((تجليات الوطن/ المرأة في تجربة الشاعر عزوز عقيل))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ كتب إبراهيم موسى النحَّاس *
يقول الفيلسوف الكبير أرسطوطاليس: “قد يتلو هذا القول في المحبة , فإنها فضيلة من فضائلنا, وهي من الأشياء المضطرَّة أي” الضرورية” في الحياة “(1), فكيف يعيش إنسان بدون وجود عاطفة حب منه لمن حوله , أو من الذين حوله تجاهه؟! لهذا ومن هذا المنطلق نرى الشاعر عزوز عقيل في ديوانه الجديد ” السنبلة ” يقدم لنا رؤية تقوم على الحُب بمفهومه العام الشامل للمرأة والوطن والكون والحياة ومعهم الشعر والإبداع , لأن هذا الحب هو القيمة الإنسانية التي لا تقوم سعادة في الحياة بدونه , كما إنَّه قيمة دينية ووطنية أيضًا مهما واجه الإنسان أو الشاعر في الحياة من متاعب أو اختلف الواقع عن النظرة المثالية من الشاعر للحياة, فنجد حب الماضي الممتزج بحب الأهل والنوستالجيا والحنين لحياة ذلك الجد وصورته هو وزوجته كما رسم ملامحها في الديوان حيث يزرعون بالتعاون فيما بينهما الحُب وهو يغازل كأس الحليب وخبز الشعير حين يقول:
((كنتَ وَحدَكَ تعشقُ/ أطيافَ سنبلةٍ/ نسيتها المناجلُ/ من وقتِ جدِّكَ/ لكنَّما الريحُ ها داعبتها / ولَم تنحنِ/ وظلَّتْ تعانق صفو السماءِ/ لتخبرهم أنَّ جَدَّكَ/ كان يغازل كأسَ الحليبِ/ وخبزَ الشعيرِ/ وتخبرهم أنَّ زوجته لم تكن/ غيرَ حلمٍ وديعٍ/ تعانق أحلام جدّكَ/ كي تزرع الحبَّ فيه …تعلِّمه))(2).
وإذا نظرنا لبعض القصائد الرومانسية في الديوان مثل قصيدة ( فاطمة – ليلى – عزوز – محكمة ….وغيرها ) سنجد التلازم القوي بين حُبَّين: حُب المرأة وحُب الشعر حتى وإن مرَّ الشاعر بلحظات من الصمت التي عبَّر الشاعر عنها في قصيدة ” صرخة الأرض” حين قال:
((أخاصم الشِعر أحيانًا فيدفعني/ موج القوافي وأفكارٌ من الأدبِ/ هذا نشيدي وشوق الشِعرِ من أمَدٍ/ توغَّلا داخلي صمتًا بلا صَخَبِ/ الله أكبر صار الحُبُّ مُعتقلًا/ للعاشقين تلاقوا فيهِ بالطَرَبِ))(3).
ومع حُب الأرض الذي عبَّرَتْ عنه القصيدة السابقة كان حب الوطن ” الجزائر” ذلك الوطن الذي يعيش فينا بقدر ما نعيش نحن فيه, “ومن المعروف أنَّ الإنسان ابن بيئته , يتكلم ويتصرَّف وفقًا لما تربَّى عليه في بيئته, والأديب إنسان في المقام الأوَّل, يتأثَّر ببيئته أيضًا ويُعبِّر عن هذه البيئة من خلال إبداعه قصة أو شعر أو رواية, وكلما كان لصيقًا ببيئته , مُعبِّرًا عنهاكلما كان أدبه صادقًا أصيلًا”(4). لكن البيئة هنا لا يُقصد بها المكان بمفهومه الحسِّي فقط بل بمفهومه الثقافي, فقد تجاوز النقد الحديث هذا المفهوم السطحي للمكان “ومِمَّا يتصل بمسألة الإبداع والبيئة , ربط الأدب بالواقع والنظر إليه في إطار فكرة المحاكاة أو الواقعية, وهذا كله مِمَّا طوى النقد الحديث عنه صفحا, واتجه بدلًا منه إلى بحث البيئة الثقافية, لا إلى درس العالم الخارجي اجتماعيًّا كان أو طبيعيًّا, فليس الأدب تصويرًا فوتوغرافيَّا, أو انعكاسًا لظروف خارجية, كما كان يذهب إلى ذلك أصحاب فكرة التصوير”(5).والشاعر عزوز عقيل يتعامل مع المكان بهذا المفهوم الحديث أي المكان باعتباره بيئة ثقافية, فالجزائر مرتبطة في الوعي الشعبي ثقافيًّا بفكرة الوطن الجدير بالحب والتضحية من أجله مثلما ضحَّى من قبل المليون ونصف شهيد ضد الاستعمار الفرنسي, لذا نجد حب الوطن أيقونة أساسية في الديوان, فيقول في قصيدة ” نشيد الجزائر”:
((أحِبُّ الجزائر فوقَ الجنون/ وفوق اللزومِ وفوق التصوُّر فوق اليقين/ هي الآنَ/ حلمٌ جميلٌ / يراودني/ في جميع القصائدِ والأغنياتِ القديمةِ/ فأعلن أنِّي أحبُّ
شوارعها / وضيق الأزقَّةِ فيها / هي الآنَ/ امرأةٌ تحتويني/ وتفتح لي قلبها…..كي يحتويني))(6).
وعلى المستوى الفنيّ تتسم قصائد الشاعر عزوز عقيل داخل الديوان بالمحافظة على الأصالة فلا نجد مغامرات فنيَّة ما بعد حداثية أو رؤى تكسر التابوهات وتتمرد على القيم الموروثة اجتماعيًا ودينيًا بشكل يصنع قطيعة مع المتلقي – كما نرى أحيانًا عند البعض – وإن لم يخلُ الديوان من جماليات حداثية سأشير إليها
فمن مظاهر الأصالة في الديوان الحفاظ على البنية الإيقاعية العروضية فتنوعت قصيدته بين القصيدة العمودية التي تلتزم وحدة الوزن والقافية مع قصيدة التفعيلة التي تلتزم بالتفعيلة العروضية دون الالتزام بتثبيت عددها وفي كل هذا كان استخدام الشاعر لبحور شعرية تتناسب بنيتها الإيقاعية مع رؤية الشاعر فكان استخدام بحر البسيط والكامل بكثرة لأن بنيتهما الإيقاعية الهادئة تتناسب مع قيمة الحُب التي أراد الشاعر التعبير عنها , كما نجد جانبًا جميلًا في القافية وسأخص بالحديث هنا قصيدة ” فاطمة ” حيث نجد الشاعر لم يكتفِ بتكرار حرف الرويّ” حرف الميم بعده تاء التأنيث ” في نهاية أبيات القصيدة بل جعل كلمة ” فاطمة” كأنها حرف الروي بحيث تنتهي كل أبيات القصيدة بكلمة ” فاطمة ” للتعبير عن مدى حبه لها.
من مظاهر الأصالة في الديوان أيضًا التأثُّر بشعراء سابقين مثلما نجد في قصيدة ” أم يوسف والتي تُذكِّرنا في بنائها بنونية الشاعر الأندلسي الكبير ” ابن زيدون” صاحب الوزارتين وعاشق الأميرة ” ولاّدة بنت المستكفي” حين يقول عزوز عقيل:
((يا أُمَّ يوسفَ هل غابت أغانينا / أم إنَّهُ الخوفُ من أحزان ماضينا / يا أُمَّ يوسفَ أنتِ الآنَ شامخةٌ / كالنخلة الآنَ في قلبي تُظلِّينا / أنتِ الشموخُ وأنتِ البحرُ فاكهة / أنتِ الرحيلُ إلى قلبِ المُحبِّينا))(7).
كذلك من مظاهر الأصالة في الديوان التأثُّر بالمعجم القرآني على مستوى اللغة الشعرية وقد لاح هذا في أكثر من موضع فنجد على سبيل المثال قول الشاعر في قصيدة ” السنبلة ” في ص 23 : (( قال هذي عصاي سأرمي الظلام بها ))(8) متأثرًا بقوله تعالى: “قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى “(9). صدق العظيم, وربط العصى بعملية الرمي يربطنا بقصة سيدنا موسى بأكملها كما وردت في القرآن الكريم . كما نجد قول الشاعر في ص 25: ((فمنها التي قضت نحبها ومنها التي تنتظر )) وهنا تأثُّر واضح بقوله تعالى: “من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلا”(10).
كما تظهر في الديوان بعض السمات ( ما بعد الحداثية ) منها توظيف واحدة من عتبات النص الشعري التي تشارك المتن خلق الدلالة والرؤية داخل الديوان , تلك العتبة هي المفتتح , حيث قام الشاعر بتصدير مفتتح أنهاه بعبارة للشاعر عاشور فنِّي – موظفًا عتبة أخرى هي عتبة الهامش – ذلك المفتتح الذي يوحي بالحب والأمل في حين قال:
((سنأتي/ كذا قالت الريح/ نحملُ وهجَ المدينةِ / نحمل أسرار غربتنا /نحلم الآنَ ها قد بدأنا / “وأنت الذي منحتك المدينة تذكرة”(11).
من السمات ( ما بعد الحداثية ) في الديوان أيضًا توظيف الطابع القصصي الذي يقوم على السرد وطابع الحكاية بل نجد توافر عنصر الشخصيات أيضًا لتتحول الصورة الشعرية مع هذا السرد القصصي من الصورة الجزئية التي تقوم على المجاز (( تشبيه أو استعارة أو كناية )) إلى صورة كليَّة تقوم على وصف مشهد متكامل بكل عناصره وتفاصيله ولعل القصيدة التي عنون بها الديوان خير شاهد على هذا الملمح ولنقرأ معًا ذلك المقطع منها حيث يقول الشاعر:
((كُنَّا صغارًا وكان أبوك الوحيد/ الذي يشتهي أن يعلمنا/ يشتهي كل شيء
وكان أبوه يُدَلِلهُ / لا لشيء سوى حَلِّ لغزٍ / أمامَ شيوخِ القبيلةِ / كُنَّا جميعًا وشيخًا أتى قريةً / قيل عنه الكثير))(12).
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ ديوان ” السنبلة ” للشاعر عزوز عقيل يقوم في رؤيته على السمو بعاطفة الحب باعتباره قيمة إنسانية رفيعة لا تتوقف عند حب الرجل للمرأة فقط بل يتجاوزها إلى حب الأرض والناس والوطن والحياة في قصيدة محافظة تجمع بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وتتأثر في معجمها الشعري بالقرآن الكريم مِمَّا يعكس الثقافة الدينية للشاعر إضافة إلى التجديد في إطار المحافظة على الشكل من خلال توظيف بعض السمات ( ما بعد الحداثية ) داخل الديوان منها توظيف الهامش والمفتتح ولغة القصة التي تقوم على السرد إضافة إلى الجمع بين الصورة الجزئية والكليَّة على مستوى الخيال.
وإذا كان الوطن يمثل أيقونة أساسية في ديوان ((السنبلة)) فإنَّ المرأة تمثل أحد المحاور الأساسية في تجربة الشاعر عزوز عقيل في ديوان ((الأفعى)), و لا يخفى علينا أنَّ حضور المرأة قد تجلّى منذ البدايات الأولى للشعر العربي في العصر الجاهلي حيث كانت القصيدة تبدأ بالغزل عفيفًا كان أو صريحًا مهما كان غرضها أو موضوعها, ويستقل الغزل بنفسه مع مرور الوقت, لينال حضور المرأة في التجربة الشعرية مكانة تسمو على مجرّد كون حضورها مقدمة للقصيدة, واختلف حضورها لتصبح رمزًا لرؤية الشاعر تجاه الوجود والواقع والذات والحياة حتى العصر الحديث.
و الشاعر عزوز عقيل في ديوانه ( الأفعى ) يسجل للمرأة حضورًا كبيرًا بداية من العنوان و مرورًا بالإهداء إلى زوجته ثم المتن الشعري الذي تنفرد فيه المرأة بصدارة المشهد, و قد حمل حضور المرأة أبعادًا إنسانية وجودية ترتبط بنسق من القيم التي يؤمن بها الشاعر, فحين يرضى عنها يكون هو ” الأسير” الذي يحبها و ينتظرها تحت” النافذة” طوال الليل, كما نجدها ” الخائنة” و “الأفعى” حين تخالف تلك القيم التي يؤمن بها, وتلك العلاقة مرتبطة بأبعاد إنسانية لدى الشاعر, تلك الأبعاد التي تجلَّت ظلالها في تفاصيل أخرى فنجد قيمة الأب التي ظهرت في إهدائه قصيدة” محطات” إلى (بايزيد عقيل) و في قصيدة” أبتي”, و رثاء هذا الأب العظيم في نهاية المقطع الخامس من قصيدة محطات حيث يقول: ((مَن يُحدِّثني ياترى /عن عيون المَها/عن عيون الحجلْ/ هكذا يا أبتي / ترحلُ في عَجَلْ))(13), كما نلمس اعتداد الذات الشاعرة بنفسها و حبها للحياة رغم الإحساس بالاغتراب, ففي قصيدة ” عقيل” نلمح تلك الأبعاد موظفًا التكرار خصوصًا لكلمة (ثمَّة) للتعبير عن رؤيته حيث يقول: ((ثمَّة البحرُ و الشَّمس و الدِّفْء/ و العطر فاكهة الاشتهاءِ الجميلْ/ ثمَّة الحبُّ و القلبُ و الناسُ و الشعرُ/ فاتحةُ الوردِ و الزنجبيلْ/ ثمَّة القدُّ كُحْلُ العيونِ/ شِفَاهُ النَّدَى و الظَّفيرةُ/ سَارَت في الأرضِ /كَمَا السلسبيلْ/ ثمَّة الطفلة الحلمُ/ جاءت كهمسِ النَّدَى/ صولجان القصائد في يدِها/ تهزمُ العاشقين بِهِ/ تهزم المستحيلْ))(14), و نلمس العمق الفلسفي في التعبير عن تلك الرؤية في قصيدة ” الأسير”, و في سبيل خلق إيقاع موسيقي يتناسب مع الحالة الشعورية للقصيدة تنوَّعتْ القصيدة عنده بين القصيدة العمودية و قصيدة التفعيلة بل قام بتطويع القافية لتناسب المعنى, فتتكرَّر الكلمة التي بها حرف الرويّ في جميع الأبيات كما في قصيدة “راقية”
كما يوظف الشاعر الصورة الجديدة المبتكرة , ذلك الاهتمام بالتجديد في الصورة الشعرية ظهر بصورة لافتة في كل دواوينه الشعرية , وقد وصفها أحد النقاد بقوله عن عزوز عقيل والخيال عنده: “جاءت الصور الشعرية عميقة ومتجددة في أحيان كثيرة, وهو ما حرص الشاعر عليه طوال الوقت”(15), ولنقرأ تلك الصورة الشعرية في قصيدة” الصعلكة” بديوان (الأفعى) وقد احتوت على (النوستالجيا) و الحنين لذكريات الماضي حين يقول: ((رُحْتُ أَنَا/ أبدأ العَدَّ من آخرِ العمرِ/”زَينَبُ ” واحدةٌ قبلها اثنتَانِ/ ورَابِعَةٌ لم تقلْ اسمَها/ كان لي إخوةٌ/ واحدٌ يشتهيني/ ما تبقّى من الاشتهاءِ/ تُلخّصه جَارتي/ كُنْتُ أَعرفُهَا / كُنْتُ أسرقُ بَعْضًا من البِسْكُوَيتِ/ و بَعْضًا من التَّمْرِ/ كلُّ المخبَّأ عنِّي في خزائن أمِّي))(16).
من هنا فتجربة الشاعر عزوز عقيل تُعلي من قيم الحب للوطن والانتماء له , وتعظم من مكانة المرأة وحضورها في التجربة الشعرية في قصيدة تحمل أبعادًا إنسانية تقدِّس منزلة الأب و ذكريات الطفولة, و تعتمد على التجديد في الصورة الشعرية, و توظِّيف التكرار مع العمق الفلسفي مع التنوُّع الإيقاعي بين القصيدة العمودية و قصيدة التفعيلة , ليرتبط الإيقاع العروضي ارتباطًا وثيقًا برؤية الشاعر و الحالة الشعورية الصادقة داخل القصيدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- شاعر وناقد مصري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشواهد والمصادر:
1- (الأخلاق)- أرسطوطاليس- ترجمة إسحَق بن حنين- الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة الذخائر العدد 161- القاهرة – المقالة التاسعة ص 272
2- ديوان السنبلة – عزوز عقيل- تحت الطبع – ص8/9
3- المصدر السابق ص 79
4- انظر كتاب مؤتمر اليوم الواحد الأدبي بفرع ثقافة الجيزة- عنوانه ( البيئات الثقافية والتنوع الأدبي بالجيزة) – كلمة الروائي والقاص محمد عاشور هاشم أمين عام المؤتمر – الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة 2016- ص9
5- ( قراءات جديدة في أدبنا المعاصر) – د. السيد إبراهيم – الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة كتابات نقدية – العدد رقم 195- ط1 القاهرة 2010 – ص 17
6- ديوان (السنبلة) – ص 95
7- المصدر السابق ص 64
8- المصدر السابق ص 23
9- القرآن الكريم – سورة طه – الآية رقم 18
10- القرآن الكريم – سورة الأحزاب – الآية رقم 23.
11- ديوان ( السنبلة) – ص 7
12- المصدر السابق ص 17
13- ديوان ( الأفعى ) – عزوز عقيل – كتاب الواحة عن مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 2018 – ص 21
14- المصدر السابق – ص 13/14
15- انظر تقديم الشاعر والناقد المصري سامي دياب لديوان ( من جهة القلب ) للشاعر عزوز عقيل – الصادرعن كتاب الواحة عن مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 2018 – ص 8
16- ديوان ( الأفعى) – ص 26/27.