برزخية الشعر: من شعرية الفضاء إلى مقامات المعنى
يعد اشتغال الشعراء على الفضاء رافدا مهما في بناء المعنى وتأثيث القصيدة من جهة، وإسقاطا على الحالة النفسية للشاعر بما يحمله من دلالات نفسية واجتماعية وثقافية، والبحث في شعرية النص الأدبي تنطلق من تقصي الشعرية وتتبعها في جزئيات النص وهذا ما نسعى إلى تجليته وتبيانه في ديون “خطى على الملح حافية” لأحمد بن مهدي أصيل مدينة أدرار المنطقة الصحراوية والحاضرة العلمية الزاخرة بشتى صنوف الأدب والعلوم الدينية، ومن أجوائها الصوفية نهل شاعرنا فكانت لغتهالرامزة والمكثفةالتي تستمد شفافيتها من سمو المعاني الصوفية طريقا للعروج إلى عوالم الجمال.
1- شعرية الفضاء
تلقى الدراسات المتعلقة بالفضاء اهتماما كبيرا لأهميته في المنجز الأدبيكونه محملا بإيديولوجيا مضمرة البعد والدلالة، لذلك لايخلو أي نص من توظيف الفضاء، إذ يعدّهالدارسون أوسع وأشمل من المكان، متضمنا في الفضاء، لأن هذا الأخير يمكن ربطه بالمكان والزمان.
بل يختلف باختلاف المستويات والمجالات وهذا راجع لأنه ” ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة لأنه يعيش على عدة مستويات من طرف [الشاعر] بوصفة كائنا مشخصا وتجليا أساسا”([1][1]) كما يحمل شحنات دلالية وإيحاءات رمزية تحتضن الحدث وتعطيه أبعاده ،ويسمح لهالتجلي تدريجيا من خلال ارتباطه بالدلالة الحضارية كما تقول جوليا كريستيفا ، وتوالد الأفضية يساعد في تقديم إشارات جغرافية تسهم في تحريك خيال المتلقي.
تتجاذب نصوص الشاعر أحمد بن مهدي فضاءان متضادان ظاهريا ومتكاملان في الآن ذاته، هما: المدينة بتنوعها الثقافي وتعدد مشارب ساكنيها من جهة وضيقها وغربة الإحساس من جهة أخرى. ذلك أن الجانب النفسي له التأثير الأكبر إذ يتعدى فعله ليجعل أكثر الأماكن المفتوحة منغلقة فتتحول هندستها الفضائية لتعبر عن الانغلاق بما تسببه من حيرة نفسية.
أيامدينة..
تخون العاشقين
وتشرك بكارتها
لألويةالودقوالريح.
في مقابل الصحراء بقسوتها والعوامل الجوية الصعبة من جهة أخرى؛ ومن جهة أخرى بسحرها وجمالها وبقدرتها على خلق التناقضات في نفوسنا، فطبيعتها التي تملؤنا دهشة ثم تحرر المارد الساكن فينا، هي هكذا بجمالها يطغى وسحرها يبهر وزائرها وتسلب لبّه فيصبح أسيرا لا فكاك له، ومن غير نفس مرهفة أن تفهمها وتغوص فيها،تخفي جانبها البديع ما لم يكن ذا صبر لا يقف عند حدود الظاهر، ويصبح البعد عنها عذابا ولقاؤها لقاء عاشقين أضناهما الشوق وأرهقهما:
(توات) عدت بلا ألق عدا شغفي *** لألأته فغدا ربان معتكفي
ظمآن يشربني راحا على سغب *** حماه تفتك بي تلتذ بالوكف
ومن هذا التفاعل بين الفضاء والشاعر هو محاولةلإعادة التوازن لنفسيتهالقلقة ، ليحقق لها الاستقرار ولمن حولها وهي تقف أما هذا الفضاء المترامي الأطراف ، فلم يكن وصف المكان لغايات الديكور بل جاءت تنفيسا عن مكنوناته وتعبيرا عما يعتمل في صدره من مشاعر تشدّه للمكان لا في حدوده الضيقة بل باعتباره وطنا يهيم به:
أغني توات
وتوات
تغني المطر…
وها المطر الكتوم
أبدا ما أصاخ السمع
…لغير السفر!!
إنّ تعلق الشاعر بأرضه وإحساسه بالغربة إذا ما فارق ربوعها، هو تمسك بالوطن وتعلق به ينم عن روح وطنية عالية وأصالة تدفعه للفخر بأجداده ومآثرهم ، وبالصحراء وما تزخر به من موارد طبيعية ومعنوية.
2- مقامات المعنى:
الشعر هو العالمالوسيطالبرزخيأيهوعالمالرموزوالدلالاتكما يدعوه المعلم الأكبر ابن عربي، وفي اللحظة البرزخية تتكشف للشاعر أحمد بن مهدي الحجب ويلوذ بالقصيدة تعصمه من شطحات الهوى ويأوي إلى القاموس الصوفي و” يستعين بهذه الحروف الأشياء في مقاومة العزلة والفراغ، يحاول أن يردم بها حفر الذات يملأ بها فراغه النفسي”([2]) يشكل وطنا للروح التي هزمتها المادية وطغت عليها الأهواء في عالم متوحش، إن الشاعر حين يعود للمنابع الصافية للتربية الروحية ويلوذ بالصوفية طريقا للحياة ومنهجا هو تبرم مما آل إليه الواقع من سوداوية طاغية ومادية مقيتة، فيكني عن كل ذلك بحرف (الراء) وهي نصف كلمة الصحراء ذلك أن (الراء) يرمز لدولة الحق في عرف المتصوفة، ويعده بعضهم إشارة إلى جميع الخيرات الظاهرة والباطنة ولم يشطط الشاعر حين ادعى ذلك :
تمضي بنا يارفيقة الغياب
عيس حكايا الماء
والزعتر المفجوع والحبق
لاتسلمي
لليلاي غير حدو
رافقنا حين رقصة الشمس للّواء!!
صحراء..
.. صحراء..
.. صح..
.. رااااء!!
وبين البرزخ عالم الخيال كما يعدّه الصوفية ولغة التخييل التي يسعى وراءها الشاعر وشائج لا تتحقق إلى بالعروج في عوالم صوفية بحتة يستعير فيها قاموسا غير معهود، قاموس يحتاج فكّ شيفرته خلفية معرفية صوفية البحث في بنيتها السطحية لا يوصل إلى كنه المعنى الذي يريده الشاعر إلا بمقدار.
قلبي
كمئذنة وصلاة
قومي
لسجدة الصحو،
هل توضأ النور ليل الصبابات؟
قومي لنرسي
لركع الليل سنة الصحو
ونحيي لمعراج الروح ليلة للوقد
تحفها فيض الفتوحات!!
يقف الشاعر “عند كلمات وعبارات يعرفها المتلقي، غير أنه يوقف معانيها المتعارف عليها، ويقيم فيها معاني أخر تخرجها من التحديد إلى نوع من الغموض”([3]) الذي يتطلب خلفية صوفية معينة لفك شيفرتها وكل حرف يربط العارف الصوفي بمنزلة من منازل الوجود المطلق، وبين معنى اللفظ في سياقه الشعري وسياقه الصوفي بون شاسع ،فاللغة الصوفية تعمل “على نقل تجربة الاتصال بالله والتي تنشأ في إطارها الأفكار والمعاني وتتشكل”([4]) والشعر ينقل تجربة الشاعر لذلك يهيء المتلقي منذ البداية لخوض هذه التجربة العرفانية ويفصح عن مصادره وروافد شعره فيتضح العقد القرائي بينهما حينما يدعونا لسجو الصحو والتوضأ بالنور فطريق السالك (الشاعر) طويلة ولابد للرحلة من زاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي. المركز الثقافي العربي.بيروت لبنان. الدار البيضاء. المغرب. ط1 ،1996 ،ص32
[2]) فاتح علاق،في تحليل الخطاب الشعري، ص47
[3])آمنةبلعلى، تحليل الخطاب الصوفي، ص151
[4]) المرجع نفسه، ص135