الحداثة والتراث في الشعر المعاصـر
د/ أسماء عطا جادالله/ مصر
أصبحت الحاجة ماسة إلى استلهام التراث لما يشكله من عوالم جمالية خصبة تفتح نصوص الشعراء على آفاق متنوعة من الممارسات التجريبية المتميزة على الرغم من الجدل الكبير حول علاقة التراث (الماضي ) بالحاضر بالحداثة، فالبعض يرى أن الحداثة عملت على القطيعة مع التراث باعتبار أنها بدعة في نظر المحافظين عليه بشدة ، ولكن الخطاب الأدبي من خلال الثقافة المجتمعية السائدة استطاع أن ينفي هذه القطيعة، ويؤكد حيوية التراث ، فهو دعم من دعائم الثقافة ، ونافذة يمكن منها الإطلالة على أصول ثقافتنا لنتعرف عليها ، وإلى ما طرأ عليها من تغيير، وما كان من تأثير، وتأثر نتيجة التفاعل، والاتصال بغيرها من الثقافات ، فالنص الحداثي يعود إلى التراث ” لا للتسجيل والتخليد ولا للمناقضة والهدم ، وإنما للتفاعل معه، ومد أواصره في التجارب المعاصرة بوصفه عاملا مهما لا في تحديد الحاضر ورسم المستقبل ، وإنما في المساعدة على التكيف مع الحاضر ، واستشراف المستقبل ، بعد أن تغيرت نظرته إليه، فأصبح متفاعلا معه فاعلا فيه ، لا منقادا به ومشدودا إليه”(1) ؛ لخلق جسرا من الحوار، وصياغة كتابة إبداعية جديدة تبث روح المعاصرة في التراث؛ لتخرجه بثوب جديد مع المحافظة على أصالته ، بإعتباره الملاذ والملجأ؛ للتعبير عن هموم الذات والجماعة والخروج من مستنقعاتها إلى الآفاق النقية، لغناه بعناصر القص والحكي والسرد “فكل استدعاء جديد يتطلب بالضرورة تشكيلا جديدا، يستقي من المعارف القديمة، أو من حصيلة التجارب اليومية ، وفي هذه الحالة لا يكون القديم قديما لأنه لا يحس إلا من خلال نبض الحياة المعيشة “(2) ، وهذا يحتاج إلى شاعر مبدع يوالف بين عصرين مختلفين؛ ليقيم بينهما؛ تحاورا يعمل على ثراء التجربه الفنية بكل أشكالها، “باعتبار أن الأديب أكثر الناس إحساسا بقيمة الزمن بأشكاله المختلفة ، ومن ثم فإن إحساسه بالماضي والتاريخ ينبع أساسا من عمق تجربته الإبداعية ومعايشته للزمن قبل وأثناء ، وبعد الكتابة ، كما تلعب الخبرة والمعرفة دورا كبيرا في تنمية هذا الإحساس لدى الأديب حيث يشكل الماضي وعيه ويزوده بروافد كبيرة من روافد الثقافة التي يقوم البناء الفني عليها “(2) . فالحداثة عند أدنيس ثلاثة أنواع : العلمية والتغيرات الثورية والفنية
– علميا وتعني إعادة النظر المستمر في معرفة الطبيعة للسيطرة عليها، وتعميق هذه المعرفة وتحسينها بإطراد .
– ثوريا تعني نشوء حركات، ونظريات وأفكار جديدة ومؤسسات ، وأنظمة جديدة تؤدي إلى زوال البني التقليدية في المجتمع وقيام بني جديدة .
– فنيا تعني تساؤلا جذريا يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها ، وافتتاح آفاق جديدة في الممارسة الكتابية وابتكار طرق للتعبير تكون في مستوي هذا التساؤل ، وشرط هذا كله الصدور عن نظرة شخصية فريدة للإنسان والكون “(3)، فالمشروع الحداثي الأول إعادة – والثاني نشوء – والثالث استكشاف؛ ليهدف إلى خلق نمط جديد يقوم على إعادة البناء، والتجديد فيه، واستكشاف ما ورائيته ومن هنا حمل الحداثيون على عاتقهم رسالتين :-
– رسالة مواجهة الواقع بما فيه من تمزق وتفكك.
– رسالة التجديد وبث تيار حديث يتوافق مع الواقع وطموحاته وأفكاره .
“فإذا كان وجود اللغة قد اتسم بما هو مادة الخلق وأداته بطبيعة خارقة، فان وجود الذات هو كذلك قد بدأ بما هو قدرة خارقة أيضا على أنها- في آن واحد- فردية وجماعية، أو شخصية ومعممة، فهي فردية بمسئوليتها، واختيار موقفها، وهي جماعية في همها واختيار مصيرها، ومن هنا فقد جاء وجودها الذى كشفت عنه مدموغا بأنه – وجود مركب لأنه وجودها هي أولا، ووجود عالمها الذى تندمج به ثانيا، وجود دينامي؛ لأنه وجود لموجود متطور في عالم متطور، وجود درامي: لأنه ينهض من اللاوجود ويتجاوزه نتيجة لذلك، وبدرجة أساسية إلى إنقاذ الوجود الفردي والجماعي على حد سواء ، فأصبح الشعر يعبر عن وظيفة تصورية هادفة لأشياء الواقع ؛ لتخرق الحجب وتقول ما لا تقوله لغة الصورة العادية “(4). فيقول سيد عبد الرازق
” وآتت به قومها تحمله ”
وراسخة مذ كان آدم طينة
لها روح من نقاء الروح ما يحمل الفجر
ترى في انطواء الماء سرا مقدسا
سيفضي به يوما إلى الشاطئ النهر
وتصنع من وشى الظلال أريكة
بها تنعس الغزلان لو دكها السير
رأت فتنة الدنيا فأخفت بكفها
عيون الرؤي حتى يعاودها الطهر
غرابا يواري في التراب خطيئة “(5).
الذات تستلهم التراث في قصة مريم؛ لتعرض من خلالها حالة من المواجهة ، والمقاومة أمام الواقع؛ فيأتي محملا بكل الأدوات التي تعمق هذه الفكرة، فإذا كانت القصة التراثية تعرض فكرة الامتثال إلى أمر الله في مواجهة قومها، فالذات هنا تحمل القصيدة امتثالا للثورة الداخلية التى لم تعد تحتمل، بالإضافة إلى استلهام النص الديني (للغراب الذي أرشد الإنسان لعملية الدفن ) ؛ ليحسد حالة من الصراع الواقعي، ، ليكشف عبر الصياغة اللغوية واقعا آخر، وبناء حلما جديدا مخالفا لهذا الواقع من خلال المهارة الفنية والدلالية ؛ لكشف قيمة النص من خلال اللغة التي ينسجها الشاعر في شبكة من العلاقات يكونها داخل بناء فني متميز تخدم مراد الذات في التحرر، وتحقق رغباتها كما يروق لها ، (انطواء الماء- وتصنع من وشى الظلال أريكة …إلخ) ويقول “هشام محمود ”
وإني سميتها (لارا )
وإني أعيذها بالرحمن ..
من رحمتها ونقمتها ،
وحضورها وغيابها ،
ودلها وملها ،
وأينها وكيفها ومتاها،
ومنها ومما سواها
لأغيب في سكري..
عن شهودها وإشهادها .
فسبحان من أشهدني حضرتها …
وجلا لي أنوار تجليها ،
حين تجلى وتجلت .(6)
استخدام اللغة الدينية يعزز الجانب الواقعي الثوري، ويقيم حالة من الرفض والمطالبة بالتغيير، فالقصيدة الجديدة تجاوزت الأشكال والمقاييس والمفاهيم الماضوية التي نشأت كتعبير عن حالات مرتبطة بزمانها ومكانها، والتفرد الذى يحاول الشاعر الجديد به أن يخلص الشعر من المنطق والسرد والتعليم ، وسلطان الخارج وأوضاعه وأحداثه؛ ليجعله انبثاقا من الداخل وتعبيرا عن معاناة شخصية وحقيقية وصراع داخلي للذات في مواجهتها لنفسها ولواقعها. كما في النص ليجسد اتجاها جديدا واسما جديدا هو (لارا)، ليشير إلى الولادة الجديدة المتمثلة في لارا، وهو رمز للحلم القادم، والواقع الداخلي المنشود لدى الذات؛ ليظهر مدى الإقدام والإحجام الذي ينتاب الذات أثناء عملية الكتابة، ولحظات التجلي عبر حالة من السكر تعبر فيه اللغة الصوفية الباطنية طريقها لبناء النص المعاكس فيستغل الشاعر فيه كل الطاقات الكامنة ؛ ليبرز مطلبه الفكري والثقافي والاجتماعي ؛ ليكون صورة العشق بكل آلياتها التي يسعى لإ ثباتها من خلال البناء اللغوي للنص . ويقول “عبد الرحمن تمام ”
في الحقيبة .. عين الجميلة اليسري وإزميل
في الباحة
حيث لا سقف في المعبد
(1) لاأرتاح لفكرة البص على أحد
ولولا أن مباشر العمل اسكنني معه
في المنزل
ما عرفت سره
النحات
(2)
أثداء مترهلة وبطن منفوخ
وخزف منحور بعرق الأصابع
و…..
الجميلة التي أتت يفوح من كتانها الراتنج واللوتس .
عن العتبة
(3)
سأفتح فمي فلا تحيات ولا صلوات
يا من ضربت بالنتوء لي
والنون لك (7)
الشاعر هنا يوظف عوالم متباينة؛ ليشكل نصه من خلال متخيله الشعري المنطلق من الواقع فيمتح من الأسطورة والرمز والقص، ليحاول إيصال رؤاه عن الحياة والواقع من خلال هذه التوليفات التي يغلفها السرد؛ ليضفي عليها طابعا دراميا يعطيها نوعا من الحيوية والنمو ، فالبنية النصية تكسر أفق الغنائية أمام تحولات الموضوع المعني وتعدد الأصوات ، فأصبح الالتفات قائما على تحولات الفنون، فهذا النص يستخدم تقنياتها الفنون الأخرى كبنية أساسية في تكوين نصه ورسم صورته، وإثراء تجربته ، كتقنية المسرح؛ ليتخذ من قصيدة النثر لغة وبصر وذهن وتخيل ورؤيا في الآن نفسه كما تتركز قدرة الشاعر على استيعاب التراث التاريخي المختزن في الذاكرة الجماعية لبعض العصور القديمة( الثالوث القديم) (الزوج والزوجة والعشيق)؛ للتعبيرعن ذاته في تجسيد حالة الانفصال المجتمعي، والغربة داخل هذا الواقع التي ولدت كما هائلا من التشوه الجسدي تارة ، والتلصص تارة أخرى ، وكأنه انصهر انصهارا تاما في هذه القصة المستدعاة؛ ليخرجها لنا على لسانه ، ومن خلال نفسه . فسرد القصة بلغة شاعرية تعرض حالة الاستلاب الجماعية الممارسة على المجتمع ، فلا يستطيع أن يحمي مقدراته، فتبقي عرضة للنهب والسلب، وهكذا يكون الجسد موضعا للنهب من خلال أعمال العنف التي تقام عليه، فيتحد الشاعر هنا بأمنحتب الرابع الذي استطاع أن يحقق النصر وحده بعد انفصاله وتمرده على المجتمع ، ليصل إلى حالة من التوحد.وفي نص آخر يقول:
يا أخي في زراعة الموسيقي
“الخنساء ” علقت نعلي في خمارها
وفي فضاء أخف من العزلة
أمسكت ” ديكنسون “بيدي
وبهرنكي وكفافيس إذا يحكمان في الحرث …
إذ نفشت فيه غنم القوم
وكنا …./وكان “بيسوا” يرتق اللاطمانينة ليطمئن أن السماء لم تتخلص تماما .(7)
استطاع الشاعر استلهام التراث الديني في “وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ” هنا تناص معاكس للخطاب الديني من أجل إثبات الفكرة التي يريد الشاعر توصيلها للقارئ بكل التقنيات؛ حيث يستشف الوعي من بهرنكي(سليمان) الأصغر الذي فهم الموقف ووعاه أكثر من كفافيس الأكبر (داود)؛ كما أن النص يعج بالمتناقضات المختلفة بين الذات والعالم والآخر، وبين الذات والإبداع والحركات الداخلية التي لا تخلو من الألم، وتدعو المتلقي للتوحد مع الذات المقموعة ؛” بالإضافة إلى أنه يمثل لغة الإشارات الثقافية عبر ثقافات متنوعة من لغة ودين وتاريخ وأسطورة تحرض ذاكرة المتلقي بصورة مباشرة؛ كي تمنحه هذه الدلالات أفقا معرفيا أكثر، واختراقا لحدود محيطه إلى محيطات أخرى يمكن أن تكون شرارة تشتعل داخله، فيعتمد على شخصيات عالمية؛ ليعبر عن حالات من الحب والتمرد ، تمنحه بعدا معرفيا قوامه العقل ، ولكنها لا تقدر على ما يماثل ذلك في الوجدان (8)، فيستعين بالعالم كله ليؤازره في خلاصه. و يقول “يوسف مسلم ”
” ناي القصيدة نازف
تماما مثل بهية في المنفي ،
كلما اشتهت سيجارة يوهجها هواء النيل.
قد أضحك بملل وأهمس:
ناي القصيدة أحمق ،
ترك بحتة للملوك الذين دخلوا قريته فأفسدوها (9)
فالناي هنا موازي للذات الشاعرة، وبهية موازية للوطن، والذات داخل هذا الوطن في عزلة ومنفي من جراء ما يحدث داخل هذا الواقع من خلال استلهام النص الديني في دخول الملوك للقرية، وإفسادها ، ولكن الشاعر يستلهم القصة في سياق مخالف لطبيعة الزمن الذي يعيش فيه الملوك الحاليين، فيفسدوا في قراهم ، أما الملوك السابقين فيفسدوا في القرى المختلفة من أجل قراهم ؛ حتى وإن لم يكن هذا مقبول ، وهذا ما جسده النص من خلال خروج القصيدة على اللغة المتعارف عليها إلي لغة جديدة تعتمد على التكثيف والدرامية ، فيكسر بنية النص، ليجسد حالة الظلم الذى يحدث له من جراء الواقع، فيجعل من هؤلاء الملوك الجبابرة معادلا موضوعيا للنظم الرسمية المتغطرسة التي تفرض سطوتها على الذات. ” فالنص الحداثي ليس إنتاجا يتحصل من جهد المنتج ، بل مسرح إنتاج اللغة ، فهو يفكك لغة الاتصال والتعبير والتمثيل ، ويبقى لغة مختلفة لا حدود لها ، لان مجالها هو لعبة تركيب الكلام التي لا نهاية لها .(10)
. ويقول عادل جلال :
خمس شهور مرت
جعلت العاشق يشبه بالضبط
السفاح “رينو ”
وهو محاط على شكل دائرة بالرماح
لترسم رؤوسها قلادة حول عنقه
مع أنها – هي التي قتلت أسراه
بعد أن استباحت جنوده – وغروره
في غفلة منه
يونيو يضع بيضة آلامه
على يديه ويوصيه عليها كابنته
وقبل أن يرحل يشدد عليه
بالحنان وهو يتركه في الصحراء
يصرخ وحده (….أريد ماء….)
أنا الأمير سنوحي
أيها السفاح رينو
أنا منحتك الحياة
يبتسم رينو وأنا منحتك الموت
(11)
الشاعر هنا يجعل الفضاء الورقي بمثابة خشبة مسرحية يعرض عليها الأدوار؛ ليخلخل بنية النص عن طريق استلهام التراث في التناص القصصي لقصة سنوحي التي يستلهما عبر بناء فني مواكب للحالة الاجتماعية والزمنية للنص، فيعرض من خلال هذه القصة فكرة الصراع بين( الحياة والموت- والخيانة والأمانة ) وكلها أطراف الحياة التي نعيش فيها ، فيقوي الصراع عبر حركية النص الدرامية بإتاحة الفرصة للأشخاص بالتحدث والنطق كما في (حديث سنوحي لرينو )؛ ليصل إلى معادلة الطرفين في المنح ،”فثقافة الجملة الشعرية تكتسب طابعها الحيوي داخل البنية التركيبية من خلال طبيعة التشكيل المميز ضمن السياقات النصية ، ونتيجة لتعدد إمكانات التشكيل والمعالجة ضمن نظام اللغة ، فإن ذلك يتيح للشاعر أن يخلق لغته على وفق متطلبات التجربة الشعرية ، ويتمكن من ممارسة الإبداع الفردي ما يميزه عن الإبداع الجماعي “لأن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة وظيفية، أو نفعية أما الذاكرة الفردية ، فهي شاعرية ترتبط بشيء حميم ، ونحن إلى المكان الحميم الذي توقظ زيارته الواقعيةـ أو المتخيلة كل ما في الزمن الماضي من جمال”(12). وهذا ما جسده النص من مسرحة الحالة الشعرية من خلال الصور والمواقف والرؤى الدرامية التي تتحدث داخل النص ؛ فتجعل من الصحراء فضاءً للحديث الدرامي عن طريق الأداء الحركي للشخصيات (رينو – سنوحي – المجندة) والوثبات الزمانية (الشهور ) والمكانية والعناصر البصرية (عبر الابتسامة) والسمعية والحوارية (الكلام )؛ فتتواشج كل هذه العناصر لصياغة بنية درامية مكثفة تثري النص الشعري وتمنحه التجدد مع كل قراءة .ويقول في نص آخر
على يديك مارس
صار مقاتلا عجوزا
مارس سيترك الحرب
ويصبح البستاني الجميل
الذى يحارب بعضه بعضا ….
بعضا لشوق إليك وبعضا ….
وسيغير اسمه آيضا
ليصبح مثلا – غير آزار – المغني العجوز. (11).
البنية الزمانية في النص تشير إلى دلالات عدة، دلالة حالية معاصرة لهذا الشهر في كل زمان ، وتشير إلى زمن سحيق عبر الأسطورة التي يرمز لها الشاعر من خلال دالة مارس، فهي تشير إلى آلهة الحرب المقاتلة من آجل النماء الحياتى ، فيبني الشاعر صياغته الفنية اللغوية ليقيم مفارقة مشهدية لواقع المرآة وواقع مارس (آلهة الحرب ) بين الرجل والمرأة، فهو معلن الحرب عليها، وكأنه يقدم لها حالة من التسامح عبر تخليه عن الحرب واتباعه للغناء ، فهذا النص يعرض حالة المرآة التي تتكئ على فعل الخصوبة والنماء إلى طبيعة فيها من خلق المشاكل ونشر الوحدة والغربة ، فكأن النص يقدم حالة مغايرة يريد أن تكون عليها المرأة ، أو الذات من خلال حبها للسلام، وتركها للحرب، فالنماء لا يأتي إلا من السلام ، وهذا يجسد من خلاله الشاعر الواقع المعاش الذي أصبح يمثل حربا نفسية داخلية، وحربا خارجية في مواجهة العالم الآخر، فيقدم هذا النص متشبسا به لحالة من الحلم يراقب بها الذات داخليا وخارجيا، فاستطاع من خلال بنية النص الرمزية تكوين معجم شعري عشتاري – من خلال عملية النمو والاخضرار- مرتبطا برمز مارس ، فمن قصيدة مارس حضرت تجليات الرمز الآزاري في صور الاخضرار الكوني التي تكثف جدلية ( الحياة والموت والانبعاث) ، وتطرح أسئلة الفناء والخلود ، فالعودة إلى التراث الأسطوري يوحي بتشرب الشاعر لتاريخ تلك الحضارات من جهة، و يشئ من جهة أخرى على وحدة التجربة الانسانية ما يؤسس بفكرة مشروعية الدفاع عن الأرض والتاريخ ، والذات والحرية ، بالإضافة إلى عمق الوجود التاريخي الضارب في القدم للذات التي تتكلم في القصيدة، فتنتقل دلالة الأرض من حيز الضيق إلى حيز أوسع ، وما ينتج عنها من أماكن محفورة في الذاكرة عن طريق العودة إلى التاريخ القديم المتناقل عبر الاجيال منذ الزمن الأول حتي الراهن، فالصورة الشعرية في هذا النص لا تقدم نفسها فقط ؛ بل تقود إلى رسم طقوس، وأجواء تتشكل بين الواقع والمتخيل، فهى تصوير على تصوير يقترن بزمن مهما حاول التوغل في التجريد ، فيعبر التصوير عن حالة عقلية، ووجدانية ، فتتحرك اللغة الشعرية من خلال صهر الزمن في كتلة واحدة ، فيصير لها قدرة على تمرير الأحوال على أي زمن ، فيتحول التاريخ والوا قع والمستقبل إلى لحظة واحدة داخل الواقع دون أن ينقص منه شيء ، بل يزيده جوهرية ، فالشاعر ينفلت من المعنى الدلالي للحروف؛ لتأخذ هذه الأشهر دلالات آخرى غير الدلالات المعروفة لها من الناحية الحسابية والناحية اللغوية، فالصورة الشعرية والدلالات التركيبية تعد محفزا لتجاوز المعنى السطحي ورؤية الأشكال بعين الرؤيا التي تحتاج إلى لغة أعمق من لغة الواقع المباشرة ، ” فالرؤيا الشعرية تؤسس عالم التخييل الذي يتيح للقارئ رؤية ما لا يرى على سطح النص، والتي تستشف ما وراء الواقع . القوة التي تطل على الغيب وتعانقه …فبالحضور تصبح القصيدة جسرا يربط بين الحاضر والمستقبل …والواقع، وما وراء الواقع” (13)
.ويقول “يوسف مسلم ”
تعويذو المغادر
خارجا مني
إليك !
أخلف على السلك الشائك ،
بعضا من لحمي ودمي ،
قبلة لجنون الذكرى ، يحج إليها المتعبون .
سأخبئ في خاصرتي
أحد عشر كوكبا ، والشمس والقمر ،
على جثتي راقصين .
وأصرخ :
أكلما نظرت في عينيك
أرى نعشي
هائما في البلاد ؟! “(9).
النص يشئ بحالة مأسوية للذات الشاعرة في ضيقها والألم الذي حاصرها، فيستلهم النص القرآني” إني رأيت أحد عشر كوكبا” لينقلنا إلى حالة من الموازة بين الأمل والألم. الأمل الذي لقاه يوسف من رؤيته لسجود الشمس والقمر، وبين الكواكب التي تبرز العالم الفيزيائي حول الشاعر، فيخبئ أحد عشر خنجرا، والخنجر أدة للقتل- للحرب و(الشمس والقمر) يرقصان على الجثة، فالشاعر داخل الواقع والوطن الضائع أصبح جثة ، فيحاور الوطن (نون) الأرض الضائعة التي لم تجبه ، وتترك العين للإفصاح عما بداخلها فلا يرى داخل العينين إلا النعش( التشرد – المر – القوس )، ثم يستعين بالرموز التي تعينه في الصبر على البلاء في استلهامه لقصة يونس؛ ليحسد حجم الألم والبلاء الذي أصاب الذات، ومن خلال العودة إلى التراث يرجع الشاعر إلى( قصة يوسف ) لاستجماع القصة أمام عين القارئ ، فإذا كانت الذات الشاعر في شعر الحداثة تنتهي بوجودها على الورق، فالشاعر هنا من خلال الاسم يمتد بوجوده داخل الديوان فلا ينفك عنه؛ ليتخذ من الاسم امتدادا له على الورق، وفي الوجود بينه وبين يوسف، وكأن الشاعر ينفي فكرة الحلم الذي يعاد مرة أخرى، فالشاعر في حالة من الحلم، فما بعد الحلم ؟ فيرجع إلى قصة يوسف ليتناص مع الرؤيا، فتتعمق هذه الرؤيا من خلال الصورة الدرامية بين الذات وبين الذئب ، فالذئب لم يكلم يوسف داخل القصة لأنه برئ، أما الذئب في نص( يوسف مسلم ) يأخذ وجودا داخل الرؤيا فيندم على عدم قتله حتى لا يشع الحلم داخل الواقع، فيستمر الشاعر في مقاومه هذا الواقع متجها ناحية الحلم ، فيتخلص من الزمان والمكان الواقع، خارجا إلى الفضاء المتحرر داخل البناء الحلمي السريالي ؛ ليمارس غواياته في صياغة تركيبة تعتمد على الخيال والتشكيل اللغوي عن طريق استخدام التراث، وإلباسه أقنعة بدلا من المباشرة في التعبير ليعمق الدلالة النفسية للذات .
الهوامش
- محمد علي كندي ، الرمز والقناع في الشعر العربي الحديث (السياب ونازك والبياتي) ص 8
- الرواية والتراث العربي قراءة في روايات جمال الغيطاني وجيه يعقوب الثقافة الجديدة عدد 51ص51
- أدنيس فاتحة لنهابات القرن – دارالعودة – بيروت ط1 1 1989-3144-125-126.
- عبد الواسع الحميري الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،ط (1999-1419)ص 70
- وحدها في الغرفة ،د سيد عبد الرازق، وكالة أمواج للإعلان ،ط1 ،2016.ص73.
- هشام محمود ،شئ كالكتابة،ط 2015
- – عبد الرحمن تمام ،العصافير في الانستجرام قاسية ،مؤسسة نور للثقافة والفنون ،
- أحمد زياد محبك : قصيدة النثر ،اتحاد كتاب العرب بدمشق ط،2007.
- يوسف مسلم سيرة شاعر يموت شاهرا إصبعه الأوسط في وجه العالم ، مؤسسة نور للثقافة والفنون ط 2017.
- د شكري عزيز ماضي :من إشكاليات النقد العربي الجديد (البنيوية –النقد الإسطوري –مورفولوجيا السرد -ما بعد البنيوية )ط11997-المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
- رجاء علي :جماليات الحداثة الشعرية هاني الصلوي أنموذجا .ط1،2014 مؤسسة الرحاب الحديثة ،بيروت لبنان ، ص 79.
- عادل جلال :كلهم مدعوون هناك إلا …….أبي ،شعر عادل جلال ،ط1؛2005.
- أدونيس مقدمة للشعر العربي ،ط3، بيروت 1979.