قبض الرّيــــح
قصة قصيرة بقلم :حسن سالمي*
بتّ أخشى اللّيل. إذا حلّ لم يبسط سواده على الكون فحسب، بل يبسطه في داخلي كأوحش ما يكون. يضرب أوّل ما يضرب بوصلة الزّمن فإذا السّاعة كسنة ممّا يعدّ النّاس.
ولئن كان جسدي يتداعى بالأوجاع والآلام في ساعات النّهار، فإنّه إذا حلّ الغشوم بظلامه تحوّل إلى عذاب مضني. فكأنّ جنود السّموات والأرض ينهالون عليّ بسكاكينهم في وقت واحد. لا يتركون بوصة من جسدي أو دونها، إلّا زرعوا فيها ألغاما عديدة. كلّ لغم لوحده يعادل وجع موت بأكمله.
كم من حين مرّ عليّ تمنّيت فيه لو ذقت موتتي الكبرى. إذن لاسترحت وأرحت. سقوطي بين براثن المرض لم يكن سقوطي لوحدي، بل كان سقوط عائلتي بأكملها. هذا العدوّ الكافر لا يكفيه أن يضرب عنقي لوحدي. بل امتدّت يده القبيحة إلى خاصّتي، يريد أن يعذّبني بهم ويعذّبهم بي.
آه.. لو كان مرضي جسما أراه بعيني وأمسّه بيدي !!
*****
من كان يصدّق أنّ زوجي الوزير الشّهير صاحب المعارك الضّارية في عالم السّياسة، يكون هذا مآله وهذا حظّه بعد أن فُتّحت له أبواب الدّنيا ووضعت في يده مفاتيحها. كان إذا أشار ببنانه خيّل للنّاس أنّ السّماء تتّبع إشارته فتضع بين يديه جندها وعتادها، يتصرّف فيهما كما يشاء.
كيف لذلك الجسد الفارع الذي جعلت منه العافية آيةً من آيات الحسن، ينقلب هذا المنقلب، ويصير أرضا خصبة لبذرة خبيثة ما انفكّ الشّيطان يسقيها بوله. حتّى إذا استفحلت وأينعت ثمارها المدمّرة، خرّبته من الدّاخل وأحالت خرابه علينا.
نفسي تتقطّع. ولم يعد يكفي غصصي أن ينفّسها البكا ء
*****
لا أدري لماذا أهرب إلى ذاكرتي، وأنا أرى أبي ينقص كلّ يوم وأرى منافذ الحياة تغلق دونه كلّ حين.
ربّما لأنّ ذاكرتي يمكن أن تمنحني غيابا ولو مؤقّتا عن هذا الحاضر المرّ، الذي لم أكن أتخيّل يوما أنّنا سننزل إلى أدنى دركاته.
صور أبي وهو شابّ وأنا بعد طفلة في الخامسة، تطغى على ما سواها من الصّور. كأنّي أرى تلك المشاهد التي جمعتنا رأي العين. أبي بوجهه الجميل، وأنا بنزواتي الصّغيرة وشقائي اللّذيذ. الحقّ، حينها لم يكن وزيرا. كان أستاذا جامعيّا يدرّس علوم السّياسة وقوانينها الدّولية، كما سأدرك ذلك فيما بعد.
بعد شغله كان يتفرّغ لي ولأخي. أذكر أنّه كان يتحوّل إلى طفل مثلنا. يقفز مثلما نقفز. أحيانا يقلّد القرود. وأحيانا يقلّد الكلاب والماعز. كان هدفه إضحاكنا وإدخال السّعادة علينا. كنّا كلّ دنياه. لكنّ السّياسة، قطع الله السّياسة فرّقت بيننا. صحيح لم تكن صلته بنا كتلك الأيّام، لكنّه على أيّ حال لم يكن يستثنينا من اهتمامه، إذ عوّضنا من حرماننا منه بمباهج أخرى…
حين وخط الشّيب فوديه وهو بعد في مطلع الكهولة، أذكر أنّه كان يتضايق من ذلك البياض. كان يراه نذير شؤم ليس بعده إلّا الانتكاسة. انتكاسة الجمال والقوّة والشّباب. منذ ذلك الحين اهتمّ بصبغة شعره اهتمامه بطموحاته السياسيّة.
وكثيرا ما كان يقول ضاحكا وهو يلقي نظرة على صورته في المرآة: “ولكم في وليّ الأمر أسوةحسنة!”
*****
قبّح الله ذلك الرّجل. حسب أن ماله سيخلّده. وأنّ كرسيّ السّلطان بيده وحده. نسي أن ليس له من الأمر شيء. لا يملك أن يعزّ نفسه. ولا يملك أن يذلهّا. نسي أنّ الأمر كلّه لله.
الشّقيّ. ماذا سيلقى في قبره؟
كان وزيرا للدّاخلية. بل كان وزيرا للعذاب والتّنكيل. في عهده وأنا الذي قضى نصف عمره في سجون الوطن، كانت أفكار التّعذيب تتوالد وتتناسل كأبناء الشّياطين. يقال إنّهمهندسها ومصمّمها. حتّى أنّهم أطلقوا عليه لقب المهندس.
كان يشهد تعذيب الخلق بنفسه. أنا شاهد على ذلك. والله على ما أقول شهيد.
في ذلك القبو المظلم الذي يقبع تحت مكتبه مباشرة، زارنا ذات موعد لنا مع الجحيم. كنّا أربعة. كلّ ذنبنا أن قلنا الله ربّنا وليس السّلطان. ليس لنا من سلاح إلّا كلمة سبق أن نزلت من السّماء، أو لِحى كثّة اتّخذها النّظام عدوّا.
أذكُر أنّه أقبل علينا بقامته المديدة ووجه المستنير. عليه بدلة أنيقة، وعلى عينيه نظّارة سوداء لامعة…
اقترب منّي. رفع رأسي التي كانت تسقط على صدري من فرط ما لقيت. قال في برود وعطره يتسلّل إلى أنفي:
- أنظر في عينيّ
فلمّا لم يأنس منّي الطّاعة. أو ربّما لأنّي لم أكن أقوى على فتح عينيّ، بزق على وجهي قبل أن يلكمني لكمة أكسرت فكّي وفجرّت من الآلام ما لا يطاق. صرخ بأعلى صوته:
- أتدري ما الجهاد؟
وسكت مليّا ثمّ قال هازئا:
- أن نجعلكم تبولون في سراويلكم!
الشقيّ. ماذا سيجد في قبره!
*****
صلتي به بدأت بصورة. الرّاجح أنّها وصلت إليه عن طريق كلابه ورجال المخابرات، إذ كان يبثّهم في النّاس وأعراسهم، يبحثون عن الجمال السّاحر فيعرضونه عليه، حتّى إذا حلت المرأة في عينيه طلبها ولو بَعُد نجمها في السّماء.
حين ساقتني نزوته إليه، كنت على ذمّة رجل آخر، ما رأيت في النّاس روحا نقيّة شفّافة كروحه. كان موظّفا بسيطا، غير أنّه غنيّ النّفس عفيفها. رصيده كلّه في تلك السِّجال، فكان لي منها سعادة بالغة دونها الأحلام…
اللّعين. دخل حياتي كمرض عضال. كذاك الذي استشرى فيه حسبما سمعت، لا شفاه الله منه.
أوّل الأبواب التي دخل منها عليّ ترقية مهنيّة، جاءتني بعد دهر من النّسيان. لكنّ سببها ظلّ غامضا إلى أن وصلتني منه هديّة وبضع كلمات رقيقة بتوقيع مستعار. ارتبكت كثيرا وتوجّست شرّا. ووجدتني مع زوجي في دوّامة من الحيرة…
الهديّة الثّانية رفضتها، فكان ردّه القاطع في أقلّ من أربعة وعشرين ساعة. طُردت طردا تعسّفيا، كذلك فُعل بزوجي. تهمتي خيانة الأمانة. وتهمة زوجي الانتماء إلى تنظيم إرهابيّ!
كلّ ذلك جرى دون أن حصل بيننا لقاء واحد.
اللّعين أراد أن يروّضني بالجوع وانقطاع الرّزق. الحقيقة عرف كيف يذبحنا، وعرف أيضا من أين يشدّ أذرعتنا المكسورة.
ما زلت أذكر اليوم الذي دخل فيه عليّ زوجي بوجه عليه ظُلّة. قال في شرود وهو يتحاشى النّظر في عينيّ:
- أتدرين من استدعاني إلى مكتبه؟
- هو؟
- نعم. هو!
قلت وقلبي يهوي بين ضلوعي:
- لم تضعف. أليس كذلك؟
سكت وحشر وجهه بين يديه، وراح يبكي في صمت. ولولت ولطمت خدّي حتّى كادت روحي تخرج…
في الصّباح، بعد ليل أسود طويل صدمتني جثّة زوجيالمعلّقة بحبل في مسطبة الباب.
اختار الانتحار على أن يعيش القهر.
هرب وتركني وحدي…
لم يكن بمقدوري سوى أن أضعف وأتحوّل إلى دمية طيّعة بين يديه. إلى جارية سليبة الإرادة. إلى عاهرة تخلّت عنها الأرض والسّماء…
سمعت أنّ جبروته تبخّر كأن لم يكن. وآل به الحال إلى عيشة كعيشة الدّيدان.
أتدرون ما أمنيتي؟
أبصق في فمه ثمّ أموت بعدها ولا أبالي!
*****
ما أثقل الإنسان على أخيه الإنسان.
يُنسى وأنفاسه بعد تتردّد. وتنطفئ جمرة الأحزان عليه وهو بعد لم يغب عن أنظار أحبّائه. بين منزلتين، لا هو حيّ كالإحياء ولا هو ميّت كالأموات. كلٌّ انصرف إلى شغله وإلى سيرته مع الحياة. حين سقطتُ أوّل المرض نذروا لي أوقاتهم، وأروني حبّهم في أعينهم وفي نبرات أصواتهم، أمّا اليوم وقد استيأسوا من شفائي فلقد صرت لهم كالعلّة. لا يذكروني إلّاإذا صرخت وألححت في طلبهم.
صرت وحيدا وأنا في عائلتي. بل صرت منبوذا – هذه هي العبارة الأدقّ-لا يتحمّلون وجعي ولا رائحتي التي باتت كريهة على الدّوام. ذلك أنّ السيّد الوزير يتغوّط عل نفسه، ويغرق طوال الوقت في بوله. إنّ جسدي الذي كنت أكنزه بما لذّ وطاب تحوّل ثقله إلى عائق لي ولهم.أُقلب على جنب بجهد، وأُحرّك من موضعي بشقّ الأنفس…
من السّخرية المرّة أن أصير وأنا الوزير الذي ملأ السّمع والبصر، كذلك الثّعلب الذي دخل في جذع شجرة. وجد الماء واللّحم فلذّ له أن يصيب منهما حتى سمن، فلمّا أراد الخروج لم يستطع! ما أقسى على المرء أن يرى أمنية موته في عيون أحبّائه.
وهل الموت بيدي؟
أليس أمنيتي أنا أيضا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاص من تونس