا .. ))
كانت ” الحواس ” تسبقني إليه ” لاشيء سوى هذا الضوء .. ضوء هذا الصباح الذي سيقودك على الأرض ” .. فعلمتني جنيات أسراره كيف أفرق بينه وبين ” ريتسوس ” .. و بين رائحة فحم القهر و رائحة الشهد .. وبين حدقة الغدر و حدقة العتاب .. وبين شهود الأمس و شهداء الهمس .. وبين لحظة الكتابة بنشاب الغضب فوق سطوح الخطر ولحظة الكتابة بطباشير الخوف داخل خنادق الدفاع عن المركب الأخير لبلوغ ضفيرالنجاة !! ..
كبرت في مهد راحتيه فلم يتغير لون جلد سوسنات قلبي .. لم أخف يوما من لسعة حرباء القحط و اللغط و الشطط و القنوط و الضجر والهاجرة و الكرب .. كانت بئره الماهة تروي زريعة مدادي.. وكلما عطشت تربة سفينة رأسي غطست في بحيرة حنانه فأنسى كم دورة دارت حرابي الخريف حول حديقة كرزي .. وكم دورة دار الليل حول حجال شمسي .. وكم مرة درت حول ظله كي أعثر على حقيبة ظلي .. وكم مرة درت حول حديقة نظراته عساني أعثر على قصيدة موال حزين ضاع مني .. و كم مرة وسع دهليز عطفه بآيات الدفء حتى لا تختنق شرفات الحكي في صدري .. وكم مرة فرش رياحين لغته الملفوفة في بيان الدمقس لسمان لغتي خوفا عليها من لدغات أشواك البرد ..
كنت حبله القصير يمسكني من خيوط يدي حتى لا أتعثر بعصا الضباب .. وبوشاح الهواء .. و بقوافل النجوم .. و بجدائل السناء .. و بحذاء القمر !!.. ولم أكن أنحني حين كان الموج يقلب رمال أعماقي أو حين كانت الذاريات تحاول أن تكسر لآلىء إمارتي أو أذرع الممر !!..
تدحرجت كريات خطبته الزرقاء من أعالي قمم جبال الفجيعة .. و مفتاح أبواب خريطة تاريخ ملاحمه .. و تضاريس عذابه .. و قضبان زندان نوائبه .. وأعمدة قلاع صبره .. وخزائن عمره .. و سناجق عهوده .. ورماح أقواله .. و حقائب أنفاسه .. و مسك صلاته .. و سواعد سنديانته.. و رمانة قلبه .. و تسابيح روحه .. وخاتم الوفاء لضفيرتها السوداء ! ..
كان بإمكاني أن أفسر لهم ألغاز وصيته !! ..
تركتهم يبحثون عن إبرته الذهبية في كومة قش الحياة حتى لايفقد فرقده بريق الدهشة في قباب البهاء !! .
(( ابتعدت السماء و الأرض عن سجدة كفي .. فلم أعد أسمع برازخ الصلصـال وجان الماء وعنقاء الأخبار و بوابات البحار يذكرون اسمي . .. وكانت أفعى الليل أسرع إلى من أحصنته التي نامت فوق هضبة همي .. لم أكن أعلم أن سفينة ظهره ستميل على سور ظهري .. وصدره سيأخذ شكل الكمان الذي لم يعد يغني .. كل الأزمنة البعيدة صارت قريبة مني ومن كسور نبضي .. و أحلامنا صارت أجمل و هي في زهـوة البياض الناصع !! .. لـم أعـد أذكر كـم مـرة قلت : ” وسع كرسيه السموات و الأرض ..” وكم مرة قالوا لي قولـي : ” و لا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ” .. وكم مرة أقسمت أنني لن أبعثر أفنان كتابه بزوابع نحيبي حتى لا أزعج هداهد سكينته .. وصافات مأمنه .. وصفاء خاتمته .. تذكرت أنه حين غلبتني سيوف الأوجاع سقطت من شجرة يدي تفاحة الرجاء فسترت سافلة هوة صرختي بقميصه المعطر بشذى عرق عجلات قطار الرحيل !!.. ))
على حافة أباجورة أيلول ذلك العام .. سكت ضوء نشيد أنفاسه …
أيلول آخر خرج من بطن الأرض و باطن الخريف .. مازال يذكر رائحة صندل الحياة في شذرات أفكاره .. ولون منامة أحلامه .. وغزل المطر لباحة داره .. ومازال يحتفظ بأزرار معاطف أنهاره .. و بمزهرية أفراحه .. وبمحراث آلامه .. و بشتلة فلسفته .. و بنمارق كرسيه الشامخ الظهر .. وبزورق شموعه الخرافية الشكل .. و ببصمات عبير لوتس ” شيلر ” في مذكراته : (( من ألمي أستمد حياتي ، ومن تعاستي أستلهم عبقريتي وأرى هناك خلف الأفق الزئبقي المستحم بابتسامة البحر الأسود مستقبلي !!..))
لقد صار يعلم أنني لم أعد أعرف كيف أكسر أصفاد قبو الخراب أو كيف أفرق بين ثمار صفصافة الليل وبين ثمار صفصافة النهار .. و أني أرى جلاجل مملكته تحت نقاب الندى وقصيد سدرة المنتهى ينحني لأوركيد شفتيه ..
ذاكرة قلبي لا تريد أن تنسى وجه السياف الذي فصل رأسي عن جذوع أمواجه الخضراء .. وروحي مازالت معلقة بين السماء التي قرأت سر الدهشة و الشجاعة في لفظته الأخيرة ولم تنطق ببنت شفة !.. وبين السماء التي أنظر إليها فأرى أجنحته السندسية وعمامة وطنه الأبدي!! ..
تنام النخلة في عراء الهجير يا أبي .. تأكل من رطب الصبر وتشرب من غيث الجرح و تأنس برقصة الرمال على وقع أهازيج المرارة و طبول السراب !!..
أحيانا أبي .. الممر الضيق لا يخنقنا .. بل يعلمنا كيف ننتظر موكب أفراس الموت !! ..
لهذا كان علي أن أختار كيف أحكي قصتي الشائكة على آلة الترومبيت الكبيرة هل مازلت تذكر تفاصيل تلك النهاية القاتمة ؟! ..
مازلت كما ورد وصفي في أوديسة الريح : حجر نرد الحيرة في يد ريح ثملة..
مازلت أسمع نحيب ازميل الكون ..
ومازلت أزحف على ركبتي الحزن ..
ومازلت أرى أطلال مدينة أحلامنا الكبيرة ..
الهودة عند قدمي عميقة جدا .. !!
معذرة أبي ..
.. ضيعت طريق العودة إلى مهرتك الصغيرة !!..